تفسير سورة الشرح
قال تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 1 – 8].
أتم سبحانه تعداد نعمه على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {أ لم نشرح لك صدرك} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت أي رب أنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى قال فقال {أ لم أجدك يتيما فأويتك} قال قلت بلى قال {أ لم أجدك ضالا فهديتك} قال قلت بلى أي رب قال {أ لم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك} قال قلت بلى أي رب والمعنى أ لم نفتح لك صدرك ونوسع قلبك بالنبوة والعلم حتى قمت بأداء الرسالة وصبرت على المكاره واحتمال الأذى واطمأننت إلى الإيمان فلم تضق به ذرعا ومنه تشريح اللحم لأنه فتحه بترقيقه فشرح سبحانه صدره بأن ملأه علما وحكمة ورزقه حفظ القرآن وشرائع الإسلام ومن عليه بالصبر والاحتمال وقيل إنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان قد ضاق صدره بمعاداة الجن والإنس إياه ومناصبتهم له فأتاه من الآيات ما اتسع به صدره بكل ما حمله الله إياه وأمره به وذلك من أعظم النعم عن البلخي وقيل معناه أ لم نشرح صدرك بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق وعن ابن عباس قال سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقيل يا رسول الله أ ينشرح الصدر قال نعم قالوا يا رسول الله وهل لذلك علامة يعرف بها قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإعداد للموت قبل نزول الموت ومعنى الاستفهام في الآية التقرير أي قد فعلنا ذلك ويدل عليه قوله في العطف عليه {ووضعنا عنك وزرك} أي وحططنا عنك وزرك.
{الذي أنقض ظهرك} أي أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت عن الزجاج قال : وهذا مثل معناه أنه لوكان حملا لسمع نقيض ظهره وقيل إن المراد به تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسر له ومن عليه بذلك عن أبي عبيدة وعبد العزيز بن يحيى وقيل معناه وأزلنا عنك همومك التي أثقلتك من أذى الكفار فشبه الهموم بالحمل والعرب تجعل الهم ثقلا عن أبي مسلم وقيل معناه وعصمناك عن احتمال الوزر فإن المقصود من الوضع أن لا يكون عليه ثقل فإذا عصم كان أبلغ في أن لا يكون قال المرتضى قدس الله روحه إنما سميت الذنوب بأنها أوزار لأنها تثقل كاسبها وحاملها فكل شيء أثقل الإنسان وغمه وكده جاز أن يسمى وزرا فلا يمتنع أن يكون الوزر في الآية إنما أراد به غمه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بما كان عليه قومه من الشرك وأنه وأصحابه بينهم مقهور مستضعف فلما أعلى الله كلمته وشرح صدره وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة ليقابله بالشكر ويؤيده ما بعده من الآيات فإن اليسر بإزالة الهموم أشبه والعسر بإزالة الشدائد والغموم أشبه فإن قيل أن السورة مكية نزلت قبل أن يعلي الله كلمة الإسلام فلا وجه لقولكم قلنا أنه سبحانه لما بشره بأن يعلي دينه على الدين كله ويظهره على أعدائه كان بذلك واضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من أذى قومه ومبدلا عسره يسرا فإنه يثق بأن وعد الله حق ويجوز أيضا أن يكون اللفظ وإن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال كقوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ولهذا نظائر كثيرة.
{ورفعنا لك ذكرك} أي قرنا ذكرك بذكرنا حتى لا أذكر إلا وتذكر معي يعني في الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر عن الحسن وغيره قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا وينادي بأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في هذه الآية قال : قال لي جبرائيل قال الله عز وجل إذا ذكرت ذكرت معي وفي هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) :
أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
ثم وعد سبحانه اليسر والرخاء بعد الشدة وذلك أنه كان بمكة في شدة قال {فإن مع العسر يسرا} أي مع الفقر سعة عن الكلبي وقيل معناه أن مع الشدة التي أنت فيها من مزاولة المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك الله عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا أوكرها ثم كرر ذلك فقال {إن مع العسر يسرا} روى عطاء عن ابن عباس قال يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين فلن يغلب عسر يسرين وعن الحسن قال خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوما مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} قال الفراء : إن العرب تقول إذا ذكرت نكرة ثم أعدتها نكرة مثلها صارتا اثنتين كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما فالثاني غير الأول فإذا أعدتها معرفة فهي هي كقولك إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم فالثاني هو الأول و نحو هذا ما قال الزجاج : أنه ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين.
وقال صاحب كتاب النظم في تفسير هذه الآية : إن الله بعث نبيه وهو مقل مخف وكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا له إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة فكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذلك وظن أن قومه إنما يكذبوه لفقره فوعده الله سبحانه الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الهم فقال {فإن مع العسر يسرا} وتأويله لا يحزنك ما يقولون وما أنت فيه من الإقلال فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا ثم أنجز ما وعده فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز وما والاها من القرى العربية وعامة بلاد اليمن فكان يعطي المائتين من الإبل ويهب الهبات السنية ويعد لأهله قوت سنته ثم ابتدأ فصلا آخر فقال {إن مع العسر يسرا} والدليل على ابتدائه تعريه من فاء وواو وهو وعد لجميع المؤمنين لأنه يعني بذلك أن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهوما ذكر في الآية الأولى ويسر الآخرة وهوما ذكر في الآية الثانية فقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لن يغلب عسر يسرين أي يسر الدنيا والآخرة فالعسر بين يسرين أما فرج الدنيا وأما ثواب الآخرة وهذا الذي ذكره الجرجاني يؤيد ما ذهب إليه المرتضى قدس الله روحه من أن القائل إذا قال شيئا ثم كرره فإن الظاهر من تغاير الكلامين تغاير مقتضاهما حتى يكون كل واحد منهما مفيدا لما لا يفيده الآخر فيجب مع الإطلاق حمل الثاني على غير مقتضى الأول إلا إذا كان بين المتخاطبين عهد أو دلالة يعلم المخاطب بذلك أن المخاطب أراد بكلامه الثاني الأول فيحمله على ذلك وأنشد أبوبكر الأنباري :
إذا بلغ العسر مجهوده *** فثق عند ذاك بيسر سريع
أ لم تر نحس الشتاء الفظيع *** يتلوه سعد الربيع البديع
وأنشد إسحاق بن بهلول القاضي :
فلا تيأس وإن أعسرت يوما *** فقد أيسرت في دهر طويل
ولا تظنن بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل
فإن العسر يتبعه يسار *** وقول الله أصدق كل قيل
{فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} معناه فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وأرغب إليه في المسألة يعطك عن مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل والكلبي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) ومعنى انصب من النصب وهو التعب أي لا تشتغل بالراحة وقال الزهري : إذا فرغت من الفرائض فادع بعد التشهد بكل حاجتك وقال الصادق (عليه السلام) هو الدعاء في دبر الصلاة وأنت جالس وقيل معناه فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل عن ابن مسعود وقيل معناه فإذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربك وصل عن مجاهد والجبائي وقيل فإذا فرغت من الفرائض فانصب فيما رغبك الله فيه من الأعمال وصل عن ابن عباس وقيل إذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب بالعبادة لله عن الحسن وابن زيد وقيل فإذا فرغت من جهاد الأعداء فانصب بجهاد نفسك وقيل إذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب الشفاعة وسئل علي بن طلحة عن هذه الآية فقال القول فيه كثير وقد سمعناه أنه يقال إذا صححت فاجعل صحتك وفراغك نصبا في العبادة ويدل على هذا ما روي أن شريحا مر برجلين يصطرعان فقال : ليس بهذا أمر الفارغ إنما قال الله سبحانه {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} أي فارفع حوائجك إلى ربك ولا ترفعها إلى أحد من خلقه وقال عطاء : يريد تضرع إليه راهبا من النار وراغبا إلى الجنة .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص388-391.
قال الرازي : (يروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز ان هذه السورة وسورة الضحى واحدة ، وكانا يقرءانهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم اللَّه الرحمن الرحيم ، والذي دعاهما إلى ذلك هوان قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} كالعطف على قوله : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} . وقال صاحب مجمع البيان : روى أصحابنا – أي الشيعة الإمامية – انهما سورة واحدة لتعلق إحداهما بالأخرى ، وجمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة ، وكذلك في سورة ألم تر كيف . .
ولإيلاف قريش . وقال الشيخ المراغي : (نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى ، وهي شديدة الاتصال بما قبلها) . وقال صاحب الظلال : (نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى ، وكأنها تكملة لها) .
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . ضاق النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ذرعا بفساد المجتمع الذي كان يعيش فيه ، وحار في أمره وهو يلتمس الطريق لاصلاح قومه وهدايتهم حتى نزل عليه القرآن ، وأنار له السبيل إلى ما يبتغيه من صلاح وإصلاح ، فاطمأن قلبه وانشرح صدره {ووَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} . الوزر الحمل الثقيل ، والمراد به هنا همّ النبي وغمه لما كان عليه قومه من الشرك والضلال ، فأراح اللَّه نبيّه بالقرآن الكريم من الهمّ والغمّ ، وعليه يكون المراد من وضعنا عنك الخ هو عين المراد من ألم نشرح لك صدرك . ولا فرق إلا في الأسلوب والتعبير ، والغرض زيادة الإيضاح والتأكيد {ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} . وأي شيء أعلى وأرفع من اقتران اسم محمد باسم اللَّه ، وطاعته بطاعته {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهً} – 80 النساء . {ومَنْ يَعْصِ اللَّهً ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً} – 36 الأحزاب .
ومعنى هذا ان قول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) هو قول اللَّه بالذات .
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . المعنى واضح ، وهوان الشدة يعقبها الفرج عاجلا أو آجلا لأن المراد بمع هنا تأكيد الأمل في وقوع اليسر وان طال الزمن ، وليس المراد بها المصاحبة والمقارنة .
وتسأل : ما هو القصد من هذا التكرار : فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا ؟
الجواب : لا نرى له وجها إلا تأكيد هذه القضية في النفوس وتمكينها من القلوب لأنها موضع الشك والريب عند أكثر الناس أو الكثير منهم ، أما الرواية القائلة : {لن يغلب عسر يسرين} فقد تأملناها مليا ، وفهمنا اليسر الأول وانه كشف العسر ، ولكن لم نفهم اليسر الثاني . وقيل : هو ثواب الآخرة . وهذا أبعد من بعيد عن ظاهر اللفظ وسياق الآية لأنها تتكلم عن عسر الدنيا ويسرها ، وليس عن الآخرة وثوابها . . وأيضا قيل : ان العسر الثاني هو عين العسر الأول لأن كلا منهما مقرون بالألف واللام للجنس ، أما اليسر فقد أعيد على التنكير ، وإذا أعيدت النكرة كان المراد من الثاني غير المراد من الأول ! . . ولا يستند هذا القول إلى حجة ، وما هو إلا لعب بالألفاظ ، لأنك إذا قلت لخصمك : لي عليك درهمان . فقال : ان لك درهما ان لك درهما لا يكون هذا إقرارا منه بالدرهمين .
وحاول الشيخ محمد عبده ان يخالف بين العسرين ، لا بين اليسرين ، فقال :
المراد بالعسر الأول العسر المعهود عند المخاطبين ، أما العسر الثاني فأعم ، وقد أطال الشرح والبيان لتأييد رأيه ، ولكنه لم يأت بشيء تركن إليه النفس ، فإن المتبادر من العسر الأول هو عين المتبادر من الثاني ، ولا فرق بينهما في المبنى ولا في المعنى .
سؤال ثان : لقد رأينا كثيرا من الناس يلازمهم العسر حتى الممات ، ولا يتفق هذا مع ظاهر الآية ، فما هو الجواب ؟ .
الجواب : ان الحكم في الآية مبني على الأعم الأغلب ، لا على العموم والشمول . .
هذا ، إلى أنها تبعث الأمل في النفوس ، وتدفعها على العمل للخلاص مما تعانيه مع الاعتصام باللَّه والتوكل عليه .
{فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} المراد بالنصب هنا التعب ، والمعنى إذا فرغت يا محمد من العمل لأجل الحياة فاتعب واجتهد للحياة من أجل الآخرة . وتجدر الإشارة إلى ان بعض المأجورين للفتنة وبث النعرات بين أهل المذاهب الاسلامية قد نسب إلى الشيعة الإمامية انهم يفسرون كلمة فانصب في الآية الكريمة بأنصب عليا للخلافة . . ويكفي في الرد على هذا الافتراء ما قاله صاحب مجمع البيان ، وهومن شيوخ المفسرين عند الشيعة الإمامية ، قال عند تفسير هذه الآية ما نصه بالحرف : (ومعنى انصب من النصب ، وهو التعب أي لا تشتغل بالراحة) . {وإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} .
لا تتجه بقلبك لغير اللَّه ، ولا تستعن بأحد سواه . قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) :
إذا سألت فاسأل اللَّه ، وإذا استعنت فاستعن باللَّه ، واعلم انه لو اجتمعت الإنس والجن على ان ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك ، ولو اجتمعت على ان يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه اللَّه عليك .
________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص580-582.
أمر بالنصب في الله والرغبة إليه توصل إليه بتقدمة الامتنان والسورة تحتمل المكية والمدنية وسياق آياتها أوفق للمدنية.
وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الضحى وأ لم نشرح سورة واحدة، ويروى ذلك أيضا عن طاووس وعمر بن عبد العزيز قال الرازي في التفسير الكبير بعد نقله عنهما والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى: {أ لم نشرح لك} كالعطف على قوله: {أ لم يجدك يتيما} وليس كذلك لأن الأول كان نزوله حال اغتمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر، والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان انتهى.
وفيه أن المراد بشرح صدره (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية جعله بحيث يسع ما يلقى إليه من الحقائق ولا يضيق بما ينزل عليه من المعارف وما يصيبه من أذى الناس في تبليغها كما سيجيء لا طيب القلب والسرور كما فسره.
ويدل على ذلك ما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت: أي رب أنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى. قال: فقال: أ لم أجدك يتيما فآويتك؟ قال: قلت: بلى قال: أ لم أجدك ضالا فهديتك؟ قال: قلت: بلى أي رب. قال: أ لم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قال: قلت: بلى أي رب، وللكلام تتمة ستوافيك في تفسير سورة الإيلاف إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {أ لم نشرح لك صدرك} قال الراغب: أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال: شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي بسطته بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه قال تعالى: {رب اشرح لي صدري} {أ لم نشرح لك صدرك} {فمن شرح الله صدره} انتهى.
وترتب الآيات الثلاث الأول في مضامينها ثم تعليلها بقوله: {فإن مع العسر يسرا} الظاهر في الانطباق على حاله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوائل دعوته وأواسطها وأواخرها ثم تكرار التعليل ثم تفريع آيتي آخر السورة كل ذلك يشهد على كون المراد بشرح صدره (صلى الله عليه وآله وسلم) بسطه بحيث يسع ما يلقى إليه من الوحي ويؤمر بتبليغه وما يصيبه من المكاره والأذى في الله، وبعبارة أخرى جعل نفسه المقدسة مستعدة تامة الاستعداد لقبول ما يفاض عليها من جانب الله تعالى.
قوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} الوزر الحمل الثقيل، وإنقاض الظهر كسره بحيث يسمع له صوت كما يسمع من السرير ونحوه عند استقرار شيء ثقيل عليه، والمراد به ظهور ثقل الوزر عليه ظهورا بالغا.
ووضع الوزر إذهاب ما يحس من ثقله وجملة: {ووضعنا عنك وزرك} معطوفة على قوله: {أ لم نشرح} إلخ لما أن معناه قد شرحنا لك صدرك.
والمراد بوضع وزره (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يفيده السياق – وقد أشرنا إليه – إنفاذ دعوته وإمضاء مجاهدته في الله بتوفيق الأسباب فإن الرسالة والدعوة وما يتفرع على ذلك هي الثقل الذي حمله إثر شرح صدره.
وقيل: وضع الوزر إشارة إلى ما وردت به الرواية أن ملكين نزلا عليه وفلقا صدره وأخرجا قلبه وطهراه ثم رداه إلى محله وستوافيك روايته.
وقيل: المراد بالوزر ما صدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة، وقيل: غفلته عن الشرائع ونحوها مما يتوقف على الوحي مع تطلبه، وقيل: حيرته في بعض الأمور كأداء حق الرسالة، وقيل: الوحي وثقله عليه في بادىء أمره، وقيل: ما كان يرى من ضلال قومه وعنادهم مع عجزه عن إرشادهم، وقيل: ما كان يرى من تعديهم ومبالغتهم في إيذائه، وقيل: همه لوفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة، وقيل: الوزر المعصية ورفع الوزر عصمته، وقيل: الوزر ذنب أمته ووضعه غفرانه.
وهذه الوجوه بعضها سخيف وبعضها ضعيف لا يلائم السياق، وهي بين ما قيل به وبين ما احتمل احتمالا.
قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} رفع الذكر إعلاؤه عن مستوى ذكر غيره من الناس وقد فعل سبحانه به ذلك، ومن رفع ذكره أن قرن الله اسمه (صلى الله عليه وآله وسلم) باسمه فاسمه قرين اسم ربه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، وعلى كل مسلم أن يذكره مع ربه كل يوم في الصلوات الخمس المفروضة، ومن اللطف وقوع الرفع بعد الوضع في الآيتين.
قوله تعالى: {فإن مع العسر يسرا} لا يبعد أن يكون تعليلا لما تقدم من وضع الوزر ورفع الذكر فما حمله الله من الرسالة وأمر به من الدعوة – وذلك أثقل ما يمكن لبشر أن يحمله – كان قد اشتد عليه الأمر بذلك، وكذا تكذيب قومه دعوته واستخفافهم به وإصرارهم على إمحاء ذكره كان قد اشتد عليه فوضع الله وزره الذي حمله بتوفيق الناس لإجابة دعوته ورفع ذكره الذي كانوا يريدون إمحاءه وكان ذلك جريا على سنته تعالى في الكون من الإتيان باليسر بعد العسر فعلل رفع الشدة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أشار إليه من سنته، وعلى هذا فاللام في {العسر} للجنس دون الاستغراق ولعل السنة سنة تحول الحوادث وتقلب الأحوال وعدم دوامها.
وعن الزمخشري في الكشاف، أن الفاء في {فإن مع العسر} إلخ فصيحة والكلام مسوق لتسليته (صلى الله عليه وآله وسلم) بالوعد الجميل.
قال: كان المشركون يعيرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال: إن مع العسر يسرا كأنه قال: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا.
وظاهره أن اللام في العسر للعهد دون الجنس وأن المراد باليسر ما رزقه الله المؤمنين بعد من الغنائم الكثيرة.
وهو ممنوع فذهنه الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يخفى عليه حالهم وأنهم إنما يرغبون عن دعوته استكبارا على الحق واستعلاء على الله على أن القوم لم يرغبوا في الإسلام حتى بعد ظهور شوكته وإثراء المؤمنين وقد أيأس الله نبيه من إيمان أكثرهم حيث قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [يس: 7 – 10] والآيات مكية وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6] والآية مدنية.
ولو حمل اليسر بعد العسر على شوكة الإسلام ورفعته بعد ضعته مع أخذ السورة مكية لم يكن به كثير بأس.
قوله تعالى: {إن مع العسر يسرا} تكرار للتأكيد والتثبيت وقيل: استئناف وذكروا أن في الآيتين دلالة على أن مع العسر الواحد يسران بناء على أن المعرفة إذا أعيدت ثانية في الكلام كان المراد بها عين الأولى بخلاف النكرة كما أنه لو قيل: إذا اكتسبت الدرهم أو درهما فأنفق الدرهم كان المراد بالثاني هو الأول بخلاف ما لو قيل: إذا اكتسبت درهما فأنفق درهما وليست القاعدة بمطردة.
والتنوين في {يسرا} للتنويع لا للتفخيم كما ذكره بعضهم، والمعية معية التوالي دون المعية بمعنى التحقق في زمان واحد.
قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متفرع على ما بين قبل من تحميله الرسالة والدعوة ومنه تعالى عليه بما من من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر وكل ذلك من اليسر بعد العسر.
وعليه فالمعنى إذا كان العسر يأتي بعده اليسر والأمر فيه إلى الله لا غير فإذا فرغت مما فرض عليك فأتعب نفسك في الله – بعبادته ودعائه – وارغب فيه ليمن عليك بما لهذا التعب من الراحة ولهذا العسر من اليسر.
وقيل: المراد إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل، وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، وما يتضمنه القولان بعض المصاديق.
وقيل: المعنى إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة وقيل: المراد إذا فرغت من دنياك فانصب في آخرتك وقيل غير ذلك وهي وجوه ضعيفة.
_________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص286-289.
نِعَم إلهية:
سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف ربّ العالمين لنبيّه الكريم.
أهم هبة إلهية تشير إليها الآية الاُولى: {ألم نشرح لك صدرك}.
«الشرح»: في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ توسعة قطع اللحم بتحويلها إلى شرائح أرق. و«شرح الصدر» سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند اللّه، و«شرح معضلات الحديث» التوسّع فيه وتوضيح معانيه الخفية، و«شرح الصدر» في الآية كناية عن التوسعة في فكر النّبي وروحه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع، تشمل السعة العلمية للنّبي عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل أيضاً توسعة قدرة النّبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين.
ولذلك حين اُمر موسى بن عمران(عليه السلام) بدعوة فرعون: {اذهب إلى فرعون إنّه طغى} دعا ربّه وقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 25، 26].
وفي موضع آخر يخاطب اللّه نبيّه بقوله سبحانه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [القلم: 48] أي لا تكن كيونس الذي ترك الصبر فوقع في المشاكل ولاقى أنواع الإرهاق.
وشرح الصدر يقابله «ضيق الصدر»، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97].
ولا يمكن أساساً لقائد كبير أن يجابه العقبات دون سعة صدر. ومن كانت رسالته أعظم (كرسالة النّبي الأكرم) كانت الضرورة لشرح صدره أكبر،… كي لا تزعزعه العواصف ولا تثني عزمه الصعاب ولا تبعث في نفسه اليأس مكائد الأعداء، ولا يضيق بالملتوي من الأسئلة. وهذه كانت أعظم هبة إلهية لرسول ربّ العالمين.
لذلك روي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أسأله. قلت: أي ربّ إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحي الموتى .قال، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قال: قلت: بلى. قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قال: قلت: بلى أي ربّ، قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك ؟ قال: قلت: بلى أي ربّ(2).
وهذا يعني أنّ نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء. والمتمعّن في دراسة حياة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما فيها من مظاهر تدل على شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق يدرك بما لا يقبل الشك أن الأمر لم يتأت لرسول اللّه بشكل عادي، بل إنّه حتماً تأييد إلهي ربّاني.
وقيل أنّ شرح الصدر إشارة لحادثة واجهت الرّسول في طفولته حين نزلت عليه الملائكة فشقّت صدره وأخرجت قلبه وغسلته، وملأته علماً وحكمة ورأفة ورحمة.(3)
المقصود طبعاً من القلب في هذه الرّواية ليس القلب الجسماني، بل إنّه كناية وإشارة إلى الإمداد الإلهي من الجانب الروحي، وإلى تقوية إرادة النّبي وتطهيره من كل نقص خلقي ووسوسة شيطانية.
ولكن، على أي حال، لا يتوفر عندنا دليل على أنّ الآية الكريمة مختصة بالحادثة المذكورة، بل لها مفهوم واسع، وقد تكون هذه القصّة أحد مصاديقها.
وبسعة الصدر هذه اجتاز الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه، وأدّى رسالته خير أداء.
ثمّ يأتي ذكر الموهبة الثّانية.
{ووضعنا عنك وزرك} أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل.
{الذي انقض ظهرك}.
«الوزر» بمعنى الثقل، ومنها «الوزير» الذي يحمل أعباء الدولة، وسمّيت الذنوب «وزراً» لأنّها تثقل كاهل صاحبها.
«انقض» من (النقض) أي حلّ عقدة الحبل، أو فصل الأجزاء المتماسكة من البناء، و «الإنتقاض» صوت انفصال اجزاء البناء عن بعضها، أو صوت فقرات الظهر حين تنوء بعبء ثقيل.
والكلمة تستعمل أيضاً في نكث العهود وعدم الإلتزام بها، فيقال نقض عهده.
والآية تقول إذن، اللّه سبحانه وضع عنك أيّها النّبي ذلك الحمل الثقيل القاصم الظهر.
وأي حمل وضعه اللّه عن نبيّه؟ القرائن في الآيات تدل على أنّه مشاكل الرسالة والنّبوّة والدعوة إلى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبيّ الإسلام وحده بل كلّ الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى، وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل.. نزوله.
وقيل أيضاً: أنّ «الوزر» يعني ثقل «الوحي» في بداية نزوله.
وقيل: إنّه عناد المشركين وتعنتهم.
وقيل: إنّه أذاهم.
وقيل: إنّه الحزن الذي ألمّ بالنّبي لوفاة عمّه أبي طالب وزوجه خديجة.
وقيل: أيضاً إنّه العصمة وإذهاب الرجس.
والظاهر أنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره والتفاسير الأُخرى تفريع من التّفسير الأوّل.
وفي الموهبة الثّالثة يقول سبحانه.
{ورفعنا لك ذكرك}
فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم اللّه سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء على المآذن. والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد اللّه في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف.
وأي فخر أكبر من هذا؟ وأي منزلة أسمى من هذه المنزلة.
وروي عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية قال: «قال لي جبرائيل قال اللّه عزّوجلّ: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي». {وكفى بذلك منزلة}.
والتعبير بكلمة (لك) تأكيد على رفعة ذكر النّبي رغم كل عداء المعادين وموانع الصّادين.
وقد ذكرنا أنّ هذه السّورة مكّية، بينما الآية الكريمة تتحدث عن انتشار الإسلام، وتجاوز عقبات الدعوة، وإزالة الأعباء التي كانت تثقل كاهل الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وارتفاع ذكر النّبي في الآفاق… وهذا ما حدث في المدينة لا في مكّة.
قيل: إنّ السّورة تبشّر النّبي بما سيلقاه في المستقبل، وكان ذلك سبباً لزوال الحزن والهم من قلبه، وقيل أيضاً: إنّ الفعل الماضي هنا يعني المستقبل.
ولكن الحق أنّ قسماً من هذه الاُمور قد تحقق في مكّة خاصّة في أواخر السنين الثلاث عشرة الاُولى من الدعوة قبل الهجرة، تغلغل الإيمان في قلوب كثير من النّاس وخفّت وطأة المشاكل، وذاع صيت النّبي في كلّ مكان، وتهيأت الأجواء لإنتصارات أكبر في المستقبل.
شاعر النّبي «حسان بن ثابت» ضمّن معنى الآية الكريمة في أبيات جميلة، وقال:
وضمّ الإله اسم النّبي إلى اسمه إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش «محمود» وهذا «محمّد»
الآية التالية تبشّر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأعظم بشرى، وتقول:
{فإنّ مع العسر يسراً}
ويأتي التأكيد الآخر:
{إنّ مع العسر يُسراً}.
لا تغتمّ أيّها النّبي، فالمشاكل والعقبات لا تبقى على هذه الحالة، ودسائس الأعداء لن تستمر، وشظف العيش وفقر المسلمين سوف لا يظلّ على هذا المنوال.
الذي يتحمل الصعاب، ويقاوم العواصف سوف ينال يوماً ثمار جهوده، وستخمد عربدة الأعداء، وتحبط دسائسهم، ويتمهّد طريق التقدم والتكامل ويتذلل طريق الحق.
بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ هذه الآيات تشير إلى فقر المسلمين في معيشتهم خلال الفترة الاُولى من الدعوة، لكن المفهوم الواسع للآيات يستوعب كلّ ألوان المشاكل. اُسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبزمانه، بل بصورة قاعدة عامّة مستنبطة ممّا سبق. وتبشّر كلّ البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة، وتقول لها: كّل عسر إلى جانبه يسر، ولم ترد في الآية كلمة «بعد» بل «مع» للدلالة على الإقتران.
نعم، كلّ معضلةً ممزوجة بالإنفراج، وكلّ صعوبة باليسر، والإقتران قائم بين الإثنين أبداً.
وهذا الوعد الإلهي يغمر القلب نوراً وصفاءً. ويبعث فيه الأمل بالنصر، ويزيل غبار اليأس عن روح الإنسان(4).
وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «واعلم أنّ مع العسر يسراً، وأنّ مع الصبر النصر، وأنّ الفرج مع الكرب…».(5)
وروي أنّ إمرأة شكت زوجها لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)، لعدم إنفاقه عليها، وكان الزوج معسراً فأبى علي أن يسجن الزوج وقال للمرأة: إنّ مع العسر يسراً (ودعاها إلى الصبر).(6)
{فإذا فرغت فانصب} أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمّة اُخرى، فلا مجال للبطالة والعطل. كن دائماً في سعي مستمر ومجاهدة دائمة، واجعل نهاية أية مهمّة بداية لمهمّة آُخرى.
{وإلى ربّك فارغب}، أي فاعتمد على اللّه في كلّ الاحوال.
اطلب رضاه، واسع لقربه.
الآيتان ـ حسب ما ذكرناه ـ لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كلّ مهمّة. وبالتوجه نحواللّه في كلّ المساعي والجهود، لكن أغلب المفسّرين ذكروا معاني محددة لهما يمكن أن يكون كلّ واحد منها مصداقاً للآيتين.
قال جمع منهم: المقصود، إنّك إذا فرغت من فريضة الصلاة فادع اللّه واطلب منه ما تريد.
أو: عند فراغك من الفرائض إنهض لنافلة الليل.
أو: عند فراغك من اُمور الدنيا ابدأ بأمور الآخرة والصلاة وعبادة الربّ.
أو: عند فراغك من الواجبات توجه إلى المستحبات التي حثّ عليها اللّه.
أو: عند فراغك من جهاد الأعداء انهض إلى العبادة.
أو: عند فراغك من جهاد الأعداء ابدأ بجهاد النفس.
أو: عند انتهائك من أداء الرسالة انهض لطلب الشفاعة.
الحاكم الحسكاني ـ عالم أهل السنة المعروف ـ روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)في «شواهد التنزيل» في تفسير الآية إنّها تعني: «إذا فرغت فانصب عليّاً بالولاية»(7).
القرطبي في تفسيره روى عن بعضهم أنّ معنى الآية: «إذا فرغت فانصب إماماً يخلفك». (لكنّه ردّ هذا المعنى)(8).
موضوع «الفراغ» في الآية لم يذكر، وكلمة «فانصب» من النصب أي التعب والمشقّة، ولذلك فالآية تبيّن أصلاً عاماً شاملاً. وهدفها أن تحث النّبي باعتباره القدوة ـ على عدم الخلود إلى الراحة بعد انتهائه من أمر هام. وتدعوه إلى السعي المستمر.
انطلاقاً من هذا المعنى يتّضح أنّ التفاسير المذكورة للآية كلّها صحيحة، ولكن كل واحد منها يقتصر على مصداق معين من هذا المعنى العام.
وما أعظم العطاء التربوي لهذا الحثّ، وكم فيه من معاني التكامل والإنتصار!! البطالة والفراغ من عوامل الملل والخمول والتقاعس والإضمحلال. بل من عوامل الفساد والسقوط في أنواع الذنوب غالباً.
وحسب الإحصائيات، مستوى الفساد عند عطلة المؤسسات التعليمية يرتفع إلى سبعة أضعاف أحياناً.
وبإيجاز، هذه السّورة تبيّن بمجموعها عناية ربّ العالمين الخاصّة للنّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتسلية قلبه أمام المشاكل، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدى القرآن.
________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص393-398.
2 ـ مجمع البيان، ج10، ص508.
3 ـ تفسير الدر المنثور (نقلاً عن تفسير الميزان، ج20، ص452) وتفسير الفخر الرازي،
ج32، ص2. وهذه الرّواية ذكرها البخاري والترمذي والنسائي أيضاً في قصّة المعراج.
4 ـ ممّا ذكرنا يتّضح أنّ الألف واللام في (العسر) للجنس لا للعهد، و(يسراً) وردت نكرة، لكنّها
تعني الجنس أيضاً، وتنكيرها في مثل هذه المواضع للتعظيم.
5 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص604، حديث 11، 13.
6 ـ المصدر السابق.
7 ـ شواهد التنزيل: ج2، ص349، الاحاديث 1116 إلى 1119.
8 ـ القرطبي، ج10، ص7199.