تفسير سورة الكوثر
قال تعالى : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوالْأَبْتَرُ } [الكوثر : 1 – 3]
تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على وجه التعداد لنعمه عليه فقال {إنا أعطيناك الكوثر} اختلفوا في تفسير الكوثر فقيل هو نهر في الجنة عن عائشة وابن عمر قال ابن عباس لما نزلت إنا أعطيناك الكوثر صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) المنبر فقرأها على الناس فلما نزل قالوا يا رسول الله ما هذا الذي أعطاك الله قال نهر في الجنة أشد بياضا من اللبن وأشد استقامة من القدح حافتاه قباب الدر والياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت قالوا يا رسول الله ما أنعم تلك الطير قال أ فلا أخبركم بأنعم منها قالوا بلى قال من أكل الطائر وشرب الماء وفاز برضوان الله .
وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال نهر في الجنة أعطاه الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عوضا من ابنه وقيل هو حوض النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة عن عطاء وقال أنس بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاء ثم رفع رأسه مبتسما فقلت ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ سورة الكوثر ثم قال أ تدرون ما الكوثر قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه عليه ربي خيرا كثيرا هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج القرن منهم فأقول يا رب إنهم من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك أورده مسلم في الصحيح وقيل الكوثر الخير الكثير عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقيل هو النبوة والكتاب عن عكرمة وقيل هو القرآن عن الحسن وقيل هو كثرة الأصحاب والأشياع عن أبي بكر بن عياش وقيل هو كثرة النسل والذرية وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (عليها السلام) حتى لا يحصى عددهم واتصل إلى يوم القيامة مددهم وقيل هو الشفاعة رووه عن الصادق (عليه السلام) واللفظ يحتمل للكل فيجب أن يحمل على جميع ما ذكر من الأقوال فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى الخير الكثير في الدنيا ووعده الخير الكثير في الآخرة وجميع هذه الأقوال تفصيل للجملة التي هي الخير الكثير في الدارين .
{فصل لربك وانحر} أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة بأن قال فصل صلاة العيد لأنه عقبها بالنحر أي وانحر هديك وأضحيتك عن عطاء وعكرمة وقتادة وقال أنس بن مالك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ينحر قبل أن يصلي فأمر أن يصلي ثم ينحر وقيل معناه فصل لربك صلاة الغداة المفروضة بجمع وانحر البدن بمنى عن سعيد بن جبير ومجاهد وقال محمد بن كعب إن أناسا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يكون صلاته ونحره للبدن تقربا إليه وخالصا له وقيل معناه فصل لربك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك وتقول العرب منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا يعني يستقبله وأنشد :
أبا حكم هل أنت عم مجالد *** وسيد أهل الأبطح المتناحر
أي ينحر بعضه بعضا وهذا قول الفراء وأما ما رووه عن علي (عليه السلام) أن معناه ضع يدك اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة فمما لا يصح عنه لأن جميع عترته الطاهرة (عليهم السلام) قد رووه بخلاف ذلك وهو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة وعن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله {فصل لربك وانحر} هو رفع يديك حذاء وجهك وروى عنه عبد الله بن سنان مثله وعن جميل قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) {فصل لربك وانحر} فقال بيده هكذا يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة .
وعن حماد بن عثمان قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ما النحر فرفع يده إلى صدره فقال هكذا ثم رفعها فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة وروي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لما نزلت هذه السورة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لجبريل (عليه السلام) ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع فإن لكل شيء زينة وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) رفع الأيدي من الاستكانة قلت وما الاستكانة قال أ لا تقرأ هذه الآية {فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} أورده الثعلبي والواحدي في تفسيرهما .
{إن شانئك هو الأبتر} معناه إن مبغضك هو المنقطع عن الخير وهو العاص بن وائل وقيل معناه أنه الأقل الأذل بانقطاعه عن كل خير عن قتادة وقيل معناه أنه لا ولد له على الحقيقة وأن من ينسب إليه ليس بولد له قال مجاهد الأبتر الذي لا عقب له وهو جواب لقول قريش إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا عقب له يموت فنستريح منه ويدرس دينه إذ لا يقوم مقامه من يدعو إليه فينقطع أمره وفي هذه السورة دلالات على صدق نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وصحة نبوته (أحدها) أنه أخبر عما في نفوس أعدائه وما جرى على ألسنتهم ولم يكن بلغه ذلك فكان على ما أخبر .
(وثانيها) أنه قال {أعطيناك الكوثر} فانظر كيف انتشر دينه وعلا أمره وكثرت ذريته حتى صار نسبه أكثر من كل نسب ولم يكن شيء من ذلك في تلك الحال (وثالثها) أن جميع فصحاء العرب والعجم قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها مع تحديه إياهم بذلك وحرصهم على بطلان أمره منذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى يومنا هذا وهذا غاية الإعجاز (ورابعها) أنه سبحانه وعده بالنصر على أعدائه وأخبره بسقوط أمرهم وانقطاع دينهم أو عقبهم فكان المخبر على ما أخبر به هذا وفي هذه السورة الموجزة من تشاكل المقاطع للفواصل وسهولة مخارج الحروف بحسن التأليف والتقابل لكل من معانيها بما هو أولى به ما لا يخفى على من عرف مجاري كلام العرب .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص459-461 .
تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ} . الكوثر مبالغة في الكثرة ، واختلفوا : ما هو المراد بهذه الكثرة البالغة ، وأقرب الأقوال إلى الافهام ما نقله المفسرون عن ابن عباس وسعيد بن جبير من ان المراد بالكوثر هنا جميع نعم اللَّه على رسوله الأعظم لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة التي لا حد ولا حصر لها ، وقيل لسعيد : ان أناسا يقولون : ان الكوثر نهر في الجنة . فقال : {إن هذا النهر من الخير الكثير الذي أعطاه اللَّه لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) . . ولكن الطغاة المترفين يستخفون بهذا الكوثر ولا يرونه شيئا ، ويقولون عن الرسول الأعظم : {لَولا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} – 12 هود .
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} . بعد أن ذكّر سبحانه نبيه الكريم بما أعطاه من النعم أمره بالشكر ، وأن تكون صلاته ونسكه للَّه وحده . وفي رواية ان المراد بالنحر هنا رفع اليدين حذاء الوجه عند استقبال القبلة للصلاة {إِنَّ شانِئَكَ هُو الأَبْتَرُ} .
هذه جملة مستأنفة ، والشانئ المبغض من الشنآن بمعنى العداوة ، واختلفوا في المراد من الأبتر ، وأقرب الأقوال ان عدو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) هباء لا أثر له ولا ذكر ، أما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأثره فباق ببقاء اللَّه ، وأكثر المفسرين على ان أحد المشركين قال :
محمد أبتر لا ولد له ، فأخبر سبحانه ان هذا القائل هو الأبتر ، وان كان له أولاد . . ولا مانع من الجمع بين المعنيين .
قال الشيخ محمد عبده : {ان شانئ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يشنؤه لشخصه لأن شخصه كان محببا إلى النفوس ، وانما كان الشانئون يشنئون ويمقتون ما جاء به من الهدى . . وممن يشنأ ما جاء به الرسول ، ويدخل فيما يضمه معنى الأبتر أولئك الذين يتركون كتاب اللَّه ، ويتمسكون بالظنون وأقوال غير المعصومين . .
ويلصقون البدع بالدين ، فإذا ذكّروا بالقرآن لووا رؤسهم . . فلا عجب ان ترى الغضب الإلهي يتبعهم في كل مكان ، ويقذف بهم من ذلة إلى ذلة وهم لا يشعرون بل ويضحكون} .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص616-617 .
تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
امتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعطائه الكوثر وتطييب لنفسه الشريفة بأن شانئه هو الأبتر ، وهي أقصر سورة في القرآن وقد اختلفت الروايات في كون السورة مكية أومدنية ، والظاهر أنها مكية ، وذكر بعضهم أنها نزلت مرتين جمعا بين الروايات .
قوله تعالى : {إنا أعطيناك الكوثر} قال في المجمع ، الكوثر فوعل وهو الشيء الذي من شأنه الكثرة ، والكوثر الخير الكثير ، انتهى .
وقد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافا عجيبا فقيل : هوالخير الكثير ، وقيل نهر في الجنة ، وقيل : حوض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة أوفي المحشر ، وقيل : أولاده وقيل : أصحابه وأشياعه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة ، وقيل : علماء أمته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقيل القرآن وفضائله كثيرة ، وقيل النبوة وقيل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل : الإسلام وقيل التوحيد ، وقيل : العلم والحكمة ، وقيل : فضائله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقيل المقام المحمود ، وقيل : هو نور قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غير ذلك مما قيل ، وقد نقل عن بعضهم أنه أنهى الأقوال إلى ستة وعشرين .
وقد استند في القولين الأولين إلى بعض الروايات ، وباقي الأقوال لا تخلو من تحكم وكيفما كان فقوله في آخر السورة : {إن شانئك هو الأبتر} وظاهر الأبتر هو المنقطع نسله وظاهر الجملة أنها من قبيل قصر القلب – أن كثرة ذريته (صلى الله عليه وآله وسلم) هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المراد بها الخير الكثير وكثرة الذرية مرادة في ضمن الخير الكثير ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله : {إن شانئك هو الأبتر} خاليا عن الفائدة .
وقد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله ، وبذلك يندفع ما قيل : إن مراد الشانىء بقوله : {أبتر} المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فرد الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير .
ولما في قوله : {إنا أعطيناك} من الامتنان عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) جيء بلفظ المتكلم مع الغير الدال على العظمة ، ولما فيه من تطييب نفسه الشريفة أكدت الجملة بإن وعبر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك .
والجملة لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة (عليها السلام) ذريته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة .
قوله تعالى : {فصل لربك وانحر} ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة والنحر على الامتنان في قوله : {إنا أعطيناك الكوثر} إنه من شكر النعمة والمعنى إذا مننا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة والنحر .
والمراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن علي (عليه السلام) وروته الشيعة عن الصادق (عليه السلام) وغيره من الأئمة هورفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر .
وقيل : معنى الآية صل لربك صلاة العيد وانحر البدن ، وقيل : يعني صل لربك واستو قائما عند رفع رأسك من الركوع وقيل غير ذلك .
قوله تعالى : {إن شانئك هو الأبتر} الشانىء هو المبغض والأبتر من لا عقب له وهذا الشانىء هو العاص بن وائل .
وقيل : المراد بالأبتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه ، وقد عرفت أن روايات سبب نزول السورة لا تلائمه وستجيء .
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص344-345 .
تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
اعطيناك الخير العميم
الحديث في كلّ هذه السّورة موجّه إلى النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (مثل سورة والضحى ، وسورة ألم نشرح) ، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النّبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء .
تقول له أوّلاً : {إنّا أعطيناك الكوثر} .
و«الكوثر» : من الكثرة ، وبمعنى الخير الكثير ، ويسمى الفرد السخي كوثراً .
وفي معنى «الكوثر» ورد أنّه لما نزلت سورة الكوثر صعد رسول للّه (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فقرأها على النّاس . فلما نزل قالوا : يارسول اللّه ما هذا الذي أعطاك اللّه ؟ قال : «نهر في الجنّة أشدّ بياضاً من اللبن ، وأشدّ استقامة من القدح ، حافتاه قباب الدر والياقوت . . .» . (2)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في معنى الكوثر قال : «نهر في الجنّة اعطاه اللّه نبيّه عوضاً من ابنه» (3) .
وقيل : هو حوض النّبي الذي يكثر النّاس عليه يوم القيامة .
وقيل : هو النّبوة والكتاب ، وقيل : هو القرآن . وقيل : كثرة الأصحاب والأشياع . وقيل : هو كثرة النسل والذرية وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (عليها السلام) حتى لا يحصى عددهم ، واتصل إلى يوم القيامة مددهم ، وروي عن الصادق (عليه السلام) أنّه الشفاعة (4)
الفخر الرازي نقل خمسة عشر رأياً في تفسير الكوثر ، ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو «الخير الكثير» .
نعلم أنّ اللّه سبحانه أعطى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) نعماً كثيرة ، منها ما ذكره المفسّرون في معنى الكوثر وغيرها كثير ، وكلّها يمكن أن تكون تفسيراً مصداقياً للآية .
على أي حال ، كلّ الهبات الإلهية لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير ، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات ، بل حتى علماء اُمته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كلّ زمان ومكان .
ولا ننسى أنّ كلام اللّه سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السّورة كان قبل ظهور الخير الكثير . فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد ، إخبار إعجازي يشكل دليلاً آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .
هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً ، وإنّ كان المخلوق لا يستطيع أداء حقّ نعمة الخالق أبداً . إذ أنّ توفيق الشكر نعمة اُخرى منه سبحانه . ولذا يقول سبحانه لنبيّه : {فصل لربّك وانحر} .
نعم ، واهب النعم هو سبحانه . لذلك ليس ثمّة معنى للعبادات إن كانت لغيره . خاصّة وإن كلمة (ربّ) تعني استمرار النعمة والتدبير والربوبية .
بعبارة اُخرى ، العبادات ، سواء كانت صلاة أم نحراً ، تختص بالربّ وولي النعمة ، وهو اللّه سبحانه وتعالى .
والأمر بالصلاة والنحر للربّ مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها ، بينما كانوا يرون نعمهم من اللّه . وتعبير (لربّك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات .
كثير من المفسّرين يعتقدون أنّ الآية تقصد صلاة عيد الأضحى والنحر فيه . لكن مفهوم الآية عام وواسع . وصلاة عيد الأضحى والنحر فيه من مصاديق الآية البارزة .
عبارة «وانحر» من النحر ، وهو ذبح الناقة . وقد يكون ذلك لأهمية الناقة بين أنواع الأضاحي . والمسلمون الأوائل كانوا يعتزون بالإبل ، ونحرها يحتاج إلى إيثار كثير .
وذكر للآية المباركة تفسيران آخران .
1 ـ المقصود من كلمة (وانحر) أن استقبل القبلة في الصلاة . لأنّ النحر أعلى الصدر ، والعرب تستعمل الكلمة لإستقبال الشيء فيقولون : منازلنا تتناحر ، أي تتقابل .
2 ـ المقصود رفع اليد عند النحر لدى التكبير ولذا ورد في الرّواية أنّه لما نزلت هذه السّورة قال النّبي (صلى الله عليه واله وسلم) لجبريل : «ما هذه النحيرة (5) التي أمرني بها ربّي ؟» قال : «ليست بنحيرة ، ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت ، فإنّه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع . فإن لكلّ شيء زينة ، وإنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة» (6) .
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنّه أشار بيده وقال : «هكذا» . أي استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة (رفع يديه جاعلاً كفه مقابل القبلة) (7) .
والتّفسير الأوّل أنسب ، لأنّ المقصود هو الردّ على أعمال المشركين الذين كانوا يعبدون وينحرون لغير اللّه ، ولكن لا مانع من الجمع بين هذه المعاني ، خاصّة وقد وردت بشأن رفع اليد عند التكبير روايات كثيرة في كتب الشيعة والسنة . وبذلك يكون للآية مفهوم جامع يشمل هذه المعاني أيضاً .
وفي آخر آية يقول اللّه سبحانه لنبيّه ردّاً على ما وَصَمه به المشركون : {إنّ شانئك هو الأبتر} .
«الشانيء» هو المعادي من «الشنان» ـ على وزن ضربان ـ وهو العداء والحقد .
و«أبتر» في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب (8) . وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لإنتهاك الحرمة والإهانة . وكلمة (شانيء) فيها ايحاء بأنّ عدوك لا يراعي أية حرمة ولا يلتزم بأي أدب ، أي أنّ عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة . والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع : إنّكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول اللّه .
من جهة اُخرى ، كما ذكرنا في سبب نزول السّورة ، قريش كانت تترقب انتهاء الرسالة بوفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّهم كانوا يقولون : إنّ النّبي بلا عقب . والقرآن يقول للنّبي : «لست بلا عقب ، بل شانئك بلا عقب» .
____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص559-562 .
2 ـ مجمع البيان ، ج10 ، ص549 .
3 ـ المصدر السابق .
4 ـ المصدر السابق .
5 ـ «النحيرة» آخر الشهر ، لأنّ الإنسان يستقبل فيه الشهر الجديد . وسؤال النّبي لجبريل عن هذا الإستقبال للشهر الجديد ، لذلك قال له جبريل : ليست بنحيرة .
6 ـ مجمع البيان ، ج10 ، ص550 .
7 ـ المصدر السابق .
8 ـ مجمع البيان ، ج1 ، ص548 .