حمزة بن عبد المطلب .. وفاء وفداء
أسد الله، وأسد رسوله، وسيد الشهداء، وعمّ سيد النبيين والمرسلين، وناصر دعوته، والمضحي بدمه في سبيل إرساء قواعد الإسلام ونشره في ربوع الأرض. كان لوجوده في معسكر النبي في بدر وأحد أثراً بارزاً في نصرة الإسلام لما يشكله من مصدر رعب في قلوب الكفار لشجاعته وبأسه، فقد أقضَّ مضاجعَ المشركين وضعضع معنوياتهم وأذلَّ ساداتهم ووذلل كبرياءهم، فلم يهدأ لهند بنت عتبة أم معاوية وآكلة الأكباد بال وقد قتل الحمزة أباها عتبة، حتى أرسلت وحشياً لقتله في معركة أحد، ولم يشفِ غليلها حتى شقت بطنه وأخرجت كبده وأكلتها.
حمزة… جهاد مكلل بالشهادة
تعد فترة إسلام حمزة هي ذروة حياته وجذوة تأريخه وخاصة دوره العظيم في نصرة الرسول والإسلام في معركتي بدر وأحد التي تكللت فيها حياته الشريفة بالشهادة في سبيل الله لذا فسيقتصر هذا الموضوع على هذه الفترة المهمة في حياة الحمزة كونها قد أوجزت ملامح شخصيته العظيمة.
حمزة في بدر وأحد
ستة رجال في صَفَّين مختلفَين يتوقّف عليهم مجرى التاريخ.
إنها لحظة تقرِّر موقف السماء والأرض، لحظة الحسم التي يتبيّن بعدها الأفق الأبيض أو الأسود من الإسلام أو الكفر.
ستة رجال يتوقف على أيديهم هذين المصيرين.
ستة رجال تتطلع إليهم الأزمان والأجيال وهم في برزخ الغيب، فعلى أيدي هؤلاء الستة يتحدَّد مصير أمة بأكملها فإما الجنة وإما النار، إما الهدى وإما الضلال، إما الحرية والكرامة والمساواة والإخاء والعدل والفضيلة والنجاة، وإما العبودية والجاهلية والاستعباد والاستبداد والظلم والقهر والطبقية والرذيلة والهاوية.
ثلاثة رجال وقفوا يمثلون الجبهة الأولى أمام ثلاثة مثلوا الجبهة الثانية، ومشى الخصمان لملاقاة بعضهما، فلا يسمع إلا وقع أقدامهم فالعيون مترقّبة والآذان صاغية والجميع متلهّف لما سيؤول إليه هذا النزال.
ولو عرضت كاميرا التاريخ هذا المشهد الرهيب لعجز الفكر عن التعبير واغرورقت العيون بالدموع وحُبست الأنفاس وتنفّست الصدور الصعداء.
إنها اللحظة التي تشرق فيها الحقيقة وتنطلق منها إلى آفاق النور، أو تطمس فيها ويسود بدلاً عنها الظلام الدامس وغياهب الجهل.
المبارزة المصيرية
هناك حقيقة حقيقة مهمة قد تُخفى على الكثير في هذه المبارزة، فبلا شك إن القارئ قد عرف من هؤلاء الرجال الستة، وعرف أيضاً من هؤلاء الثلاثة الذين يمثلون جبهة الإسلام، ومن هم الذين مثلوا جبهة الكفر، ولكن رب سائل يسأل: إن الثلاثة الأوائل الذين مثلوا جبهة الإسلام كانوا ضمن جيش تعداده أكثر من ثلاثمائة مقاتل، أما الثلاثة الذين مثلوا جبهة الكفر فقد كانوا ضمن جيش قوامه حوالي ألف مقاتل، فلِمَ هذا التوجّس والتوتّر والترقّب على نتيجة هذه المبارزة التي لا تغير من المعادلة شيئاً يذكر ؟
فأي من الثلاثة لا يشكّلون عدداً مهماً بالنسبة إلى الجيش الذي ينضمون إليه، فما الداعي لإعطاء هذه المبارزة هذه الأهمية القصوى التي يتم على نتائجها تحديد مصير النصر أو الهزيمة ؟
فلربما تغيرت المعادلة بعد هذه الجولة وانقلبت موازين القوى للخاسر فيها فينتصر في النهاية وهذا ما يحدث كثيراً في الحروب، فالجيش الذي يضم في صفوفه (313) مقاتل وهو تعداد جيش المسلمين أو (1000) مقاتل وهو تعداد جيش المشركين لا تكون خسارته فادحة عندما يخسر ثلاثة من رجاله، فلم التركيز والاعتماد الكلي على هذه المبارزة من قبل الجانبين ؟
ولنترك الجواب للتاريخ ونترقّب حيثيات ذلك النزال وأحداثه لنجد الجواب جلياً في ما قيل عنه من حقائق لا تقبل الاحتمالات والاستنتاجات الذاتية بل نجد جواباً قاطعاً مُفحماً لا يدع أدنى شك للسائل على أهمية ذلك النزال القصوى والتي تتحدد عليه نتيجة أحد الفريقين.
الأكفاء
في تلك اللحظة برز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعوا المسلمين إلى المبارزة، فبرز إليهم ثلاثة رجال من الأنصار وهم بنوا عفراء معاذ ومعوذ وعوف بنوا الحارث، فأنف المشركون القرشيون مبارزتهم ورفضوا وقالوا لهم: (ارجعوا فما لنا بكم حاجة).
ثم نادى عتبة رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا). فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ولحمزة بن عبد المطلب ولعلي بن أبي طالب: (قوموا فقاتلوا بحقكم إذ جاؤوكم بباطلهم)، فتقدم هؤلاء الثلاثة إلى العدو فلما صاروا بإزاء الثلاثة المشركين قال عتبة: (تكلّموا نعرفكم، فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم)، فقال حمزة: (أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله)، فقال عتبة: (كفؤ كريم ومن هذان معك) ؟ قال: (علي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب)، فقال عتبة: (كفؤان كريمان).
هذا ينجلي بعض الجواب حيث يتوضّح ما يشكّله كل من هؤلاء الثلاثة للجيش الذي يمثله من قوة ورهبة وشجاعة، في تلك اللحظة استقبل رسول الله القبلة واتجه بكل نفسه وروحه إلى ربه وقال: (اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد).
ـ اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد …
وهل أبلغ وأعمق وأكمل وأوضح من هذا الجواب وهو الحقيقة الناصعة التي اتضحت مباشرة بعد هذه المبارزة الثلاثية.
الإسلام كله في مواجهة الكفر كله
لقد مثل علي وحمزة وعبيدة الإسلام كله بكل ما يحمله من معنى، كما مثل عتبة وشيبة والوليد الكفر كله بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وها هم يقفون وجهاً لوجه، وانتصار أحد الفريقين يعني انتصار الجيش كله بل وانتصار ما يعتقد به من مفاهيم والعكس بالعكس.
التقى الفريقان وكان من الطبيعي أن يبارز كل واحد منهم من يناسبه في السن فبارز علي الوليد وكانا أصغر القوم ولعلي يومئذ من العمر حوالي عشرين سنة، وبارز حمزة عتبة وكانا أوسط القوم وعمر حمزة سبع وخمسون سنة، وبارز عبيدة شيبة وهما أسن القوم وكان لعبيدة من العمر سبعون عاماً فما كانت النتيجة ؟
كان علي أول من أنجز مهمته بنجاح، فضرب الوليد ضربة على رأسه شقّه إلى نصفين فتعالت أصوات المسلمين بالتكبير وهم يرون بريق ذي الفقار يقطر من دم الوليد، ثم تكرر التكبير بقتل عتبة على يد الحمزة بعد قتال عنيف، أما عبيدة وشيبة فقد ضرب كل واحد منها الآخر في نفس الوقت فوقعت ضربة عبيدة على رأس شيبة فأردته قتيلاً ووقعت ضربة شيبة على ساق عبيدة فقطعتها وسقط الإثنان، وحمل كل فريق من الجيشين صاحبهم، فحمل علي والحمزة عبيدة ووضعاه أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله).
إشراق الهدى على بريق السيوف
لقد سقى عبيدة غرس الإسلام بدمه ملبياً دعوة السماء بعد أن قتل عدواً له، فنظر إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يبتسم غير آبه بالجراح، فقد أنسته فرحة النصر والنظر إلى وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألم الجرح فقال للنبي: لو كان أبو طالب حياً لعلم أنني أقررت عينه حين قال:
كذبتم وبيتِ اللهِ نُخلي محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضلِ
وننصرُه حتى نصرّعَ حوله *** ونذهلُ عن أبنائنا والحلائلِ
ما أروعها من لحظات تلك التي تحيل الإنسان فيها إلى عالم السمو والخلود، لقد تيقّن عبيدة معنى الإسلام وحقيقة النبوة فآمنت روحه الطاهرة بهما وأشرقت بنورهما حتى فاضت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريق العودة إلى المدينة.
لقد حسم هؤلاء الثلاثة الأمر، وانتصر الإسلام في أول وأهم جولاته مع الكفر على أيديهم، ودافعوا عن الدعوة وجوهر الرسالة بسيوفهم، وذادوا عنه بأرواحهم، ووقفوا برؤوسهم الشامخة وهم يعلنون كلمة الحق في الأفق، وينشرون دعوة السماء في الأرض، دعوة النور والهدى، وهنا تتضح أهمية تلك المبارزة التي وضعت اللبنة الأولى للإسلام، كما تتضح أهمية المبارزين ودورهم العظيم في تأسيس الإسلام وإرساء دعائمه ورسم منهجه القويم.
وكان لمقتل هؤلاء على يد حمزة وعلي وعبيدة السبب الرئيسي في انهيار جيش المشركين وتفرقهم وانهزامهم وكتب الله النصر للمسلمين، ونستطيع القول إن تلك المبارزة قد أوجزت معركة بدر ورجحت كفة أحد الفريقين قبل التحام الجيشين، إذ تصدى عينة الجيشين وشجعانهم الذين يتحدد على أيديهم النصر لبعضهما.
ونجد إشارة إلى ذلك عند الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) فقد روى السيد المرتضى في (الأمالي) (ج2ص275): (أن الخليفة هارون العباسي استدعى الإمام الكاظم (عليه السلام) فحاوره هارون فأفحمه الإمام في الجواب، وكان في المجلس رجل من الأنصار فلما خرج الإمام أراد الأنصاري أن يتزلف لهارون وينتقص من الإمام بالكلام، فقال له هارون: لا تقدر على ذلك، ولكن الأنصاري لم يأخذ بنصيحة هارون، فخرج خلف الإمام حتى لحق به وقد ركب الإمام بغلته، فأمسك الأنصاري بلجام البغلة وقال للإمام: من أنت ؟ فقال الإمام: أنا الذي ما رضي مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء لهم، خل عن البغلة فارتعد الأنصاري وابتعد مخزيّا)
ويتضح من هذه المحاورة أن هؤلاء الستة هم أعمدة الجيشين، فإذا انهارت تلك الأعمدة من أحد الجانبين تقوّض الجيش في ذلك الجانب، وهو ما حصل فعلاً بعد تلك المبارزة. لقد أنجز الله وعده لرسوله في بدر ونصره وأيده فكانت بدر هي القبس الذي أشرق من نور الإسلام لمحق غياهب الجاهلية.