قال تعالى : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 93 – 95].
{كل الطعام} أي: كل المأكولات {كان حلا} أي: كان حلالا {لبني إسرائيل} وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم {إلا ما حرم إسرائيل} أي: يعقوب {على نفسه} اختلفوا في ذلك الطعام فقيل: إن يعقوب أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا، فنذر إن شفاه الله أن يحرم العروق، ولحوم الإبل، وهو أحب الطعام إليه، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وقيل: حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدا لله تعالى، وسأل الله أن يجيز له. فحرم الله ذلك على ولده، عن الحسن. وقيل، حرم زائدتي الكبد، والكليتين، والشحوم، إلا ما حملته الظهور، عن عكرمة.
واختلف في أنه كيف حرمه على نفسه فقيل: بالاجتهاد. وقيل: بالنذر.
وقيل: بنص ورد عليه. وقيل: حرمه كما يحرمه المستظهر في دينه من الزهاد، اللذة على نفسه {من قبل أن تنزل التوراة} معناه: إن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل، قبل أن تنزل التوراة على موسى، فإنها تضمنت تحريم بعض ما كان حلالا لبني إسرائيل. واختلفوا فيما حرم عليهم، وحالها بعد نزول التوراة، فقيل: إنه حرم عليهم ما كانوا يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب ” عليه السلام ” عن السدي. وقيل:
لم يحرم الله عليهم في التوراة، وإنما حرم عليهم بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا، وصب عليهم رجزا من الموت، وذلك قوله {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} عن الكلبي. وقيل: لم يكن شئ من ذلك حراما عليهم في التوراة، وإنما هو شئ حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم، وأضافوا تحريمه إلى الله تعالى، عن الضحاك. فكذبهم الله وقال {قل} يا محمد: {فأتوا بالتوراة فاتلوها} حتى يتبين أنه كما قلت، لا كما قلتم {إن كنتم صادقين} في دعواكم. فاحتج عليهم بالتوراة، وأمرهم بالإتيان بها، وإن لم يقرأوا ما فيها. فإن كان في التوراة أنها كانت حلالا للأنبياء وإنما حرمها إسرائيل، فلم يجسروا على إتيان التوراة لعلمهم بصدق النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” وبكذبهم. وكان ذلك دليلا ظاهرا على صحة نبوة نبينا محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم “، إذ علم بأن في التوراة ما يدل على كذبهم من غير تعلم التوراة وقراءتها.
{فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك} أي: فمن افترى الكذب على الله تعالى من بعد قيام الحجة، وظهور البينة. {فأولئك} هم المفترون على الله الكذب، و {هم الظالمون} لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم. وإنما قال {من بعد ذلك}، مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله على كل حال، لأنه أراد بيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه، من كذب فيما ليس بمحجوج فيه، جرى مجرى الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه.
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
ثم بين تعالى أن الصدق فيما أخبر به، فقال: {قل صدق الله} في أن {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} وفي أن محمدا ” صلى الله عليه وآله وسلم ” على دين إبراهيم، وأن دينه الاسلام. {فاتبعوا ملة إبراهيم} في استباحة لحوم الإبل وألبانها. {حنيفا} أي: مستقيما على الدين الذي هو شريعته في حجه، ونسكه، وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي الحنيفية. وقيل: مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق.
{وما كان من المشركين} برأ الله تعالى إبراهيم مما كان ينسبه اليهود والنصارى إليه بزعمهم أنهم على دينه، وكذلك مشركوا العرب. وأخبر أن إبراهيم كان بريئا من المشركين ودينهم. والصحيح أن نبينا ” صلى الله عليه وآله وسلم ” لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم من الأنبياء، ولكن وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال: {فاتبعوا ملة إبراهيم} وإلا فالله تعالى هو الذي أوحى بها إليه، وأوجبها عليه، وكانت شريعة له، وإنما رغب الله في شريعة الاسلام بأنها ملة إبراهيم، لأن المصالح إذا وافقت ما تسكن إليه النفس، ويقبله العقل بغير كلفة، كانت أحق بالرغبة فيها. وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم ” عليه السلام ” فلذلك خوطبوا بذلك.
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص344-346.
بنو إسرائيل والطعام :
{ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ } . لهذه الآية قصة تتلخص بأن أكثر من آية صرحت ان محمدا ( صلى الله عليه واله ) ومن معه هم على ملة إبراهيم ، يؤمنون باللَّه ، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وأسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء . . ومعنى هذا في ظاهره ان كل ما كان حراما في دين هؤلاء الأنبياء فهو حرام في دين الإسلام ، وكان اليهود يعتقدون ان لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة في دين الأنبياء المذكورين ، وقد رأوا محمدا ( صلى الله عليه واله ) يحللها ، مع ان هذا التحليل يتنافى مع قوله : انه على ملة إبراهيم ، وانه يؤمن بما أنزل على إبراهيم ، والأنبياء من بعده .
واعتمادا على هذا الزعم أشاع اليهود وأذاعوا بقصد الطعن والتشكيك في الإسلام ان محمدا يناقض نفسه بنفسه . . يحلل من الطعام ما كان محرما في ملة إبراهيم ،وفي نفس الوقت يدعي انه على ملة إبراهيم . . فرد اللَّه عليهم بقوله : { كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ } . أي ان إبراهيم ومن جاء بعده لم يحرموا لحوم الإبل وألبانها ، بل كل الطعام كان حلا لهم . . واليهود كاذبون مفترون في نسبة التحريم إلى أنبيائهم .
{ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ } . إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ، وكان قد امتنع من تلقائه عن بعض الأطعمة ، لسبب يعود إليه خاصة ، ولم يمتنع عنه ، لأن اللَّه قد حرمه . . بل كما يمتنع أحدنا عن التدخين ، أو غيره لأسباب صحية ، وما إليها . . ولكن جرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما كان قد حرمه هو على نفسه . . وكان ذلك { مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ } ذكر اللَّه سبحانه هذا القيد ، لأنه قد حرّم عليهم أنواعا كثيرة بعد التوراة بسبب الذنوب التي اقترفوها ، كما أشارت الآية 160 من النساء :
{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } أما الأنواع التي حرمت عليهم بعد نزول التوراة فقد جاء ذكرها في الآية 146 من الانعام : { وعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ الْبَقَرِ والْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وإِنَّا لَصادِقُونَ } . والتفصيل في محله .
وتجمل الإشارة هنا إلى ان المسلمين متفقون كلمة واحدة على ان الأصل هو الحل في جميع المأكولات والمشروبات ، حتى يثبت العكس .
{ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } . هذا تحد لليهود ان يحضروا التوراة ، وهي المعتمد عندهم ، أن يحضروها ويقرؤوا نصوصها على الملأ إن كانوا صادقين في دعواهم تحريم لحم الإبل أو غيره . . ولكنهم بعد هذا التحدي تواروا ، ولم يجسروا على إتيان التوراة ، لأنهم على علم اليقين بصدق النبي ، وكذبهم .
{ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ } . أي بعد ظهور الحجة ، وقيام الدليل على الحق .
{ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، لأنهم ضلوا وأضلوا بالإصرار على الباطل ، ومعاندة الحق . { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } . في ان كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل ، وان محمدا رسول اللَّه حقا . { فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ } في استباحة لحوم الإبل وألبانها ( حنيفا ) مستقيما على دين الحق .
ولا بد من الإشارة إلى ان محمدا ( صلى الله عليه واله ) كان على ملة إبراهيم ، وملة جميع الأنبياء في العقيدة وأصولها ، أما شريعته فإنها مستقلة عن كل الشرائع ، مع العلم بأنها جميعا قائمة على المصالح . . ولكن المصالح تختلف باختلاف الظروف والمناسبات . .
واتفاق الشرائع في تحليل الأطعمة لا يستلزم وحدتها من جميع الجهات . . وعلى أية حال ، فإن القصد من الآيات التي شرحناها هو تكذيب اليهود فيما نسبوه إلى الأنبياء من تحريم بعض الأطعمة .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص113-115.
قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة}، الطعام كل ما يطعم ويتغذى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البر خاصة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق، والحل مقابل الحرمة، وكأنه مأخوذ من الحل مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الإطلاق، وإسرائيل هو يعقوب النبي (عليه السلام) سمي به لأنه كان مجاهدا في الله مظفرا به، ويقول أهل الكتاب: إن معناه المظفر الغالب على الله سبحانه لأنه صارع الله في موضع يسمى فنيئيل فغلبه على ما في التوراة وهو مما يكذبه القرآن ويحيله العقل.
وقوله : {إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} استثناء من الطعام المذكور آنفا، وقوله: من قبل أن تنزل التوراة متعلق بكان في الجملة الأولى، والمعنى لم يحرم الله قبل نزول التوراة شيئا من الطعام على بني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه.
وفي قوله تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، دلالة على أنهم كانوا ينكرون ذلك، أعني حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، ويدل عليه أنهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مر ذكره في ذيل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] ، فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
وكذا يدل قوله تعالى بعد : {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا}، أنهم كانوا يجعلون ما ينكرونه من حلية كل الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحل بالحرمة وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربه أن دينه هو ملة إبراهيم الحنيف، وهي ملة فطرية لا إفراط فيها ولا تفريط، كيف؟ وهم كانوا يقولون: إن إبراهيم كان يهوديا على شريعة التوراة، فكيف يمكن أن تشتمل ملته على حلية ما حرمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟.
فقد تبين أن الآية إنما تتعرض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم تعرض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] ، وقوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، وقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وكذا قوله تعالى بعد عدة آيات: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99] – إلى أن قال -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].
وبالجملة يظهر من ذلك أنها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.
وحاصلها: أنه كيف يكون النبي صادقا وهو يخبر بالنسخ، وأن الله إنما حرم الطيبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحل سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرمات محرمة دائما من غير إمكان تغيير لحكم الله، وحاصل الجواب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم من الله تعالى: أن التوراة ناطقة بكون كل الطعام حلا قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل} – إلى قوله -: {إن كنتم صادقين}.
فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنكم المفترون على الله الكذب وأنكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: {فمن افترى} – إلى قوله{ الظالمون}.
وقد تبين بذلك أني صادق في دعوتي فاتبعوا ملتي وهي ملة إبراهيم حنيفا، وذلك قوله تعالى: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم} إلى آخر الآية.
و للمفسرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنهم على أي حال ذكروا أن الآية متعرضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مر.
وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أن الآية متعرضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ، وتقريرها: أن اليهود كأنها قالت: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين بعده – كما تدعي – فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر فتقول: إني أولى به.
ومحصل الجواب: أن كل الطعام كان حلا لعامة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكن بني إسرائيل حرموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي، والسيئات كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ، فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده، ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيئات فكانت سببا للتحريم، وقوله: {من قبل أن تنزل التوراة} متعلق بقوله: {حرم إسرائيل}، ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: {من قبل أن تنزل التوراة} لغوا زائدا من الكلام لبداهة أن يعقوب كان قبل التوراة زمانا فلا وجه لذكره.
هذا محصل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلا أنه قال: إن المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعا من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهلية تفعل ذلك على ما قصه الله تعالى في كتابه.
وقد ارتكبا جميعا من التكلف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه، وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزل التوراة على أنه متعلق بقوله: حرم إسرائيل، مع كونه متعلقا بقوله: كان حلا، في صدر الكلام وقوله إلا ما حرم، استثناء معترض.
ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.
على أن إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزا على حد قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب وبني نزار وبني عدنان لكنه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا أن القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة في غير هذا المورد الذي يدعيانه مع أن بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعا، ومن جملتها نفس هذه الآية: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه}، فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبر عنهم أولا ببني إسرائيل، ثم أردف ذلك بقوله: إسرائيل، مع أن المقام من أوضح مقامات الالتباس، وناهيك في ذلك أن الجم الغفير من المفسرين فهموا منه أن المراد به يعقوب لا بنوه.
ومن أحسن الشواهد على أن المراد به يعقوب قوله تعالى: {على نفسه} بإرجاع ضمير المفرد المذكر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.
قوله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} أي حتى يتبين أن أي الفريقين على الحق، أنا أم أنتم، وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى:{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون}، ظاهره أنه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن أعداءه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله، وتعريض لليهود، والكلام يجري مجرى الكناية.
وأما احتمال كون الكلام من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: {من بعد ذلك}، وعلى هذا أيضا يجري الكلام مجرى الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] ، والمشار إليه بذلك هو البيان والحجة.
وإنما قال: {من بعد ذلك} مع أن المفتري ظالم على أي حال لأن الظلم لا يتحقق قبل التبين كما قيل، والقصر في قوله: فأولئك هم الظالمون قصر قلب على أي حال.
قوله تعالى :{ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا }”الخ” أي فإذا كان الحق معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتبعوا ديني واعترفوا بحلية لحم الإبل وغيره من الطيبات التي أحلها الله، وإنما كان حرمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.
فقوله: فاتبعوا “الخ” كالكناية عن اتباع دينه، وإنما لم يذكره بعينه لأنهم كانوا معترفين بملة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفا فطريا لأن الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيبات من اللحوم وسائر الرزق.
____________________
1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 297-299.
صرحت الآية الأُولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كلّ المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ (2) عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}.
أما لماذا حرّم يعقوب على نفسه بعض الأطعمة ؟ وما هو نوع الأطعمة التي حرمها على نفسه فلم يرد في الآية أي توضيح بشأنها، بيد أن المستفاد من الروايات الإسلامية هو أن يعقوب كان ـ كما قيل ـ كلّما أكل من لحم الإبل أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النساء(3) فعزم إن شفاه الله على أن يحرم لحم الإبل على نفسه، فاقتدى به أتباعه في هذا، حتّى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنه تحريم إلهي، فاعتبروا ذلك حكماً ونسبوه إلى الله، وادعوا بأنه حرم عليهم لحم الإبل، فنزلت الآية تفند هذا الزعم ببيان علّة الإلتباس، وتصرّح بأن نسبه هذا التحريم إلى الله سبحانه محض إختلاق.
وعلى هذا فقد كان كلّ الطعام حلالاً، ولم يكن شيء من الطيبات منه حراماً على بني إسرائيل قبل نزول التوراة، كما يفيد قوله سبحانه {من قبل أن تنزل التوراة} وإن كان قد حرمت ـ بعد نزول التوراة ومجيء موسى بن عمران ـ بعض الأطعمة الطيبة، على اليهود لظلمهم وعصيانهم، تنكيلاً بهم، وجزاءً لظلمهم.
وتأكيداً لهذه الحقيقة أمر الله نبيه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرأوها ليتبين كذب ما ادعوه، وصدق ما أخبر به الله حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال : {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}.
ولكنّهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي أدعوه.
والآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على الله لعدم استجابتهم لطلب النبي بإحضار التوراة، فإن عليهم أن يعرفوا بأن كلّ من افترى على الله الكذب استحق وصف الظلم، لأنه بهذا الإفتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي، وظلم غيره بتحريفه وإضلاله بما افترى، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية { فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
التوراة الرائجة وتحريم بعض اللحوم :
نقرأ في الفصل(4) الحادي عشر من سفر اللاويين ضمن استعراض مفصل للحوم المحرّمة والمحلّلة : «كل ما شق ظلفاً وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون. إلاَّ هذه فلا تأكلوها ممّا يجتر وممّا يشق الظلف. الجمل لأنه يجتر لكنّه لا يشق ظلفاً فهو نجس لكم».
من هذه العبارات نفهم أن اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفاً من البهائم، ولكن ذلك لا يدلّ على أنها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضاً، إذ يمكن أن يكون هذا التحريم مختصاً باليهود عقاباً لهم وتنكيلاً.
فإذا لم يكن لليهود حجّة على زعمهم، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم في دعوته، واتضح لهم أنّه على ملّة إبراهيم، ودينه الحنيف حقّاً يوجب عليهم أن يتبعوه {قل صدق الله فاتبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} اتبعوا ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مستقيماً لا يميل إلى شيء من الأديان الباطلة، والأهواء الفاسدة، بل يسير في الطريق المستقيم، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتّى في الأطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئاً بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم… إنه لم يكن مشركاً، فادعاء مشركي العرب بأنهم على ملته محض إختلاق، فأين الوثنية وأين التوحيد ؟ وأين عبادة الأصنام، وأين تحطيم الأصنام ؟
والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يكرر هذا الوصف {وما كان من المشركين}في شأن إبراهيم ويؤكد عليه في مواطن كثيرة، وما ذلك إلاَّ لأن العرب الجاهليين الوثنيين كانوا ـ كما ألمحنا ـ ينسبون ديانتهم وعقائدهم الوثنية إلى الخليل (عليه السلام)، ويدعون بأنهم على دينه وملته، وكانوا يصرون على هذا إلى درجة أن الآخرين سموهم بالحنفاء (أي أتباع إبراهيم) ولذلك كرر القرآن نفي الشرك عن الخليل وصرح مراراً وتكراراً بأنه (عليه السلام) كان حنيفاً، ولم يكن من المشركين أبداً(5) ابطالاً لذلك الإدعاء السخيف، وتنزيهاً لساحة هذا النبي العظيم من تلك الوصمة المقيتة.
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص359-361.
2 ـ إسرائيل هو الإسم الآخر ليعقوب.
3 ـ عرق النساء ألم عصبي يمتد على مسار العصب الوركي من الالية إلى معصم القدم ويشتد هذا الألم جداً إذا ما ثنيت الساق الممتدة عند مفصل الحوض (الموسوعة العربية الميسرة).
4 ـ وهو ما يسمى بالإصحاح.
5 ـ جملة «وما كان من المشركين» جاءت في آل عمران 67 ـ 95 والأنعام 161 والنحل 124 والبقرة 135.