تفسير سورة التين
قال تعالى : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين : 1 – 8].
{والتين والزيتون} أقسم الله سبحانه بالتين الذي يؤكل والزيتون الذي يعصر منه الزيت عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وهو الظاهر وإنما أقسم بالتين لأنه فاكهة مخلصة من شائب التنغيص وفيه أعظم عبرة لأنه عز اسمه جعلها على مقدار اللقمة وهيأها على تلك الصفة إنعاما على عباده بها وقد روى أبو ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال في التين لوقلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه هي لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس وأما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة وهو إدام والتين طعام فيه منافع كثيرة وقيل التين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس عن قتادة وقال عكرمة : هما جبلان وإنما سميا لأنهما ينبتان بهما وقيل التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس عن كعب الأحبار وعبد الرحمن بن غنيم وابن زيد وقيل التين مسجد نوح الذي بني على الجودي والزيتون بيت المقدس عن ابن عباس وقيل التين المسجد الحرام والزيتون المسجد الأقصى عن الضحاك.
{وطور سينين} يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى عن الحسن وسينين وسيناء واحد وقيل إن سينين معناه المبارك الحسن وكأنه قيل جبل الخير الكثير لأنه إضافة تعريف عن مجاهد وقتادة وقيل معناه كثير النبات والشجر عن عكرمة وقيل إن كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط عن مقاتل قال عمرو بن ميمون سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب والتين والزيتون وطور سيناء قال فظننت أنه إنما قرأها ليعلم حرمة البلد وروي ذلك عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أيضا {وهذا البلد الأمين} يعني مكة البلد الحرام يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام فالأمين يعني المؤمن من يدخله وقيل بمعنى الأمن ويؤيده قوله إنا جعلنا حرما آمنا قال الشاعر :
ألم تعلمي يا أسم ويحك إنني *** حلفت يمينا لا أخون أميني(2)
يريد آمني {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} هذا جواب القسم وأراد جنس الإنسان وهو آدم وذريته خلقهم الله في أحسن صورة عن إبراهيم ومجاهد وقتادة وقيل في أحسن تقويم أي منتصب القامة وسائر الحيوان مكب على وجهه إلا الإنسان عن ابن عباس وقيل أراد أنه خلقهم على كمال في أنفسهم واعتدال في جوارحهم وأبانهم عن غيرهم بالنطق والتمييز والتدبير إلى غير ذلك مما يختص به الإنسان وفي ذلك إشارة أيضا إلى حال الشباب {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد إلى الخرف وأرذل العمر والهرم ونقصان العقل والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة وقيل معناه ثم رددناه إلى النار عن الحسن ومجاهد وابن زيد والجبائي والمعنى إلى أسفل الأسفلين لأن جهنم بعضها أسفل من بعض وعلى هذا فالمراد به الكفار أي خلقناهم في أحسن خلقة أحرارا عقلاء مكلفين فكفروا فرددناهم إلى النار في أقبح صورة.
ثم استثنى فقال {إلا الذين آمنوا} أي صدقوا بالله {وعملوا الصالحات} أي أخلصوا العبادة لله وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة فإن هؤلاء لا يردون إلى النار ومن قال بالقول الأول قال إن المؤمن لا يرد إلى الخرف وإن عمر عمرا طويلا قال إبراهيم : إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز معه من العمل كتب له ما كان يعمل وهو قوله {فلهم أجر غير ممنون} وقال عكرمة : من رد منهم إلى أرذل العمر كتب له صالح ما كان يعمل في شبابه وذلك أجر غير ممنون وعن ابن عباس قال : ومن قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال إلا الذين قرءوا القرآن وفي الحديث عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه فإن عمل سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسددانه فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاث الجنون والجذام والبرص فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة إليه فيما يجب فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه في أهل بيته وكان اسمه أسير الله في الأرض فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحته من الخير وإن عمل سيئة لم تكتب عليه)).
وأقول إن صح الخبر فإنما لا تكتب عليه السيئة لزوال عقله ونقصان تمييزه في ذلك الوقت وقوله {غير ممنون} أي غير منقوص وقيل غير مقطوع عن أبي مسلم وقيل غير محسوب عن مجاهد وقيل غير مكدر بما يؤذي ويغم عن الجبائي {فما يكذبك بعد بالدين} معناه أي شيء يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الجزاء والحساب عن الحسن وعكرمة وأبي مسلم والمراد ما يحملك على أن لا تتفكر في صوتك وشبابك وهرمك فتعتبر وتقول إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ويجازيني بعملي فيكون قوله {فما يكذبك} يعني به ما الذي يجعلك تكذب وقيل إن الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الإسلام عن مجاهد وقتادة أي لا شيء يكذبك {أ ليس الله بأحكم الحاكمين} هذا تقرير للإنسان على الاعتراف بأنه تعالى أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله وأنه لا خلل في شيء منها ولا اضطراب فكيف يترك هذه الخلائق ويهملهم فلا يجازيهم وقيل معناه أ ليس الله بأقضى القاضين فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب بك عن مقاتل وقال قتادة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا ختم هذه السورة قال ((بلى وأنا على ذلك من الشاهدين)).
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص392-395.
{والتِّينِ والزَّيْتُونِ} . اختلفوا ما هو المراد بالتين والزيتون ، على أقوال ، أبعدها عن ظاهر اللفظ ومدلوله ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده حيث قال : التين إشارة إلى آدم وحواء ، وهما في الجنة « وعند ما بدت لهما سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين والزيتون إشارة إلى عهد نوح وذريته » . ولا نرى مبررا لهذا التأويل لأن المتبادر إلى الافهام من كلمة التين هذا التين الذي يؤكل ، ومن كلمة الزيتون هذا الزيتون الذي يعصر ، ولا مانع في حكم العقل أن يقسم اللَّه سبحانه بما شاء من خلقه باعتراف الشيخ محمد عبده ، وما أكثر ما يستند الشيخ محمد عبده إلى التبادر في تفسيره لآي الذكر الحكيم . . أما الحكمة من القسم فقد تكون للتنبيه إلى ما لهما من فوائد ، وقد تكون غير ذلك ، وما أكثر ما نجهل .{وطُورِ سِينِينَ} الطور الجبل الذي كلَّم اللَّه عليه موسى . وسينين سيناء .
( وهذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} . وهو مكة التي شرفها اللَّه بميلاد محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وكرمها ببيته الحرام ، ومثله « لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ » .{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . هذا جواب القسم ، وهو القصد من السورة كلها ، والتقويم التعديل والتنظيم . . أقسم سبحانه انه شمل الإنسان بلطفه وعنايته حين أوجده وأنشأه ، فخلق جسمه في أبدع الصور والأشكال ، وأودع في روحه من القوى والغرائز ما تسمو به على جميع المخلوقات ان شاء وأراد ، أو تهوي به إلى الحضيض ان انحرف مع أهوائه ونزواته ، وإذا كان اللَّه سبحانه قد اعتنى بالإنسان هذه العناية وأهلَّه إلى الرفعة والكمال فجدير بالإنسان أن يعتني بنفسه ، ولا ينحرف بها عما خلقت له وعليه من الجمال والكمال . ومثله « وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ » – 64 غافر .
( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} . الهاء في رددناه تعود إلى الإنسان باعتبار بعض أفراده ، والمراد بأسفل سافلين هنا جهنم ، ولو لا السياق لقلنا : المراد به أرذل العمر من الهرم والكبر ، ولكن قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ » قرينة واضحة على إرادة جهنم من أسفل سافلين . . والمعنى لقد خلقنا الإنسان في أحسن خلقة جسما وروحا ، ولكن بعض أفراده أو أكثرهم عصوا اللَّه وكفروا بأنعمه ، فردّهم إلى الدرك الأسفل من النار{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} . لكن الذين آمنوا وعملوا مخلصين بموجب ايمانهم يتنعمون في الجنان خالدين فيها أبدا . . . إن اللَّه عنده أجر عظيم . وتقدم بالحرف في الآية 8 من سورة فصلت .
( فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} . « ما » لفظها استفهام ومعناها إنكار ، ويكذبك أي ما يحملك على التكذيب بدين اللَّه بعد ان قامت عليه الأدلة والبراهين ، ومنها خلق الإنسان في أحسن تقويم{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ} ؟ بلى انه أحكمهم صنعا وتدبيرا ، وأعدلهم قولا وفعلا ، وهو يقضي بالحق على من كذّب به استكبارا وعنادا .
__________________________
1- الكاشف ،محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص583-584.
تذكر السورة البعث والجزاء وتسلك إليه من طريق خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم اختلافهم بالبقاء على الفطرة الأولى وخروجهم منها بالانحطاط إلى أسفل سافلين ووجوب التمييز بين الطائفتين جزاء باقتضاء الحكمة.
والسورة مكية وتحتمل المدنية ويؤيد نزولها بمكة قوله: {وهذا البلد الأمين} وليس بصريح فيه لاحتمال نزولها بعد الهجرة وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة.
قوله تعالى: {والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين} قيل: المراد بالتين والزيتون الفاكهتان المعروفتان أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمة والخواص النافعة، وقيل المراد بهما شجرتا التين والزيتون، وقيل: المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، ولعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما ولعل الإقسام بهما لكونهما مبعثي جم غفير من الأنبياء وقيل غير ذلك.
والمراد بطور سينين الجبل الذي كلم الله تعالى فيه موسى بن عمران (عليهما السلام)، ويسمى أيضا طور سيناء.
والمراد بهذا البلد الأمين مكة المشرفة لأن الأمن خاصة مشرعة للحرم وهي فيه قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وفي دعاء إبراهيم (عليه السلام) على ما حكى الله عنه: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] ، وفي دعائه ثانيا {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } [إبراهيم: 35].
وفي الإشارة بهذا إلى البلد تثبيت التشريف عليه بالتشخيص وتوصيفه بالأمين إما لكونه فعيلا بمعنى الفاعل ويفيد معنى النسبة والمعنى ذي الأمن كاللابن والتامر وإما لكونه فعيلا بمعنى المفعول والمراد البلد الذي يؤمن الناس فيه أي لا يخاف فيه من غوائلهم ففي نسبة الأمن إلى البلد نوع تجوز.
قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} جواب للقسم والمراد بكون خلقه في أحسن تقويم اشتمال التقويم عليه في جميع شئونه وجهات وجوده، والتقويم جعل الشيء ذا قوام وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت فالإنسان والمراد به الجنس ذو أحسن قوام بحسب الخلقة.
ومعنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة على ما يستفاد من قوله بعد: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين} إلخ صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الأعلى والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة معها، وذلك بما جهزه الله به من العلم النافع ومكنه منه من العمل الصالح قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] فإذا آمن بما علم وزاول صالح العمل رفعه الله إليه كما قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، وقال: { وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
وقال: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: { فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح عطاء من الله غير مجذوذ، وقد سماه تعالى أجرا كما يشير إليه قوله الآتي: {فلهم أجر غير ممنون}.
قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين} ظاهر الرد أن يكون بمعناه المعروف فأسفل منصوب بنزع الخافض، والمراد بأسفل سافلين مقام منحط هو أسفل من سفل من أهل الشقوة والخسران والمعنى ثم رددنا الإنسان إلى أسفل من سفل من أهل العذاب.
واحتمل أن يكون الرد بمعنى الجعل أي جعلناه أسفل سافلين، وأن يكون بمعنى التغيير والمعنى ثم غيرناه حال كونه أسفل جمع سافلين، والمراد بالسفالة على أي حال الشقاء والعذاب.
وقيل: المراد بخلق الإنسان في أحسن تقويم ما عليه وجوده أوان الشباب من استقامة القوى وكمال الصورة وجمال الهيئة، وبرده إلى أسفل سافلين رده إلى الهرم بتضعيف قواه الظاهرة والباطنة ونكس خلقته فتكون الآية في معنى قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68].
وفيه أنه لا يلائمه ما في قوله: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} من الاستثناء الظاهر في المتصل فإن حكم الخلق عام في المؤمن والكافر والصالح والطالح ودعوى أن المؤمن أو المؤمن الصالح مصون من ذلك مجازفة.
وكذا القول بأن المراد بالإنسان هو الكافر والمراد بالرد رده إلى جهنم أو إلى نكس الخلق والاستثناء منقطع.
قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع استثناء متصل من جنس الإنسان، وتفريع قوله: {فلهم أجر غير ممنون} عليه يؤيد كون المراد من رده إلى أسفل سافلين رده إلى الشقاء والعذاب.
قوله تعالى: {فما يكذبك بعد بالدين أ ليس الله بأحكم الحاكمين} الخطاب للإنسان باعتبار الجنس، وقيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد غيره، و{ما} استفهامية توبيخية، و{بالدين} متعلق بيكذبك، والدين الجزاء والمعنى – على ما قيل – ما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء يوم القيامة بعد ما جعلنا الإنسان طائفتين طائفة مردودة إلى أسفل سافلين وطائفة مأجورة أجرا غير ممنون.
وقوله: {أليس الله بأحكم الحاكمين} الاستفهام للتقرير وكونه تعالى أحكم الحاكمين هو كونه فوق كل حاكم في إتقان الحكم وحقيته ونفوذه من غير اضطراب ووهن وبطلان فهو تعالى يحكم في خلقه وتدبيره بما من الواجب في الحكمة أن يحكم به الناس من حيث الإتقان والحسن والنفوذ وإذا كان الله تعالى أحكم الحاكمين والناس طائفتان مختلفتان اعتقادا وعملا فمن الواجب في الحكمة أن يميز بينهم بالجزاء في حياتهم الباقية وهو البعث.
فالتفريع في قوله: {فما يكذبك بعد بالدين} من قبيل تفريع النتيجة على الحجة وقوله: {أ ليس الله بأحكم الحاكمين} تتميم للحجة المشار إليها بما يتوقف عليه تمامها.
والمحصل أنه إذا كان الناس خلقوا في أحسن تقويم ثم اختلفوا فطائفة خرجت عن تقويمها الأحسن وردت إلى أسفل سافلين وطائفة بقيت في تقويمها الأحسن وعلى فطرتها الأولى والله المدبر لأمرهم أحكم الحاكمين، ومن الواجب في الحكمة أن تختلف الطائفتان جزاء، فهناك يوم تجزى فيه كل طائفة بما عملت ولا مسوغ للتكذيب به.
فالآيات – كما ترى – في معنى قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] ، وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وبعض من جعل الخطاب في قوله: {فما يكذبك} للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل {ما} بمعنى من والحكم بمعنى القضاء، وعليه فالمعنى إذا كان الناس مختلفين ولازم ذلك اختلاف جزائهم في يوم معد للجزاء فمن الذي ينسبك إلى الكذب بالجزاء أ ليس الله بأقضى القاضين فهو يقضي بينك وبين المكذبين لك بالدين.
وأنت خبير بأن فيه تكلفا من غير موجب.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص291-294.
تبدأ السّورة بالقسم أربع مرّات لبيان أمر مهم:
{والتّين، والزيتون}.
{وطور سينين}.(2)
{وهذا البلد الأمين}.
(التين) و(الزيتون) ثمرتان معروفتان، واختلف المفسّرون في المقصود بالتين وبالزيتون، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شيء آخر.
بعضهم ذهب إلى أنّهما الفاكهتان بما لهما من خواص عذائية وعلاجية كبيرة. وبعض آخر قال: المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي «دمشق» و«بيت المقدس» لأنّ المكانين منبَثَق كثير من الرسل والأنبياء.. وبذلك ينسجم هذان القَسمان مع ما يليهما من قَسمين بأراض مقدّسة.
وقال آخرون: إنّ تسمية الجبلين بالتين والزيتون يعود إلى وجود أشجار التين على أحدهما والزيتون على الآخر.
وقال بعضهم: إنّ التين إشارة إلى عهد آدم، إذ أنّ آدم وحواء طفقا يضعان على عوراتهما من ورق التين في الجنّة، والزيتون إشارة إلى عهد نوح لأنّه اطلق في آخر مراحل الطوفان حمامة فعادت وهي تحمل غصن الزيتون، ففهم نوح(عليه السلام)أن الأرض بدأت تبتلع ماءها وظهرت اليابسة. (لذلك اتخذ غصن الزيتون رمزاً للسلام).
وقيل: إنّ التين إشارة إلى مسجد نوح الذي بني فوق جبل الجودي. والزيتون إشارة إلى بيت المقدّس.
ظاهر الآية يدلّ على أنّ المقصود هو الفاكهتان المعروفتان، ولكن القَسمين التاليين يجعلان تفسير التين والزيتون بالجبلين أو المركزين المقدسين أنسب.
(طور سينين) قيل هو: طور سيناء، وهو الجبل المعروف في صحراء سيناء حيث أشجار الزيتون المثمرة، وحيث ذهب موسى لمناجاة ربّه، و«سيناء» تعني المبارك، أو كثير الأشجار، أو الجميل.
وقيل: إنّه جبل قرب الكوفة في أرض النجف.
وقيل: إنّ سينين وسيناء بمعنى واحد وهو كثير البركة.
{وهذا البلد الأمين}(3)، والبلد الأمين مكّة، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضاً بلداً آمناً وحرماً إلهياً، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد، المجرمون والقتلة كانوا في أمان إن وصلوا إليها أيضاً.
هذه الأرض لها في الإسلام أهمية عظمى، الحيوانات والنباتات والطيور فيها آمنة فما بالك بالإنسان.
ويذكر أنّ كلمة «التين» وردت في هذا الموضع من القرآن فقط، بينما كلمة الزيتون تكررت في ستة مواضع باللفظ وفي موضع بالإشارة حيث يقول سبحانه: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ } [المؤمنون: 20] وهي شجرة الزيتون.
إذا حملنا كلمتي «التين» و«الزيتون» على معناهما الظاهر الإبتدائي، فالقسم بها ذودلالة عميقة أيضاً.
«التين» فاكهة ذات مواد غذائية ثرّة، ولقمة مغذية ومقوية لمختلف الأعمار، وخالية من القشر والنواة والزوائد.
علماء الأغذية يقولون:
يمكن الإستفادة من التين كسكّر طبيعي للأطفال ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف الشيخوخة أن يستفيدوا من التين للتغذية.
يقال إنّ أفلاطون كان يحبّ التين إلى درجة اطلق بعضهم على هذه الفاكهة اسم محبوب الفلاسفة، وسقراط كان يرى في التين عاملاً على جذب المواد النافعة ورفع المواد الضارة.
جالينوس كان قد وضع نظام تغذية خاص للأبطال من التين، وكان الرومان واليونان القدماء يغذون أبطالهم بالتين.
علماء التغذية يقولون: التين مليء بالفيتامينات المختلفة والسكر، ويمكن الإستفادة منه لعلاج كثير من الأمراض، وحين تخلط نسب متساوية من التين والعسل يكون الخليط مفيداً لقرحة المعدة، وتناول التين اليابس يقوي الفكر، وبإيجاز التين، لما فيه من عناصر معدنية تؤدي إلى تعادل قوى البدن والدم، يعتبر غذاء لمختلف الأعمار والظروف.
وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «التين يذهب بالبخر ويشدّ الفم والعظم، وينبت الشعر، ويذهب بالداء، ولا يحتاج معه إلى دواء».
وقال(عليه السلام): «التين أشبه شيء بنبات الجنّة».(4)
وحول الزيتون، فإنّ العلماء الذين قضوا عمرهم في دراسة خواص النباتات يعيرون أهمية بالغة للزيتون وزيته. ويعتقدون أنّ الفرد إن أراد أن يعيش في سلامة دائمة فلابدّ له أن يستفيد من هذا الأكسير الحياتي.
زيت الزيتون صديق حميم لكبد الإنسان، وله تأثير فعّال في معالجة عوارض الكلى، وحصى الصفراء، والتشنجات الكليوية والكبدية، وإزالة الإمساك.
ولذلك ورد ذكر شجرة الزيتون في القرآن الكريم بعبارة: (شجرة مباركة).
وزيت الزيتون مفعم أيضاً بأنواع الفيتامينات وفيه الفوسفور والكبريت والكلسيوم والحديد والبوتاسيوم والمنغنيز
الضمادات التي تحضّر من زيت الزيتون والثوم مفيدة لأنواع الآلام الروماتيسمية، وحصى كيس الصفراء تزول بتناول زيت الزيتون.(5)
وروي عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قال: «ما أفقر بيت يأتدمون بالخل والزيت وذلك أدام الأنبياء»(6)، والزيت هو زيت الزيتون.
وعن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «نِعم الطعام الزيت، يطيب النكهة، ويذهب بالبلغم، ويصفي اللون، ويشدّ العصب، ويذهب بالوصب (المرض والألم والضعف) ويطفيء الغضب».(7)
ومسك الختام حديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال قال: «كلوا الزيت وادهنوا به فإنّه من شجرة مباركة»(8).
ثمّ يأتي جواب القسم.
{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}.
«تقويم» يعني تسوية الشيء بصورة مناسبة، ونظام معتدل وكيفية لائقة، وسعة مفهوم الآية يشير إلى أنّ اللّه سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كلّ الجهات، الجسمية والروحية والعقلية، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات، وأعدّه لتسلق سلّم السموّ، وهوـ وإن كان جرماً صغيراً ـ وضع فيه العالم الأكبر، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقاً لوسام: {ولقد كرمنا بني آدم}(4)، وهذا الإنسان هو الذي يقول فيه اللّه سبحانه بعد ذكر انتهاء خلقته: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] وهذا الإنسان بكل ما فيه من امتيازات، يهبط حين ينحرف عن مسيرة اللّه إلى «أسفل سافلين».
لذلك تقول الآية التالية:
{ثمّ رددناه أسفل سافلين}.
يقال إن قمم الجبال الشماء إلى جانبها دائماً وديان عميقة. وإزاء منحنيات الصعود في التكامل الإنساني توجد منحنيات نزول فظيعة، ولِمَ لا يكون كذلك وهو الموجود المليء بالكفاءات الثرّة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها على طريق الفساد يخلق أكبر مفسدة، وينزلق طبعاً إلى «أسفل سافلين».
ولكن الآية التالية تقول:
{إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}.
«ممنون»: من «المن» وتعني هنا القطع أو النقص، من هنا فالأجر غير مقطوع ولا منقوص، وقيل: إنّه خال من المنّة، لكن المعنى الأوّل أنسب.
قيل: إنّ قوله: {ثمّ رددناه أسفل سافلين} تعني ضعف الجسم والذاكرة في شيخوخة الإنسان، ولكن هذا التّفسير لا ينسجم مع الإستثناء المذكور في الآية التالية، ولذلك نختار التّفسير الأوّل.
الآية التالية تخاطب هذا الإنسان الكافر بأنعم ربّه والمعرض عن دلائل المعاد وتقول له: (فما يكذّبك بعد بالدين).
تركيب وجودك من جهة، وبنيان هذا العالم الواسع من جهة آُخرى يؤكّدان أن هذه الحياة الخاطفة لا يمكن أن تكون الهدف النهائي من خلقتك وخلقة هذا العالم الكبير.
هذه كلّها مقدمات لعالم أوسع وأكمل، وبالتعبير القرآني، هذه «النشأة» الاُولى» تنبيء عن «النشأة الاُخرى»، فلِمَ لا يتذكر الإنسان؟! {ولقد علمتم النشأة الاُولى فلولا تذكرون}.(9)
عالم النبات كلّ عام يجسّد مشهد الموت والبعث أمام عين الإنسان، وتطور الجنين خلقاً بعد خلق، إنّما هو في كلّ خلق معاد وحياة جديدة، فكيف ـ مع كلّ هذا ـ ينكر يوم الجزاء؟!
ممّا تقدم يتّضح أنّ المخاطب في الآية هذا النوع من الأفراد.
وقيل: إنّ المخاطب شخص النّبي، والمقصود من الآية هو: مع وجود أدلة المعاد، أي شخص أو أي شيء يستطيع تكذيبك، وهذا التّفسير يبدو بعيداً.
واتضح أيضاً أنّ المقصود من «الدين» ليس هو الشريعة بل هو يوم الجزاء، الآية التالية تؤيد ذلك.
{أليس اللّه بأحكم الحاكمين}.
هذا سؤال يستهدف حثّ الإنسان على الإعتراف بأنّه سبحانه أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله، فكيف يترك هذه الخلائق فلا يجازيهم.
وروي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حين كان يقرأ سورة التين، ويتلو قوله سبحانه: (أليس اللّه بأحكم الحاكمين) يقول: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».(10)
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15، ص404-409.
2 ـ قيل إنّ «سينين» جمع «سينه» وهي شجرة: ولما كان «طور» اسم جبل، فيكون القسم بالجبل المغطى بالأشجار، وقيل إن سينين اسم الأرض التي يرسو عليها ذلك الجبل. وقيل إنّه يعني كثير الخير والبركة، وجميل، بلسان أهل الحبشة (روح المعاني، ج30، ص173).
3 ـ «الأمين» على وزن فعيل بمعنى فاعل أي «ذو الأمانة» أو بمعنى مفعول أي الأرض
المأمونة لسكنتها.
4 ـ الكافي، ج6، ص358. وأورده العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار، ج66، ص184 روايات متعددة في حقل خواص التين، والمعلومات العلمية عن هذه الفاكهة منقولة عن كتاب «أوّل جامعة وآخر رسول» (فارسي)، ج9، ص90 وما بعدها.
5 ـ أول جامعة وآخر رسول، ج9، ص130 وما بعدها.
6 ـ بحار الانوار، ج66، ص180، حديث 6.
7 ـ المصدر السابق، ص183، حديث 22.
8 ـ المصدر السابق، ج182، حديث 16.
9 ـ راجع أدلة المعاد في تفسير سورة الواقعة.
10 ـ مجمع البيان، ج10، ص512.