تفسير آيات من القرآن الكريم (النساء 5)
قال تعالى : {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا } [النساء : 5] .
لما أمر تعالى فيما تقدم بدفع مال الأيتام إليهم ، عقبه بذكر من لا يجوز الدفع إليه منهم وقال : ﴿ولا تؤتوا السفهاء﴾ : أي لا تعطوا السفهاء ﴿أموالكم﴾ : اختلف في المعني بالسفهاء على أقوال :
أحدها : أنهم النساء والصبيان ، عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك ، وأبي مالك ، وقتادة ، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ابن عباس : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة للمال ، وعلم أن ولده سفيه يفسد المال ، لم ينبغ له أن يسلطهما على ماله .
وثانيها : أن المراد به النساء خاصة ، عن مجاهد ، وابن عمر ، وروي عن أنس ابن مالك ، قال : جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ، ذات ملح ، إلى رسول الله ، فقالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قل فينا خيرا مرة واحدة ، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شر ! قال : أي شيء قلت لكن ؟ قالت : سميتنا السفهاء . قال : الله سماكن السفهاء في كتابه . قالت وسميتنا النواقص ! فقال : وكفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها ، ثم قال : أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت ، كان لها كأجر المرابط في سبيل الله ، فإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل ، فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل ، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير (لا يكلفن العسير خ ل) . قال ، قالت : السوداء يا له فضلا لو لا ما يتبعه من الشرط .
وثالثها : أنها عام في كل سفيه من صبي ، أو مجنون ، أو محجور عليه ، للتبذير ، وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال : ” إن السفيه شارب الخمر ومن جرى مجراه ” وهذا القول أولى لعمومه .
وقوله ﴿التي جعل الله لكم قياما﴾ : أي أموالكم التي جعلها الله قواما لمعاشكم ومعادكم تقيمكم فتقومون بها قياماً . وقيل : معناه ما تعطي ولدك السفيه من مالك الذي جعله الله قواماً لعيشك فيفسده عليك ، وتضطر إليه فيصير ربا عليك ينفق مالك عليك . ﴿وارزقوهم فيها واكسوهم﴾ : اختلف في معناه فقيل ، يريد : لا تؤتوهم أموالكم التي تملكونها ، ولكن ارزقوهم منها إن كانوا ممن يلزمكم نفقته ، واكسوهم الآية . عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد . وقيل يريد : لا تعط امرأتك وولدك مالك ، فيكونوا هم الذين ينفقون عليك وأطعمهم من مالك واكسهم . عن السدي وابن زيد ، وهذا أمر بإحراز المال وحسن سياسته ، كقوله {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ويلتفت إليه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) : ” نعم المال الصالح للرجل الصالح ” وقيل : عنى بقوله أموالكم أموالهم ، كما قال {ولا تقتلوا أنفسكم} أي لا تؤتوا اليتامى أموالهم وارزقوهم منها واكسوهم . عن سعيد بن جبير . والأولى حمل الآية على العموم ، فلا يجوز أن تعطي المال السفيه الذي يفسده ولا اليتيم الذي لا يبلغ ولا الذي بلغ ولم يؤنس منه الرشد وإنما تكون إضافة مال اليتيم إلى من له القيام بأمرهم ضربا من المجاز أو يكون التقدير لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي بعضها لكم وبعضها لهم فيضيعوها وقد روي أنه سئل الصادق (عليه السلام) عن هذا فقيل كيف يكون أموالهم أموالنا فقال إذا كنت أنت الوارث له .
﴿وقولوا لهم قولا معروفا﴾ : أي تلطفوا لهم في القول ، ولا تخاشنوهم ، وقولوا لهم ما ينبههم على الرشد والصلاح في أمور المعاش والمعاد ، حتى إذا بلغوا ، كانوا على بصيرة من ذلك . وفي هذه الآية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد لأن الله منع من دفع المال إلى السفهاء وفيها أيضا دلالة على وجوب الوصية إذا كانت الورثة سفهاء لأن ترك الوصية والحال هذه بمنزلة إعطاء المال أهل السفه وإنما سمي الناقص العقل سفيها لأن السفه خفة الحلم ولذلك سمي الفاسق أيضا سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين.
_______________
1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 17-19 .
{ ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ } . قيل : هذا خطاب موجه لكل من في يده مال ، وانه مأمور أن لا يمكّن منه من يصرفه في غير وجهه ، ويضعه في غير محله ، سواء أكان المبذر ولدا أو زوجة لمن في يده المال ، أو داخلا في وصايته ، أو أجنبيا عنه . وقيل : بل الخطاب موجه للآباء فقط ، وان اللَّه سبحانه نهاهم أن يعمدوا إلى ما خوّله لهم من مال ، فيملكونه أولادهم العاقين ، وعند الشيخوخة ينظرون إليها بحسرة وندامة لحاجتهم إليها ، وعقوق أولادهم السفهاء .
والصحيح إن الخطاب موجه لخصوص الأولياء ، والمعنى يا أيها الأولياء لا تسلطوا السفهاء الذين تحت ولايتكم على أموالهم . . ويدل على ذلك قوله تعالى :
{ وارْزُقُوهُمْ فِيها واكْسُوهُمْ } فإنه خطاب لخصوص الأولياء . . هذا ، إلى أن الآيات السابقة خطاب لهم خاصة ، فيحسن تعلق هذه بتلك .
والسفيه هو المبذر الذي يسيء التصرف في المال ، فيمنع من التصرف فيه الا إذا أذن له الولي ، وله تمام الحرية في التصرفات التي لا تتصل بالمال من قريب أو بعيد . وتكلمنا عن أحكام السفيه مفصلا في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق : باب الحجر .
ونقول : لو كان الخطاب موجها لخصوص الأولياء الناظرين في أموال السفهاء لوجب أن يقول أموالهم ، لا أموالكم ؟ .
الجواب : إن اللَّه سبحانه أضاف أموال السفهاء إلى الأولياء بالنظر إلى إنها تحت ولايتهم ، ومعلوم إن الإضافة تصح لأدنى مناسبة .
الإيمان باللَّه ومشكلة العيش :
{ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً } . قال الرازي : « معناه انه لا يحصل قيامكم ومعاشكم إلا بالمال ، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه اللَّه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب » يريد بالسبب المال ، وبالمسبب المعاش .
ومن تتبع الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية يجد إن الإسلام قد أولى المال وتوجيهه لتحسين المعاش عناية كبرى ، بل ساوى بينه وبين النفس في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهً اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ – 111 التوبة » . . فاللَّه سبحانه يبيع جنته بالمال الذي ينفق في سبيله ، تماما كالتاجر يبيع سلعته بالمال الذي ينفق لمصلحته . ومنها قوله جل وعلا : { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ – 94 النساء } . وفي الحديث :
« إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم » . ومن هنا قال الفقهاء :
الأصل في كل شيء الحل إلا في الدماء والفروج والأموال ، فإن الأصل فيها التحريم .
وأطلق القرآن لفظ الخير على المال في كثير من الآيات ، منها : « وانه لحب الخير لشديد » بل قال بعض المفسرين : إن لفظ الخير لم يطلق في القرآن إلا على المال . . ونحن لا نوافق على هذا الرأي ، ولكنا نعلم بأن أكثر الآيات التي أمرت بالعمل الصالح ، والتعاون على الخير ، وإعداد العدة لأعداء الدين والوطن – لا يمكن امتثالها والعمل بها إلا بالمال .
وقد نهى الإسلام عن كنز المال ، وهدد الذين يكنزونه بالعذاب الأليم ، كما نهى عن الإسراف والتبذير ، واعتبر المبذرين أخوان الشياطين ، لأن كلا من التجميد والتبذير يعوق الحياة عن النمو والإنتاج الذي ينفع الناس ، وأمر بالاقتصاد ، والرفق في صرف المال وإنفاقه . قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا أراد اللَّه لأهل بيت خيرا رزقهم الرفق في المعيشة ، وحسن الخلق . وقال الإمام علي (عليه السلام) : لا يذوق المرء حقيقة الإيمان ، حتى يكون فيه ثلاث خصال :
الفقه في الدين ، والصبر على المصائب ، وحسن التقدير في المعاش .
لقد ربط الإمام بين حقيقة الإيمان ، وحل مشكلة العيش في هذه الأرض ، لأن حسن التقدير في المعاش معناه إتقان العمل ، وصرف الإنتاج في وجهه النافع . . وهذا دليل قاطع على إن الدين لا ينفصل عن الحياة ، وانه شرع من أجل حياة لا إشكال فيها ولا تعقيد . . ومن فصل الدين عن الحياة ، ونظر إليه على انه مجرد طقوس وشعارات ، وزهد ومغيبات فهو أما جاهل أخذ الدين ممن يتكسبون به ، وإما معاند للحق والبديهة .
وعند تفسير الآية 182 من سورة آل عمران ، فقرة : « الغني وكيل لا أصيل » ذكرنا إن المال كله للَّه ، وان الإنسان مأذون بالتصرف فيه ضمن حدود خاصة ، فإذا تجاوزها كان من الغاصبين ، فارجع إليه فإنه يتصل بهذا الموضوع ، وقد نعود إليه مرة أخرى إذا عرضت آية تتعلق به ، ونأتي بما يتمم أو يوضح ما ذكرناه هنا وهناك . . فإن الفكر لا يحيط بالشيء من جميع جهاته ، بخاصة إذا كان مثل موضوع الإيمان والعيش ، وإنما يتجه الفكر بكله إلى جهة من الجهات حين تومئ إليها آية أو رواية أو حادثة من الحوادث .
{وارْزُقُوهُمْ فِيها واكْسُوهُمْ} . الخطاب لأولياء السفهاء ، والمراد به أن ينفق الأولياء على السفهاء كل ما يحتاجون إليه من مأكل وملبس ومسكن وتعليم وزواج ، وما إلى ذلك .
وتسأل : لما ذا قال فيها ، ولم يقل منها ؟ .
الجواب : لو قال ( منها ) لكان المعنى إن يأكل السفيه من أصل ماله ، فينقص المال بذلك ، وربما استهلكه كله إن طال المدى ، أما في فإنها ظرف ، ويكون المعنى إن المال يكون محلا للرزق ، وذلك أن يتجر به الولي ، ويستثمره ، وينفق على السفيه من الناتج ، لا من أصل المال .
سؤال ثان : لما ذا خص الكسوة بالذكر ، مع العلم بأن رزقهم يشمل الكسوة ؟
الجواب : خص الكسوة للاهتمام بها . . فربما توهم الولي إن المهم هو المأكل ، أما الملبس فلا بأس بالتساهل فيه ، فدفع اللَّه سبحانه هذا الوهم بذكر الكسوة صراحة .
والولاية على السفيه تكون للأب والجد له إذا بلغ الصبي سفيها ، بحيث يتصل السفه بالصغر ، أما إذا بلغ رشيدا ، ثم عرض له السفه بعد الرشد تكون الولاية للحاكم الشرعي ، دون الأب والجد .
{ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً } . قد يرى بعض الأولياء إن على المولى عليه أن يسمع له ويطيع ، تماما كما هو شأن الولد مع والده ، فنبه سبحانه بقوله هذا كي يتلطف كل ولي بمن هو في ولايته ، ويعامله معاملة يرضاها ، وتطيب نفسه لها .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص253-256 .
قوله تعالى : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً } السفه خفة العقل ، وكان الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف ومنه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب وثوب سفيه أي رديء النسج ثم غلب في خفة النفس واختلف باختلاف الأغراض والمقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية وسفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه وهكذا.
وظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء وإعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق ، غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها وإنمائها الأولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى ، وأن المراد بقوله : { أَمْوالَكُمُ } ، في الحقيقة أموالهم أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد : { وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ } ، وإن كان ولا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى ، فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم وغير اليتيم لكن الأول أرجح.
وكيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى ، فالمراد بقوله : { أَمْوالَكُمُ } ، أموال اليتامى وإنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال والثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها وإنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه وآخر بآخر للصلاح العام الذي يبتني عليه أصل الملك والاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة ويعلموا أنهم مجتمع واحد والمال كله لمجتمعهم ، وعلى كل واحد منهم أن يكلأه ويتحفظ به ولا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة ، وتدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير والمجنون ، وهذا من حيث الإضافة كقوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ } : [النساء : 25] ، ومن المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح .
ففي الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع وهو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه وجعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره ويصلحه ويعرضه معرض النماء ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ويحفظه عن الضيعة والفساد ، ومن فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم ويصلحوا شأنها ، وينموها بالكسب والإتجار والاسترباح ويرزقوا أولئك السفهاء من فوائدها ونمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا وينتهي إلى مسكنة صاحب المال وشقوته .
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ } ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه ونتاجه وأرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان ودوران فينفد عن آخره ، وهذه هي النكتة في قوله : « فِيها » دون أن يقول : « منها » كما ذكره الزمخشري.
ولا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلامي تولي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب والجد فعليه التولي والمباشرة ، وإلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه .
(كلام في أن جميع المال لجميع الناس)
هذه حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام وقوانين هامة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية : أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما ومعاشا للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير ولا يتبدل وهبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة والحيازة والتجارة وغير ذلك وشرط لتصرفهم أمورا كالعقل والبلوغ ونحو ذلك.
والأصل الثابت الذي يراعى حاله ويتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع ، فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع وعدم المزاحمة ، وأما مع المزاحمة والمفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد.
ويتفرع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الإنفاق ومعظم أحكام المعاملات وغير ذلك ، وقد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } : [ البقرة : 29 ] ، وقد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.
قوله تعالى : { وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى : { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } : [ آل عمران : 27 ] وقوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ } ، كقوله : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ } : [ البقرة : 233 ] فالمراد بالرزق هو الغذاء الذي يغتذي به الإنسان والكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر والبرد ( غير أن لفظ الرزق والكسوة في عرف القرآن كالكسوة والنفقة في لساننا ) كالكناية يكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن ونحوه كما أن الأكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } الآية.
وأما قوله : « وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فإن هؤلاء وإن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم ولا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول ويعاشروا بما يعاشر به الإنسان.
ومن هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً }. كناية عن المعاملة الحسنة والمعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً } : [ البقرة : 83 ].
__________________________
1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 145-147 .
يقول الله سبحانه : (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم) بل انتظروا رشدهم ، ونضجهم في المسائل الإِقتصادية لكي لا تتعرض أموالكم للتلف والفناء .
من هو السّفيه ؟
قال الرّاغب في المفردات : «السّفه خفّة في البدن (يحصل بسببها عدم التعادل في المشي) ومنه قيل زمام سفيه أي كثير الإِضطراب ، واستعمل في خفّة النفس لنقصان العقل في الأُمور الدّنيوية، والأخروية».
ولكنّ من الواضح أنّ المراد من السّفه في الآية الحاضرة هو عدم الرشد اللازم في الأُمور الإِقتصادية بحيث لا يستطيع الشخص من تدبير شؤونه الإِقتصادية وإِصلاح ماله على الوجه الصحيح ، ولا يتمكن من ضمان منافعه في المبادلات والمعاملات المالية ، أي أنّه عرضة للغبن والضرّر ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في الآية الثانية إذ يقول سبحانه : (فإِن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم).
وعلى هذا الأساس فإِنّ الآية الحاضرة وإِن كانت تبحث حول اليتامى ، لكنّها تتضمّن حكماً كلياً وقانوناً عامّاً لجميع الموارد ، وهو أنّه لا يجوز لأحد مطلقاً أن يعطي أموال من يتولى أمره، أو ترتبط به حياته بنوع من الإِرتباط، إِليه إِذا كان سفيهاً غير رشيد، ولا فرق في هذا الحكم بين الأموال الخاصّة والأموال العامّة (وهي أموال الحكومة الإِسلامية) ويشهد على هذا الموضوع ـ مضافاً إِلى سعة مفهوم الآية ـ وخاصّة كلمة «السّفيه» روايات منقولة عن أئمّة الدين في هذا الصدد .
ففي رواية عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) نقرأ أنّ شخصاً يدعى إِبراهيم بن عبد الحميد يقول : سألت أبا عبدالله عن قول الله : (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) قال : «كلّ من يشرب المسكر فهو سفيه (2) فلا تعطوهم أموالكم» .
وفي رواية أُخرى نجد النهي عن اختيار شارب الخمر لجعله أميناً على الأموال .
وخلاصة القول أنّنا نجد توصيف شارب الخمر بالسفه في أحاديث كثيرة وموارد متعددة ، وهذا التعبير إِنّما هو لأن شارب الخمر فقد رأس ماله المادي ورأس ماله المعنوي ، وأي سفيه أشدّ من أن يعطي الإِنسان ماله ، وعقله أيضاً ، ويبتاع الجنون … ويضحي في هذا السبيل بكل طاقاته البدنية والروحية ، ويتسبب في أضرار إِجتماعية كثيرة وكبيرة .
ثمّ أنّنا نلاحظ أن رواية أُخرى تصف كلّ من لا يوثق به بالسفيه ، وتنهي من تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إِليه ، فعن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قوله : (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم) قال : «من لا تثق به (3) » .
ومن هذه الرّوايات يتبيّن أنّ للفظة السفيه معنى واسعاً ، وأن النهي يشمل تسليم الأموال الخاصّة والعامّة إِليهم ، غاية ما في الأمر أن هذا النهي يكون في بعض الموارد نهي تحريم ، وفي بعض الموارد الأخرى التي لا تشتد فيها درجة السفه يكون نهي كراهة .
وهنا ينطرح سؤال وهو ، إِذا كانت هذه الآية في مورد أموال اليتامى فلماذا قال تعالى : (أموالكم) ولم يقل «أموالهم» ؟
يمكن أن تكون النكتة والسرّ في هذا التعبير هو بيان مسألة إِجتماعية وإِقتصادية مهمّة في المقام وهي أن الإِسلام يعتبر الأفراد في المجتمع بمثابة فرد واحد بحيث لا يمكن أن تنفصل مصالح فرد عن مصالح الآخرين ، وهكذا تكون خسارة فرد عين خسارة الآخرين ، ولهذا السبب أتى القرآن في هذا المقام بضمير المخاطب بدل ضمير الغائب إِذ قال : «أموالكم» ولم يقل «أموالهم» ، يعني أنّ هذه الأموال ـ في الحقيقة ـ ليست مرتبطة باليتامى فقط ، بل هي مرتبطة بكم أيضاً ، فإِذا لحق بها ضرّر ، يكون ذلك الضرّر قد لحق بكم بصورة غير مباشرة أيضاً ، ولهذا يجب أن تحرصوا في حفظها كل الحرص .
ثمّ إِنّ هناك تفسيراً آخر لهذا التعبير وهو أن المقصود من «أموالكم» ، هو أموال نفس الأولياء لا أموال اليتامى ، فيكون المعنى إِذا أردتم مساعدة الإيتام الذين لم يرشدوا ربّما أعطيتهم شيئاً من أموالكم ـ تحت تأثير العاطفة والإِشفاق ـ إِليهم ، واخترتموهم لبعض الأعمال التي لا يقدرون عليها فلا تفعلوا ذلك ، بل عليكم أن تعملوا شيئاً آخر مكان هذا العمل الغير العقلائي ، وهو أن تقوموا بالإِنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم حتى يبلغوا سن الرشد، فإِذا بلغوا هذه المرتبة ، وحصلت لديهم البصيرة الكافية أعطوهم ما شئتم ، وانتخبوهم لما تريدون من الأعمال .
وهذا في الواقع درس إِجتماعي كبير يُعلمه القرآن لنا حيث ينهانا عن تشغيل من لا يقدر على بعض الأعمال فيها ، وذلك بدافع مساعدتهم وتحت تأثير الإِشفاق والعاطفة ، لأن هذه الأعمال وإِن كانت تنطوي على بعض الأرباح القليلة ، ولكنّها من الممكن أن تجرّ على المجتمع أضراراً وويلات كبيرة ، فلابدّ إِذن من إِدارة أُمور هذه الطائفة من المجتمع عن طريق تقديم المساعدات الغير المعوضة إِليهم أو تشغيلهم في أُمور سهلة وصغيرة .
من هنا يتّضح أنّ بعض قاصري النظر يختارون الضعفاء والقصر لبعض المسؤوليات التبليغية والدينية إرفاقاً بهم وإِشفاقاً عليهم وهذا لا شك من أضرّ الأعمال، وأكثرها بعداً عن العقل والمنطق الصحيح .
أموالكم قوام لكم :
ثمّ أنّ القرآن الكريم يصف الأموال المذكورة في مطلع الآية الحاضرة بقوله : (التي جعل الله لكم قياماً) هو تعبير جميل ورائع جداً عن الأموال والثّروات ، فهي قوام الحياة الناس والمجتمع ، وبدونها لا يمكن للمجتمع الوقوف على قدميه ، فلا يصحّ إِعطاؤها إِلى السفهاء والمسرفين الذين لا يعرفون إِصلاحها ، بل ربّما أفسدوها وأتلفوها وألحقوا بسبب ذلك أضراراً كبيرة بالمجتمع .
ومن هذا التعبير نعرف جيداً ما يوليه الإِسلام من الإِهتمام بالأُمور والشؤون الإِقتصادية والمالية ، وعلى العكس نقرأ في الإِنجيل الحاضر : «فقال يسوع لتلاميذه : الحق أقول لكم أنّه يعسر أن يدخل غني إِلى ملكوت السماوات» (4) في حين يرى الإِسلام أنّ الأُمّة الفقيرة لا تستطيع أبداً الوقوف على قدميها . وأنّه لعجيب أن نرى تلك الطائفة بلغت إِلى ما بلغت من المراتب في عالمنا الراهن في حقول التقدم الإِقتصادي مع ما هم عليه من التعاليم الخاطئة ، في حين نعاني من هذا الوضع المأسوي مع ما نملك من التعاليم الحيوية العظيمة.
غير أنّه لا داعي للعجب، فهم تركوا تلك الخرافات والأضاليل ـ في الحقيقة ـ فوصلوا إِلى ما وصلوا، بينما تركنا نحن هذه التعاليم الراقية فوقعنا في هذه الحيرة ، والتخلف.
تعليمان في شأن اليتامى :
ثمّ أن الله سبحانه يأمر ـ في شأن اليتامى ـ بأمرين مهمين هما :
أوّلا : رزق اليتامى وإكسائهم من أموالهم حتى يبلغوا سن الرشد إِذ يقول : (وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً).
والجدير بالنظر هو أنّ الله تعالى عبّر في هذه الآية بلفظة «فيها» أي في أموال اليتامى لا «منها» أي من أموالهم إِذ المفهوم من هذا التعبير هو أن تدبير شؤون اليتامى والإِنفاق عليهم يجب أن يتمّ من أرباح أموالهم ، إِذ لو قال سبحانه : وارزقوهم منها لفهم من ذلك أنّ على الولي أن يقتطع من أصل أموالهم شيئاً فشيئاً ، وهذا يعنى أن يفقد اليتامى شيئاً كبيراً من أموالهم حينما يبلغون ويصلون إِلى سن الرشد ، ولكن القرآن الكريم باستبداله لفظة «منها» بلفظة «فيها» يكون قد أوصى أولياء اليتامى بأن يحرصوا كلّ الحرص على أموال اليتامى ، ويحاولوا الإِنفاق من أرباح رؤوس أموالهم وذلك باسترباح هذه الأموال واستثمارها ولو بقدر نفقات اليتامى كيما تبقى هذه الأموال على حالها حين بلوغهم سن الرشد .
ثانياً : مخاطبة اليتامى والتكلم معهم بقول طيب ورقيق إِذ قال سبحانه : (وقولوا لهم قولا معروفاً) كيما يزيلوا بمثل هذا القول المعروف ما يشعر به اليتامى من نقصان روحي وعُقد نفسية ، كما يساعدوا بذلك على ترشيدهم وبلوغهم حدّ الرشد العقلي، حتى يتمتعوا عند البلوغ بالرشد العقلي اللازم ، وبهذا الطريق يكون بناء شخصية اليتيم وترشيده عقلياً من وظائف الأولياء ومسؤولياتهم أيضاً .
____________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 30-34 .
2. تفسر البرهان ، ج1 ، في ذيل الآية مورد البحث ؛ وسائل الشيعة ، ج19 ، ص 368 .
3. تفسير البرهان ، ج1 ، ذيل الآية مورد البحث وهكذا في تفسير نور الثقلين ، ج1 ص 442 .
4. إنجيل متى الإصحاح ، 19-23 .