مقالات

صناعة الإنسان في فكر الإمام الجواد (عليه السلام)

لو أننا عزمنا على خوض غمار بحر الإمام الجواد (عليه السلام) المتلاطم الأمواج لاحتجنا لملايين الأسفار بُغية تقييد نُزر يسير من ألوان المعارف السلوكية والإصلاحية في مضمار تربية الإنسان، وإذ كان ذاك فنحن إذاً عاجزون عن اللمح والاستخراج ولا يكاد يصل مقالنا هذا إلى بدايات ضفاف وشواطئ هذا البحر اللجّي، ونحن على يقين تام أن كل صورة نرسمها هي ناقصة لا محال، وكل وصف نُطلقه هو صفر إلى الشمال، ولكن ليس لنا أن نستسلم للقنوط أو يتولانا اليأس لذلك لا بأس من المساس بجواهره الوعظية لكون جوهرها ذا علاقة بقائلها ومقامه وقربه من الله جلّ في علاه، عسانا أن نتطبع بمسيسها ونتنسم شذاها ونتزود منها الزاد الذي يديم زخم العطاء في نفوسنا، فمن (قصد البحر استقل السواقيا) كما يقول المتنبي. فعظمة وصاياه (عليه السلام) تكمن في أنها تنقل الإنسان نقلة نوعية إلى الأمام، وتدفعه نحو اقتناص كل مأثرة تثري سلوكه وتقومه وترفع من رصيد مهاراته وتهبه الصمود بوجه التغييرات الحياتية، بل إنها تُمثِّل وسيلة لفهم الإنسان نفسه.. كيف لا وقد خرجت من فم إنسان له روح شماء تتوق نفسه لتربية مجتمع سوي، بعد أن خبر الحياة بعقله الراجح وبقلبه الذي يضج بالمعرفة اللدنية التي تغور وراء الظواهر، ونظر للأمر بمنظار الوعي الثاقب، لذلك كان حكيماً تمام الحكمة عندما أرشد، وعندما أصلح، وعندما وعظ، واضعاً كل شيء في موضعه.. ومن بين باقة الكلمات العسجدية التي جرت على لسانه (عليه السلام) والتي أفاد بها كل إنسان نبيه يطمح في ترقي أنماطه وطباعه الحياتية، ما يلي: التفنن في التعامل مع الواقع هناك سبل يسَّرها لنا الإمام الجواد (عليه السلام) تُعين الإنسان على حل الأزمات والصمود بوجه المتغيرات، ويعد حسن الظن بالله وتوكيل الأمر إليه تعالى في طليعة تلك السُبل، لأن مسالك البشر من دون توفيقه سبحانه لن تكون درعاً يصد بلاء ما ينزل في ساحة أحدهم، فليس للإنسان أن يعتمد على مكره أو حيلته في حل أزمة غزته أو ملمّة ألمّت به من هنا أو هناك، فيقول (عليه السلام): (التوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو)، وأيضاً عنه (عليه السلام): (من توكّل على الله كفاه الأمور)، من هنا وجب على الإنسان أن يحسن الظن بالله ويثق به ثقة عمياء، ويتيقن تمام اليقين أنه جل في علاه القوة المطلقة، وهو المدبر الذي يفتح لنا سبل وطرق المعالجة لتحديات الحياة، أما السبيل الثاني الذي يدار به الأزمة من وجهة نظر الإمام (عليه السلام) كان هو الصبر، وهذا الأخير يعتبر وبجدارة محكَّ قوة وصلابة الإنسان بوجه المحن وما أكثرها في حياته، يقول (عليه السلام): (من طلب البقاء فليعد للمصائب قلباً صبوراً)، وقد أثبتت التجربة في الواقع المعاش أن الصبر الجميل هو الذي يغير مسار الكثير من الأمور وكفاه إنه يطوق الأزمة ويعمل على محاصرتها وعدم تفاقمها، فيصبّر الإنسان أو يتصبر بحيث لا يرى عليه آثار الانكسار أو الضعف حتى لا يشمت به عدو وعند ذاك يزداد الطين بلّة، فقد أراد الإمام (عليه السلام) للإنسان أن يواجه أزمته بصبر وثبات حتى تكون النتيجة عكسية على الشامت، فقال (عليه السلام): (الصبر على المصيبة مصيبة للشامت)، وكانت الخبرة التي تولدت من التجربة طريقة وقائية ثالثة يُطلعنا عليها الإمام تقينا العاقبة المتعبة، فالإنسان كائن يصاحبه النقص والعوز في مجمل مفاصل حياته وفي مختلف مراحلها لذلك عليه أن يستفيد من تجاربه وتجارب غيره على حدٍ سواء، فيقول (عليه السلام): (من انقاد إلى الطمأنينة قبل الخبرة، فقد عرض نفسه للهلكة والعاقبة المتعبة)، وقال(ع): (من لم يعرف الموارد أعيته المصادر)، وقال (عليه السلام): (من ركب مركب العمر اهتدى إلى مضمار النصر). جاهد الأهواء كما تجاهد الأعداء لما كانت الرغبات شديدة الرسوخ في النفس الإنسانية، والحياة تملؤها المغريات، ما كان على الإنسان إلا أن يكون في مواجهة مستمرة مع عاديات كل هذا وذاك، فنفسه الأمارة بالسوء من جهة ومحيطه الموبوء من الأخرى يريدان منه أن يقع أسير هواه، وما أخطر أن يعيش الإنسان تحت رحمة هواه ويسعى لرضاه ويأتمر بأمره وينتهي بنهاه عندما لا يرى ولا يسمع سواه، فمثل هكذا إنسان تكون نهايته الخسران والخذلان، لذلك سعى الإمام (عليه السلام) أن يحرر الإنسان من طوق الهوى فيعيش حراً لا عبداً له، فما الهوى إلا عدوٌّ متبع كما عبر عنه (عليه السلام) عندما قال: (من أطاع هواه أعطى عدوَّه مناه)، فمستوى تمكن الشيطان من الإنسان بحسب مقدار رسوخ الهوى فيه، وكأنها نسبة وتناسب مابين هذا وذاك، فما أجمل الدرس الذي ألقاه (عليه السلام) لنا عندما أوصى رجلاً طلب الرشد من معين علمه (عليه السلام): (توسَّد الصَّبر واعتنق الفقر، وارفض الشَّهوات، وخالف الهوى، واعلم أنَّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون)، وأيضاً عنه (عليه السلام): (لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه)، ليس هذا فحسب بل إن الإمام (عليه السلام) يرى أن تمدد الهوى في روح الإنسان يجلب له المتاعب التي لا حصر لها فيقع دائماً في المطبات والمنزلقات في حياته لأنه لا يتورع عن عمل الموبقات، لأن الهوى يُشكل حاجزاً فولاذياً يمنع العقل من التعقل والتفكير السليم، وهذا عين ما نبه عليه (عليه السلام) عندما قال: (راكب الشهوات لا تستقال له عثرة)، فالأولى بالإنسان الحاذق أن لا يخاطر براحة باله، بل عليه أن يجتهد في أن يجعل حياته مستقرة هانئة وهذا لا يقع ما لم تكن له إرادة صلبة تردع وتصد عاديات الأهواء التي تكون سبباً لكل بلاء. تهذيب الجوارح والجوانح الجوارح هي أدوات الإنسان في حراكه نحو الفلاح الدنيوي والأخروي، لذلك لها حق مستطيل عليه، والاعتناء بها وتكريمها وتهذيبها أولوية لا مسألة ثانوية بالنسبة إليه، فيبدأ الإمام الجواد (عليه السلام) من محل نظر الإله وهو القلب، فيرى (عليه السلام) أن قلب الإنسان هو الذي يصنع الفارق في العمل، كون العمل المدعوم بإخلاص قلبي هو الذي يخرق الحجب السبعة وما سواه هو عناء بلا ثمر، لذلك يريد (عليه السلام) من الإنسان أن يسير إلى الله بقلبه لا بقدمه، فيقول (عليه السلام): (القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)، وجعل القلب السليم النقي واحداً من ثلاث يُجلب بهن المحبة وحتى يكون الإنسان ناجحاً اجتماعياً، فقال (عليه السلام): (ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة، الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانطواع والرجوع إلى قلب سليم)، هكذا يشدد الإمام (عليه السلام) بأن تكون نية الإنسان قائمة بالخير مترعة بالنقاء وإن عجز بدنه عن العمل والأداء، وبذلك ينأى الإنسان بنفسه عن النفاق الاجتماعي البغيض، فما أجمل قوله (عليه السلام) عندما قال: (من شهد أمراً فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده)، فالإمام يريد أن يرسل لنا رسالته والتي مفادها: إن باطن الإنسان يجب أن يكون أفضل من ظاهره، فالسرائر هي سيدة المواقف. ثم يُعرج الإمام (عليه السلام) على اللسان الذي يصفه بأنه أخطر الجوارح في الإنسان، كونه مجلباً للشقاء ومسبباً للعناء، فمن الممكن أن يلقى الإنسان مصيراً بالغ السوء بسبب عثراته، فقد ورد عنه (عليه السلام): (مقتل الرجل بين فكيه) فإذا ما كان ذاك وجب على الإنسان أن يكون حذراً الحذر كله في كل ما يخرج منه، وأصبح لِزاماً عليه تهذيبه وإكرامه بترك فضول القول والتطفل في الكلام وتعويده رياضة الطيب وتجميله بحُسن الحديث وترويضه على مفردات الخير حتى يعود ذلك عادة له، فيكون مجمل ما يتفوه به المرء ذا نفع عام يصيب به ومن خلاله خير الدنيا وسعادة الآخرة. ثم يجيء بعد ذاك دور السمع الذي يلتقط ما يصدر عن اللسان، فيقول (عليه السلام) مخاطباً لكل مهتم بشأن تطهير وتنزيه سمعه: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان النّاطق عن الله فقد عبد الله; وإن كان النّاطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس)، فالنص الجوادي يخاطبنا ويدعونا للانضواء تحت مظلة السلوك القويم والذي يتطلب التوقي الشديد والحذر الجَّم من بعض الآفات اللسانية من قبيل الغيبة والنميمة والفحش والبذاء والهذر واللغو والغناء، فالسمع يستقبل كل ما يطلقه اللسان من أسباب الخير والشر وجميع ألوان مفرداتهما، ومن الخطأ والخطورة أن نترك الحبل على الغارب فنطلق العنان لإسماعنا تلتقط كل ما طرقها. ونحن على أعتاب هذا المجلس الثقافي الرحيب لجواد العترة الهادية علينا أن نقترب أكثر وأكثر من موائد تلك المواعظ الغراء التي امتلكت زخماً عالياً من الثراء الأخلاقي، فنتعلم منها ونُعلم ونتربى فيها ونُربي ونتغير بها ونُغير، وعلى الجميع التنبه إليه واقتفاء أثرها والذوبان في معانيها واستثمارها بشكل كلي وترجمتها سلوكاً وتجسيدها عملاً.. فهي بحق تصنع إنساناً سوياً راقياً

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى