تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 81-83)
قال تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 81 – 83].
تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
لما تقدم ذكر النبيين، عقبه سبحانه بذكر نبينا، وما أخذ من عهده عليه أجمعين، فقال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} العامل في (إذ) محذوف، وتقديره واذكر إذ أخذ الله. وقيل: هو عطف على ما تقدم من قوله: {وإذ قالت الملائكة} وروى عن أمير المؤمنين عليه السلام وابن عباس وقتادة أن الله أخذ ميثاق على الأنبياء قبل نبينا ” صلى الله عليه وآله وسلم “، أن يخبروا أممهم بمبعثه ونعته، ويبشرهم به، ويأمرهم بتصديقه. وقال طاووس: أخذ الله الميثاق على الأنبياء ” عليهم السلام على الأول والآخر، فأخذ الله ميثاق الأول لتؤمنن بما جاء به الآخر. وقال الصادق: تقديره وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين، بتصديق نبيها، والعمل بما جاءهم به ، وأنهم خالفوهم فيما بعد، وما وفوا به، وتركوا كثيرا من شريعته، وحرفوا كثيرا منها.
وقوله: {لما آتيتكم} بفتح اللام إذا كانت (ما) موصولة فتقديره للذي آتيتكموه أي: أعطيتكموه {من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول} أي: نبي. وقيل: يعني محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم ” {مصدق لما معكم} أي: لما آتيتكم من الكتب. {لتؤمنن به} أي:
لتؤمنن بالرسول ولتنصره، أو يريد: لتؤمنن بالذي آتيتكموه، ولتنصرن الرسول.
وعلى هذا يكون المعنى أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء، ليصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، ويكون النصرة بالتصديق والحجة، وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وطاووس.
وإذا كانت (ما) للجزاء فتقديره: أي شئ آتيتكم، ومهما آتيتكم من كتاب، لتؤمنن. فالشرط: ايتاؤه إياهم الكتاب والحمة، ومجئ الرسول. والجزاء:
القسم والمقسم عليه، وهو قوله {لتؤمنن به} فأغنى جواب القسم عن الجزاء، كقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. وقوله {من كتاب} (من) هذه لتبيين لما نحو قولك: ما عندك من ورق وعين، وهذا خاتم من فضة. ويكون على هذا تقديره: إن الله تعالى قال لهم: مهما أوتيتم كتابا وحكمة، ثم يجيئكم به رسول مصدق لما معكم من ذلك الكتاب والحكمة، والله لتؤمنن به، ولتنصرنه. فأقروا بذلك، وأعطوا عليه مواثيقهم. وهذا أشبه بما ذكر أن الميثاق أخذ على الأنبياء ليأخذوا على أممهم بتصديق محمد إذا بعث، ويأمروهم بنصرته على أعدائه، إن أدركوه، وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي واختار أبوا علي الجبائي، وأبوا مسلم، ويكون معنى قوله: {جاءكم} جاء أممكم وأتباعكم. وإنما خرج الكلام على النبيين لأن ما لزمهم لزم أممهم. ومن قرأ {لما آتيتكم} بكسر اللام.
فالمعنى أخذ الله ميثاقهم لما أتوه أي: لأجل ما أوتوه من الكتاب والحكمة، ولأنهم الأفاضل، وخيار الناس. ويكون اللام للتعليل، فيقضي أن يكون الإيتاء سابقا لأخذ الميثاق. وقوله {لتؤمنن}: متعلق بأخذ الميثاق، وهو في الحاصل راجع إلى معنى الشرط والجزاء.
وقوله: {ولتنصرنه} أي: البشارة للأمم به قال، أي: قال الله لأنبيائه:
{أأقررتم} به وصدقتموه {وأخذتم على ذلك إصري} معناه: وقبلتم على ذلك عهدي، ونظيره: {فإن أوتيتم هذا فخذوه}. وقيل: معناه وأخذتم العهد بذلك على أممكم {قالوا} أي: قال الأنبياء وأممهم {أقررنا} بما أمرتنا بالإقرار به {قال} الله {فاشهدوا} بذلك على أممكم {وأنا معكم من الشاهدين} عليكم، وعلى أممكم، عن علي. وقيل: فاشهدوا أي: فاعلموا ذلك أنا معكم أعلم، عن ابن عباس.
وقيل: معناه ليشهد بعضكم على بعض. وقيل: قال الله للملائكة: اشهدوا عليهم.
فيكون ذلك كناية عن غير مذكور، عن سعيد بن المسيب.
وهذه الآية من مشكلات آيات القرآن، وقد غاص النحويون في وجوه إعرابها وتحقيقها، وشقوا الشعر في تدقيقها، ولا تراها في موضع أوجز لفظا، وأكثر فائدة، وأشد تهذيبا مما ذكرته هنا، وبالله التوفيق. {فمن تولى بعد ذلك} أي: فمن أعرض عن الإيمان بمحمد بعد هذه الدلالات والحجج، وبعد أخذ الميثاق على النبيين الذين سبق ذكرهم، والمقصود بهذه الأمم دون النبيين، لأنه قد مضى أزمانهم، وجاز ذلك، لأن أخذ الميثاق على النبيين يتضمن الأخذ على أممهم. وقد روي عن علي ” عليه السلام ” أنه قال: لم يبعث الله نبيا، آدم ومن بعده، إلا أخذ عليه العهد: لئن بعث الله محمدا وهو حي، ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره بأن يأخذ العهد بذلك على قومه. {فأولئك هم الفاسقون} ولم يقل الكافرون، لأن المراد الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتب الكفر، بتمردهم، وذلك أن أصل الفسق: الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه. وفي الكفر ما هو أكبر، وما هو أصغر بالإضافة إليه.
لما بين سبحانه بطلان اليهودية، وسائر الملل غير الاسلام، بين عقيبه أن من يبتغي غير دينه فهو ضال، لا يجوز القبول منه فقال: {أفغير دين الله يبغون} أي: أفبعد هذه الآيات والحجج، يطلبون دينا غير دين الله {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} قيل فيه أقوال:
أحدها: إن معناه أسلم من في السماوات والأرض بحاله الناطقة عنه، الدالة عليه عند أخذ الميثاق عليه، عن ابن عباس وثانيها: أسلم أي: أقر بالعبودية، وإن كان فيهم من أشرك بالعبادة، كقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ومعناه: ما ركب الله في عقول الخلائق من الدعاء إلى الإقرار له بالربوبية ليتنبهوا على ما فيه من الدلالة، عن مجاهد، وأبي العالية وثالثها: أسلم المؤمن طوعا وكرها، والكافر كرها عند موته، كقوله: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} عن قتادة، واختاره البلخي، ومعناه التخفيف لهم من التأخير عما هذه سبيله ورابعها: إن معناه استسلم له بالانقياد والذكر (2) كقوله: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} أي استسلمنا، عن الشعبي والجبائي والزجاج. وخامسها: إن معناه أكرم أقوام على الاسلام، وجاء أقوام طائعين، عن الحسن، وهو المروي عن أبي عبد الله، قال: كرها أي: فرقا من السيف. وقال الحسن والمفضل: الطوع لأهل السماوات خاصة. وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا، ومنهم من أسلم كرها.
{وليه ترجعون} أي: إلى جزائه تصيرون، فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الاسلام.
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص332-337.
2- وفي بعض النسخ الخطية: ” المذلة ” بدل ” الذكر “، وهو الظاهر، وفي التبيان: ” الذلة “.
تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
بين النبي والمصلح :
لا فرق بين النبي والمصلح من حيث الصدق في النية ، والإخلاص في العمل ، ويفترق النبي عن المصلح بأن النبي لا يخطئ ، لأنه يقول ويفعل بوحي من اللَّه ، أما المصلح فيعتمد على نظره واجتهاده ، والمجتهد يخطئ ويصيب ، ومن ثم أمكن الاختلاف بين المصلحين في الاجتهاد ووجهة النظر ، وصح نفي المسؤولية عن المخطئ ، أما الاختلاف بين الأنبياء فمحال ، لأنهم جميعا يعتمدون على مصدر واحد ، وهو الوحي الذي يوجه الجميع ، فالأنبياء أشبه بموظفي الدولة لتبليغ أوامرها إلى الرعايا والمواطنين .
ويترتب على هذا ان اللَّه إذا بعث نبيين إلى أمة واحدة ، وفي عصر واحد فإنهما يكونان متفقين في كل شيء ، كما حدث لموسى وهارون ( عليهما السلام ) ، وإذا اختلف زمن الأنبياء وتعدد فإنهم متفقون جميعا ، من حيث الفكرة والمبدأ ، بخاصة في الأصول الأساسية ، كالإيمان باللَّه واليوم الآخر ، وان كان هناك من اختلاف فإنما هو في الشكل ، وفي الأحكام العملية التي تستدعيها بعض الظروف والملابسات . .
حتى هذه يعترف جميع الأنبياء بأنها صدق وحق ، وضرورية في حينها ، وعليه فلا اختلاف بين الأنبياء إطلاقا . . ومن أجل هذا صدّق كل نبي ما جاء به الآخر متقدما عليه كان أو متأخرا عنه .
وتسأل : من الممكن أن يصدّق اللاحق السابق ، بل ان ذلك واقع بالفعل ، فها نحن نؤمن بنبوة عيسى ومحمد ( صلى الله عليه واله ) . . وآمن إبراهيم بما جاء به نوح ، وموسى بما جاء به الاثنان ، وعيسى بما جاء به الثلاثة ، وآمن محمد ( صلى الله عليه واله ) بالجميع . .
ان هذا معقول جدا ، ولكن كيف يعقل ان يؤمن السابق بمن لم يوجد بعد ؟ .
الجواب : ان اللَّه سبحانه يوحي إلى النبي السابق بأنه سيرسل بعده نبيا اسمه وصفاته كذا ، وان على السابق أن ينوّه باللاحق ، ويبلَّغ الجيل الذي هو فيه من أمته ، حتى يبلغ الجيل الذي يليه ، وهكذا فإذا أتى اللاحق وجد السبيل ممهدا لتصديقه والايمان برسالته . . ذكرنا هذه الفقرة تمهيدا وتيسيرا لفهم الآيات التالية .
تضامن الأنبياء :
{ وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ } . المفهوم من دلالة السياق ان المراد بالنبيين هنا الأنبياء والأمم التابعة لهم ، لا الأنبياء وحدهم ، والمراد بالرسول خصوص محمد ( صلى الله عليه واله ) كما في الآية 101 من سورة البقرة : { ولَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ } .
والمعنى ان اللَّه سبحانه بعد أن بيّن للأنبياء ، والأمم التابعة لهم الدين أصولا وفروعا أخذ عليهم جميعا عهدا بأن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه واله ) ويناصروه ، كما انه هو بدوره يصدّق من سبقه من الأنبياء ، وما تركوه من الكتب ، كالتوراة والإنجيل .
ثم ان أخذ اللَّه سبحانه الميثاق من الأنبياء انما يكون بطريق الوحي إليهم ، أما أخذه تعالى الميثاق من الأمم التابعة للأنبياء فيكون بواسطة الأنبياء ، أي ان كل نبي يأخذ الميثاق من علماء أمته أن يؤمنوا بمحمد ويناصروه ، وبتعبير أدق ان أخذ الميثاق على المتبوع يلزمه حتما أخذه على التابع ، وإذا وجب على النبي أن يؤمن بمحمد وجب ذلك على اتباعه بطريق أولى ، ومعنى ايمان الأنبياء بمحمد ومناصرته ، أن يعتقدوا بأنه آت من بعدهم ، وأن يبشروا بذلك ، قال تعالى :
{ وإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ – 6 الصف } . وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ما بعث اللَّه نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد ( صلى الله عليه واله ) وأمره أن يأخذ العهد على قومه فيه ، بأن يؤمنوا به ، ويناصروه إذا أدركوا زمانه .
ومعنى ايمان أمم الأنبياء بمحمد ( صلى الله عليه واله ) ومناصرتهم له ان يصدقه علماؤهم ورؤساء أديانهم ، ويعلنوا لمن يثق بهم ان محمد بن عبد اللَّه هو النبي الذي بشر به الأنبياء ، وجاء اسمه في الكتب السماوية ، بحيث ينطبق عليهم قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ – 157 الأعراف } .
ولا يحرفون كلام اللَّه كفرا وعنادا له ولمحمد ( صلى الله عليه واله ) ، كما أخبر عنهم سبحانه في الآية 75 من سورة البقرة : { وقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وهُمْ يَعْلَمُونَ } .
{ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا } . الاستفهام هنا للتقرير والتوكيد ، والإصر الميثاق ، والمعنى ان اللَّه قال للأمم بلسان أنبيائهم : أأقررتم بمحمد وقبلتم العهد ؟ قالت الأمم : نعم ، أقررنا بوجوب الإيمان به وبمناصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه ، والمراد بالأمم رؤساء الأديان وعلماؤهم العارفون بالكتب
السماوية . { قالَ فَاشْهَدُوا } . أي قال اللَّه بلسان أنبيائه للأمم : ليشهد بعضكم على بعض بأنه أقر بنبوة محمد ( صلى الله عليه واله ) ووجوب مناصرته . { وأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } .
ان اللَّه وملائكته وأنبياءه يشهدون على أخذ هذا الميثاق من علماء الأديان وإقرارهم به . . ولكن برغم ذلك فقد أنكر أحبار اليهود والنصارى هذا الميثاق ، وكذبوا محمدا ، ونصبوا له المكائد والمصائد ، كما سبق ذلك مفصلا فيما تقدم من الآيات .
{ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ } . أي من أعرض عن الايمان بمحمد بعد أخذ الميثاق عليه ، والإقرار بمحمد ووجوب مناصرته { فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ } . المراد بالفسق هنا الكفر ، لأن كل من حرّف آية من كتاب اللَّه ، أو أنكر نبيا من أنبياء اللَّه على علم منه بنبوته فهو كافر .
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ولَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ طَوْعاً وكَرْهاً } .
الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ ، والمراد بالإسلام الانقياد والخضوع . وكل الناس تؤمن باللَّه من غير فرق بين الصالح والطالح ، سوى ان الصالح يؤمن باللَّه طوعا في هذه الحياة ، والطالح يؤمن به كرها يوم القيامة ، حيث ينكشف الغطاء ، ويرى كل جاحد البأس والعذاب وجها لوجه ، قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ – 84 غافر } .
وهذا المعنى الذي فسّرنا به طوعا وكرها لا يصعب على أحد فهمه وهضمه مهما كان مستواه . . ولكن الرازي فسّر ( طَوْعاً وكَرْهاً ) تفسيرا فلسفيا على طريقته ، وما قاله قريب الا انه للخاصة ، لا للعامة ، وننقله لأولئك لا لهؤلاء ، قال :
« ان كل ما سوى اللَّه سبحانه ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد الا بإيجاده ، ولا يعدم الا بعدمه ، فإذن ، كل ما سوى اللَّه منقاد خاضع لجلال اللَّه في طرفي وجوده وعدمه ، وهذا نهاية الانقياد والخضوع » .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص97-101.
تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الايات (1) :
الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها والسياق سياق واحد مستمر جار على وحدته وكأنه تعالى لما بين أن أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حملوه من علم الكتاب والدين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيين وإنكار آيات نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونفي أن يكون نبي من الأنبياء كموسى وعيسى (عليهما السلام) يأمرهم باتخاذ نفسه أو غيره من النبيين والملائكة أربابا على ما هو صريح قول النصارى، وظاهر قول اليهود.
شدد النكير عليهم في ذلك بأنه كيف يتأتى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من النبيين أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم ممن تقدمهم أو تأخر عنهم وينصروه، وذلك بتصديق كل منهم لمن تقدم عليه من الأنبياء، وتبشيره بمن تأخر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام) لموسى وشريعته، وتبشيره بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من أممهم وأشهدهم عليهم، وبين أن هذا هو الإسلام الذي شمل حكمه من في السماوات والأرض.
ثم أمر نبيه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، وأن يسلم لله سبحانه، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن أمته، وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن أمته بواسطته كما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه}، الآية تنبىء عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيين كما يدل عليه قوله تعالى: {ثم جاءكم رسول} “الخ” كما أنه تعالى أخذه من النبيين على ما يدل عليه قوله: {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} “الخ”، وقوله بعد: {قل آمنا بالله} إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذا من غيرهم أيضا بواسطتهم.
وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: {ميثاق النبيين} الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد، وبعبارة أخرى يجوز أن يراد بالنبيين، المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلا أن سياق قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله} إلى آخر الآيتين في اتصاله بهذه الآية يؤيد كون المراد بالنبيين هم الذين أخذ منهم الميثاق فإن وحدة السياق تعطي أن المراد: أن النبيين بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالأنسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيين.
وقوله: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة} القراءة المشهورة، وهي قراءة غير حمزة بفتح اللام والتخفيف في لما وعليها فما موصولة وآتيتكم، – وقرأ آتيناكم – صلته، والضمير محذوف، يدل عليه قوله: {من كتاب وحكمة}، والموصول مبتدأ خبره قوله: {لتؤمنن به} “الخ” واللام في لما ابتدائية، وفي لتؤمنن به لام القسم، والمجموع بيان للميثاق المأخوذ، والمعنى: للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتة.
و يمكن أن يكون ما شرطية وجزاؤها قوله لتؤمنن به، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، وهذا أحسن لأن دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر، والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف، وأما قراءة كسر اللام في “لما” فاللام فيها للتعليل وما موصولة، والترجيح لقراءة الفتح.
و الخطاب في قوله: آتيتكم، وقوله: جاءكم، وإن كان بحسب النظر البدوي للنبيين لكن قوله بعد: {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري}، قرينة على أن الخطاب للنبيين وأممهم جميعا أي أن الخطاب مختص بهم وحكمه شامل لهم ولأممهم جميعا فعلى الأمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيين أن يؤمنوا وينصروا.
و ظاهر قوله: ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، التراخي الزماني أي إن على النبي السابق أن يؤمن وينصر النبي اللاحق، وأما ما يظهر من قوله: {قل آمنا بالله} “الخ” أن الميثاق مأخوذ من كل من السابق واللاحق للآخر، وأن على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيء إن شاء الله العزيز.
وقوله: لتؤمنن به ولتنصرنه، الضمير الأول وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبي لنبي آخر، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، لكن الظاهر من قوله: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم} “الخ”، رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة، ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول، والمعنى لتؤمنن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرن الرسول الذي جاءكم مصدقا لما معكم.
قوله تعالى:{ قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا}، الاستفهام للتقرير، والإقرار معروف، و- الإصر – هو العهد، وهو مفعول أخذتم، وأخذ العهد يستلزم مأخوذا منه غير الأخذ وليس إلا أمم الأنبياء، فالمعنى أ أقررتم أنتم بالميثاق، وأخذتم على ذلكم عهدي من أممكم قالوا: أقررنا.
وقيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: {وأخذتم على ذلكم إصري} عطف بيان لقوله أقررتم، ويؤيده قوله: قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب، وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدى الأنبياء إلى غيرهم من الأمم ويبعده قوله: قال فاشهدوا، لظهور الشهادة في أنها على الغير، وكذا قوله بعد: قل آمنا بالله “الخ” من غير أن يقول: قل آمنت فإن ظاهره أنه إيمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل نفسه وأمته إلا أن يقال: إن اشتراك الأمم مع الأنبياء إنما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: فاشهدوا، وقوله: قل آمنا بالله، من غير أن يفيد قوله: وأخذتم، في ذلك شيئا.
قوله تعالى: {قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}، ظاهر الشهادة كما مر أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء وأممهم جميعا، ويشهد لذلك كما مر قوله: قل آمنا بالله، ويشهد لذلك السياق أيضا، فإن الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنها تحتج عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى (عليهما السلام) وغيرهما كما يدل عليه قوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون}، وغيره.
وربما يقال: إن المراد بقوله: فاشهدوا، شهادة بعض الأنبياء على بعض كما ربما يقال: إن المخاطبين بقوله: فاشهدوا، هم الملائكة دون الأنبياء.
و المعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أن اللفظ غير ظاهر في شيء منهما بغير قرينة، وقد عرفت أن القرينة على الخلاف.
ومن اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} – إلى قوله: – {ثم جاءكم رسول}، وقد مر في ذيل قوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] ، الفرق بين النبوة والرسالة وأن الرسول أخص مصداقا من النبي.
فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.
وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أن المحصل من معنى الآية أن الميثاق مأخوذ من عامة النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، أي إن الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء، وهو ظاهر.
فمحصل معنى الآية على ما مر: أن الله أخذ الميثاق من الأنبياء وأممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن بما آتاهم وينصرن الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخر للمتقدم والمعاصر، وبشارة من المتقدم بالمتأخر وتوصية الأمة، ومن الأمة الإيمان والتصديق والنصرة، ولازم ذلك وحدة الدين الإلهي.
وما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالآية أن الله أخذ الميثاق من النبيين أن يصدقوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبشروا أممهم بمبعثه، فهو وإن كان صحيحا إلا أنه أمر يدل عليه سياق الآيات كما مرت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوة والعناد والعتو مع صريح الحق.
قوله تعالى: {فمن تولى بعد ذلك} “الخ” تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور، والمعنى واضح.
قوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم}، تفريع على الآية السابقة المتضمنة لأخذ ميثاق النبيين، والمعنى فإذا كان دين الله واحدا وهو الذي أخذ عليه الميثاق من عامة النبيين وأممهم وكان على المتقدم من الأنبياء والأمم أن يبشروا بالرسول المتأخر ويؤمنوا بما عنده ويصدقوه فما ذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الذي هو دين الله الوحيد؟ ولذلك لا يصدقونك ولا يتمسكون بدين الإسلام مع أنه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنه الدين الذي يبتني على الفطرة، وكذلك يجب أن يكون الدين، والدليل عليه أن من في السماوات والأرض من أولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.
قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها}، هذا الإسلام الذي يعم من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الذين يذكر أنهم غير مسلمين، ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضي والتحقق لا محالة وهو التسليم التكويني لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبودي، ويؤيده أو يدل عليه قوله طوعا وكرها.
وعلى هذا فقوله: {وله أسلم}، من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبب، وتقدير الكلام: {أفغير الإسلام يبغون}؟ وهو دين الله لأن من في السماوات والأرض مسلمون له منقادون لأمره، فإن رضوا به كان انقيادهم طوعا من أنفسهم، وإن كرهوا ما شاءه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرها من غير طوع.
ومن هنا يظهر أن الواو في قوله: {طوعا وكرها}، للتقسيم، وأن المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم مما يحبونه، وكراهتهم لما أراده فيهم مما لا يحبونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.
قوله تعالى: {وإليه يرجعون} هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام دينا فإن مرجعهم إلى الله مولاهم الحق لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم وشركهم.
____________________
1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 268-290.
تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
الميثاق المقدس :
بعد أن أشارت الآيات السابقة الى وجود علائم لنبيّ الإسلام في كتب الأنبياء السابقين، أشارت هذه الآية إلى مبدأ عام، وهو أنّ الأنبياء السابقين وأتباعهم قد أبرموا مع الله ميثاقاً بالتسليم للأنبياء الذين يأتون بعدهم، وبالإضافة إلى الإيمان بهم، لا يبخلون عليهم بشيء في مساعدتهم على تحقيق أهدافهم. تقول الآية :
{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين…}.
في الواقع، مثلما أنّ الأنبياء والأُمم التالية تحترم الأنبياء السابقين ودياناتهم، فإنّ الأنبياء السابقين والأُمم السابقة كانوا يحترمون الأنبياء الذين يأتون بعدهم. وفي القرآن إشارات كثيرة على وحدة الهدف عند أنبياء الله. وهذه الآية نموذج حيّ على ذلك.
و«الميثاق» من «الوثوق»، أي ما يدعو إلى الإطمئنان به والإعتماد عليه. و «الميثاق» هو الإتّفاق المؤكّد. وأخذ الميثاق من الأنبياء مصحوب بأخذ الميثاق من أتباعهم أيضاً. كان موضوع هذا الميثاق هو أنّه إذا جاء نبيّ تنسجم دعوته مع دعوتهم (وهذا ما يثبت صدق دعوته) فيجب الإيمان به ونصرته.
ثمّ لتوكيد هذا الموضوع جاءت الآية :
{قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] (2).
هل اعترفتم بهذا الميثاق وقبلتم عهدي وأخذتم من أتباعكم عهداً بهذا الموضوع ؟
وجواباً على ذلك {قالوا أقررنا}.
ثمّ لتوكيد هذا الأمر المهمّ وتثبيته يقول الله : كونوا شهداء على هذا الأمر وأنا شاهد عليكم وعلى أتباعكم {قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}.
وفي الآية الأخيرة يذم ويهدد القرآن الكريم ناقضي العهود ويقول :
{فمن تولى بعد ذلك فأُولئك هم الفاسقون}.
فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة ـ أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهو فاسق وخارج على أمر الله تعالى. ونعلم أن الله لا يهدي الفاسقين المعاندين، كما مرّ في الآية 80 من سورة التوبة : {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] ، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة، فإن مصيره إلى النار.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
الإسلام أفضل الأديان الإلهيّة :
مرّت بنا حتّى الآن بحوث مسهبة في الآيات السابقة عن الأديان الماضية. وابتداءاً من هذه الآية يدور البحث حول الإسلام وفيها إلفات لأنظار أهل الكتاب وأتباع الأديان السابقة إلى الإسلام.
تبدأ الآية بالتساؤل : {أفغير دين الله يبغون} أيريد هؤلاء ديناً غير دين الله ؟
وما دين الله سوى التسليم للشرائع الإلهية، هي كلّها قد جمعت بصورتها الكاملة الشاملة في دين نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). فإذا كان هؤلاء يبحثون عن الدين الحقيقي فعليهم أن يسلموا.
{وله أسلمَ مَن في السماوات والأرض}.
يبدأ القرآن بتفسير الإسلام بمعناه الأوسع، فيقول : كلّ مَن في السماوات والأرض، أو جميع الكائنات في السماوات والأرض، مسلمون خاضعون لأوامره {طوعاً وكرهاً}. هذا الإستسلام والخضوع يكون «طوعاً» أو إختيارياً أحياناً، إزاء «القوانين التشريعية»، ويكون «كرهاً» أو إجبارياً أحياناً أُخرى، إزاء «القوانين التكوينية».
ولتوضيح ذلك نقول : إنّ لله نوعين من الأمر في عالم الوجود. فبعض أوامره يكون بشكل (قوانين طبيعية وما وراء طبيعية) تحكم على مختلف كائنات هذا العالم، فهي خاضعة لها خضوع إكراه وليس لها أن تخالفها لحظة واحدة، فإن فعلت ـ فرضاً ـ يكتب لها الفناء والزوال. هذا نوع من «الإسلام والتسليم» أمام أمر الله. وبناءً على هذا فإنّ أشعة الشمس التي تسطع على البحار، وبخار الماء الذي يتصاعد منها، وقطع السحاب التي تتواصل، وقطرات المطر التي تنزل من السماء والنباتات التي تنمو بها، والزهور التي تتفتح لها، جميعها مسلّمة، لأنّ كلاًّ منها قد أسلم للقوانين التي فرضها عليها قانون الخليقة.
والنوع الآخر من أوامر الله هي «الأوامر التشريعية» وهي القوانين التي ترد في الشرائع السماوية وتعاليم الأنبياء. إنّ التسليم أمامها تسليم «طوعي» أو إختياري. فالمؤمنون الذين يسلمون لها إنّما هم وحدهم المسلمون. إنّ مخالفة هذه القوانين والشرائع لا تقلّ ـ على كلّ حال ـ عن مخالفة القوانين التكوينية، لأنّ مخالفتها تبعث على الإنحطاط والتخلّف والعدم.
ولمّا كانت «أسلم» مستعملة في هذه الآية بالمعنى الأوسع للإسلام، أي المعنى الذي يشمل النوعين من أوامر الله، لذلك فهي تقول إنّ فريقاً يسلم طوعاً ـ كالمؤمنين ـ وفريقاً يسلم كرهاً ـ كالكافرين ـ أمام القوانين التكوينية. وهكذا نجد أنّ الكافرين الذين يمتنعون عن التسليم أمام بعض أوامر الله مجبرين على التسليم أمام بعض آخر من أوامر الله. فلماذا إذاً لا يسلمون لجميع قوانين الله ودين الحقّ ؟
هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ذكره كثير من المفسّرين، وإن لم يتعارض مع ما قلناه آنفاً، وهو : أنّ المؤمنين وهم في حال من الرفاه والهدوء يسيرون نحو الله بملء إختيارهم. أمّا غير المؤمنين فلا يسيرون نحو الله إلاَّ عندما تحيق بهم البلايا والمشكلات التي لا تطاق، فيدعونه ويتوسّلون إليه، فمع أنّهم في الظروف العادية يشركون به، فإنّهم في الشدائد والملمّات لا يتوجّهون إلاَّ إليه.
ويتضح ممّا تقدّم أن «مَن» في جملة {من في السماوات والأرض} تشمل الموجودات العاقلة وغير العاقلة، فبالرغم من كونها تستعمل عادة للعقلاء، إلاَّ أنها قد تكون عامّة للتغليب. و «طوعاً» إشارة إلى الموجودات العاقلة المؤمنة، و «كرهاً» إشارة إلى الكفّار وغير العقلاء.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص341-346.
2 ـ الإصر : العهد المؤكّد الذي يستوجب نقضه العقاب الشديد.