مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 118-120)

قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 – 120].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات  (1) :

نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومخالطتهم، خوف الفتنة منهم عليهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي: صدقوا {لا تتخذوا بطانة من دونكم} أي: لا تتخذوا الكافرين أولياء، وخواص من دون المؤمنين تفشون إليهم أسراركم.

وقوله {من دونكم} أي: من غير أهل ملتكم. ثم بين تعالى العلة في منع مواصلتهم، فقال: {لا يألونكم خبالا} أي: لا يقصرون فيما يؤدي إلى فساد أمركم، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم. وقال الزجاج: لا يتقون في القائكم فيما يضركم. قال: وأصل الخبال ذهاب الشئ. وقوله: {ودوا ما عنتم} معناه تمنوا ادخال المشقة عليكم. وقيل: تمنوا اضلالكم عن دينكم، عن السدي. وقيل:

تمنوا أن يعنتوكم في دينكم أي: يحملونكم على المشقة فيه، عن ابن عباس.

وقوله {قد بدت البغضاء من أفواههم} معناه: ظهرت امارة العداوة لكم على ألسنتهم، وفي فحوى أقوالهم، وفلتات كلامهم. {وما تخفي صدورهم من البغضاء أكبر} مما يبدون بألسنتهم {قد بينا لكم الآيات} أي: أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي بها يتميز الولي من العدو {ان كنتم تعقلون} أي: تعلمون الفضل بين الولي والعدو. وقيل: إن كنتم تعلمون مواعظ الله ومنافعها. وقيل: إن كنتم عقلاء فقد آتاكم الله من البيان الشافي.

{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}

ثم بين سبحانه ما هم عليه من عداوة المؤمنين، تأكيدا للنهي عن مصافاتهم، فقال: {ها أنتم أولاء تحبونهم}. وقد مر ذكر معناه في الاعراب، وتقديره: ها أنتم الذين تحبونهم، أو ها أنتم أولاء محبين إذا قلنا إنه بمعنى الحال أي: تنبهوا في حال محبتكم إياهم، ولا يحبونكم هم لما بينكم من مخالفة الدين.

وقيل: تحبونهم تريدون لهم الاسلام، وتدعونهم إلى الجنة {ولا يحبونكم} لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال، وفيه الهلاك. {وتؤمنون بالكتاب كله} الكتاب واحد في معنى الجمع، لأنه أراد الجنس، كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس.

ويجوز أن يكون مصدرا من قولك: كتبت كتابا، والمراة به كتب الله التي أنزلها على أنبيائه. وفي افراده ضرب من الايجاز، واشعار بالتفصيل في الاعتقاد، ومعناه:

انكم تصدقون بها في الجملة والتفصيل من حيث تؤمنون بما أنزل على إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، وعليهم وسائر الأنبياء، وهم لا يصدقون بكتابكم.

{وإذا لقوكم قالوا آمنا} معناه: إذا رأوكم قالوا: صدقنا {وإذا خلوا} مع أنفسهم {عضوا عليكم الأنامل أي: أطراف الأصابع {من الغيظ} أي: من الغضب والحنق، لما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم، ونصرة الله إياهم. وهذا مثل: وليس هناك عض، كقول الشاعر:

إذا رأوني أطال الله غيظهم، عضوا من الغيظ، أطراف الأباهيم وقول أبي طالب: {يعضون غيظا خلفنا بالأنامل}. {قل} يا محمد لهم {موتوا بغيظكم} صيغته صيغة الامر، والمعنى الدعاء، فكأنه قال: أماتكم الله بغيظكم.

وفيه معنى الذم لهم، لأنهم لا يجوز أن يدعي عليهم هذا الدعاء، الا وقد استحقوه بما أتوه من القبيح. وقيل: معناه دام هذا الغيظ لما ترون من علو كلمة الاسلام إلى أن تموتوا {ان الله عليم بذات الصدور} أي: بما يضمرونه من النفاق والغيظ على المسلمين.

{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}

ثم أخبر سبحانه عن حال من تقدم ذكرهم، فقال: {ان تمسسكم حسنة} أي: تصبكم أيها المؤمنون نعمة من اله تعالى عليكم بها من الفه، أو اجتماع كلمة، أو ظفر بالأعداء {تسؤهم} أي: تحزنهم {وان تصبكم سيئة} أي:

محنة بإصابة العدو منكم لاختلاف الكلمة، وما يؤدي إليه من الفرقة، {يفرحوا بها}، هذا قول الحسن وقتادة والربيع، وجماعة من المفسرين. {وان تصبروا} على أذاهم، وعلى طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله، والجهاد في سبيله {وتتقوا} الله بالامتناع عن معاصيه، وفعل طاعته {لا يضركم} أيها الموحدون {كيدهم} أي:

مكر المنافقين، وما يحتالون به عليكم {شيئا} أي: لا قليلا، ولا كثيرا، لأنه تعالى ينصركم، ويدفع شرهم عنكم {ان الله بما يعملون محيط} أي: عالم بذلك من جميع جهاته، مقتدر عليه، لان أصل المحيط بالشئ: هو المطيف به من حواليه، وذلك من صفات الأجسام، فلا يليق به سبحانه.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص372-375.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

بِطانَةً السوء :

تكلم سبحانه في الآيات السابقة عن أهل الكتاب والمشركين والمرتدين الذين كفروا بعد ايمانهم ، وتوعد الجميع ، وألزمهم الحجة ، ثم أمر المسلمين بتقوى اللَّه ، والاعتصام بحبله ، والأمر بالمعروف ، بعد هذا كله حذر سبحانه المسلمين من الكافرين الذين يضمرون السوء للإسلام والمسلمين ، ويتمنون لهم الويلات والعثرات ، حذرهم بقوله :

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } . وهذا بظاهره نهي للمسلمين عن كل من ليس على دينهم ، دون استثناء ، وعليه يتجه الاعتراض التالي :

المعروف عن رؤساء الأديان في جميع الطوائف انهم يبثون بين أتباعهم روح العداء والتعصب ضد أهل الطوائف الأخرى ، وهذا هو القرآن يسير على نفس الطريق ، حيث أمر المؤمنين به بالتباعد عن غيرهم ، وحذرهم أن يتخذوا أولياء وخواصا إلا منهم وفيهم . . اذن ، أين التساهل والتسامح في الإسلام ؟ وأي فرق بين المسلمين ، وبين اليهود الذين قال بعضهم لبعض : « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » ؟

الجواب : ان الآية لم تحذر المسلمين من غيرهم من حيث انهم لا يدينون بدين الإسلام . . كلا ، وانما حذرتهم من الذين ينصبون لهم المكائد والمصائد ، وهذا المعنى صريح في قوله تعالى : { لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا } أي يجتهدون ، ولا يقصرون في مضرتكم ، وإفساد الأمر عليكم ، وفي قوله : { وَدُّوا ما عَنِتُّمْ } أي يتمنون لكم العنت والمشقة ، وفي قوله : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ) أي الطعن في دينكم ونبيكم وقرآنكم . { وما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } مما يفيض على ألسنتهم . . وأيضا من أوصاف الذين حذر اللَّه منهم { وإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } . . { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } . كل هذه الأوصاف هي السبب الموجب للنهي عن اتخاذ البطانة . . وعلى هذا فكل من يتصف بهذه الأوصاف يجب الابتعاد عنه ، ولا يجوز اتخاذه بطانة ، سواء أحمل اسم مسلم ، أو أي اسم آخر .

نحن الآن في سنة 1967 ، وفي 5 حزيران من هذه السنة دفع الاستعمار بإسرائيل إلى الاعتداء على الأراضي العربية ، بعد أن مهد لها السبيل حثالة من صراصير الاستعمار ، تنتمي بدينها إلى المسلمين وبقوميتها إلى العرب . . وهذه الحثالة أعظم جرما عند اللَّه من الملحدين والمشركين الذين كفوا الأذى عن غيرهم . . إذن ، المسألة مسألة شر وخيانة وآثام ، لا مسألة كفر ، وعدم اسلام .

وتسأل : إذا كان الأمر كما ذكرت فلما ذا قال تعالى { مِنْ دُونِكُمْ } ولم يقل من الخائنين المفسدين ؟

الجواب : ان الآية نزلت في بعض المسلمين الذين كانوا يواصلون اليهود – كما قال المفسرون – وبديهة ان العبرة بالسبب الموجب لتشريع الحكم ، لا بسبب نزوله ، وتطبيقه على مورد من الموارد ، وبكلمة ان الحكم يتبع ظاهر اللفظ إذا لم نعلم بسببه ، أما إذا كنا على يقين من سببه التام فيكون مدار الحكم على السبب ، لا على ظاهر اللفظ .

{ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . المراد بالآيات هنا العلامات الفارقة بين الذي يصح أن يتخذ بطانة ، والخبيث الذي يجب الابتعاد عنه . { ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ } . ظاهر الخطاب انه موجه إلى جماعة تنتمي إلى الإسلام ، ولا يصح ان يتوجه إلى جميع المسلمين لا في العصر الأول ، ولا في غيره ، إذ لم يعهد ان كلمة المسلمين اتفقت على حب الكافرين في يوم من الأيام .

وقال الطبري شيخ المفسرين ، وتبعه كثير ، قالوا ما معناه ان حب المسلمين لمن يكرههم من الكافرين دليل على ان الإسلام دين الحب والتساهل .

هذا سهو من الطبري ومقلديه ، لأن الإسلام لا يتساهل أبدا مع المفسدين والخائنين ، ولا شيء أدل على ذلك من هذه الآية نفسها التي فسّرها الطبري بالتساهل .

والذي نراه ان المسألة ليست مسألة تساهل ، وانما هي مسألة خيانة ونفاق من بعض من انتسب إلى الإسلام ، وفي الوقت نفسه يتجسس على المسلمين لحساب عدو الوطن والدين ، كما هو شأن عملاء الاستعمار اليوم المعروفين بالطابور الخامس ، وبالمرتزقة والانتهازيين ، لأنهم يبيعون دينهم ووطنهم لكل من يدفع الثمن .

{ وتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ } . الألف واللام في الكتاب للجنس ، والمعنى انكم تؤمنون بكل كتاب منزل من اللَّه سواء أنزل عليكم أم عليهم ، ولستم مثلهم يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض .

{ وإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا } . رياء ونفاقا . . ولا ينبغي للمؤمن أن يوالي المنافقين والمراءين .

{ وإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } . عضوا عليكم الأنامل كناية عن حقدهم ولؤمهم ، ولا شيء يغيظ العدو مثل الفضيلة والخلق الكريم ، ومثل الائتلاف واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، وما تمكن العدو من المسلمين قديما وحديثا الا لشتاتهم وتفتيت وحدتهم . { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } . هذا مثل قول العرب لمن يدعون عليه : « مت بدائك » أي أبقى اللَّه داءك ، حتى تموت به . . وبديهة ان هذا يقال للعدو إذا كان القائل قويا عزيزا ، ولا قوة كالاجتماع والائتلاف . { إِنَّ اللَّهً عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ } . ذات الصدور كل ما يجول في خاطر الإنسان ، وكل ما ينطوي عليه قلبه من دوافع الخير والشر ، والقصد ان اللَّه يعلم بحقدهم ولؤمهم ، ويعاملهم بحسبه .

{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } . شأن كل عدو ، وقال المفسرون : ذكر المس في الحسنة للاشعار بأن أقل خير يناله المسلمون يسيء عدوهم ، وذكر الإصابة في السيئة للاشعار بأنه كلما تمكنت السيئة من المسلمين ازداد عدوهم فرحا ، وهذا أبلغ تعبير عن شدة العداوة . { وإِنْ تَصْبِرُوا } على طاعة اللَّه ، وأذى أعدائه { وتتقوا } المحرمات والمعاصي { لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } . من كان مع اللَّه كان اللَّه معه ، ومن يتق اللَّه يجعل له مخرجا .

___________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص143-147.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية سميت الوليجة بطانة وهي ما يلي البدن من الثوب وهي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان وما يضمره ويستسره، وقوله:{ لا يألونكم} أي لا يقصرون فيكم، وقوله: خبالا أي شرا وفسادا، ومنه الخبل للجنون لأنه فساد العقل، وقوله: ودوا ما عنتم، ما مصدرية أي ودوا وأحبوا عنتكم وشدة ضرركم، وقوله: قد بدت البغضاء من أفواههم أريد به ظهور البغضاء والعداوة من لحن قولهم وفلتات لسانهم ففيه استعارة لطيفة وكناية، ولم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله:{ وما تخفي صدورهم أكبر} للإيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه وعظمته وبه يتأكد قوله: أكبر.

قوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبونهم} الآية، الظاهر أن أولاء اسم إشارة ولفظة ها للتنبيه، وقد تخلل لفظة أنتم بين ها وأولاء، والمعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم: زيد هذا وهند هذه كذا وكذا.

وقوله: {وتؤمنون بالكتاب كله}، اللام للجنس أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله: كتابهم وكتابكم، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وقوله،{ وإذا لقوكم قالوا آمنا}، أي إنهم منافقون، وقوله: {وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل} من الغيظ العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط، والأنامل جمع أنملة وهي طرف الإصبع.

والغيظ هو الحنق، وعض الأنامل على شيء مثل يضرب للتحسر والتأسف غضبا وحنقا.

وقوله: {قل موتوا بغيظكم} دعاء عليهم في صورة الأمر وبذلك تتصل الجملة بقوله: {إن الله عليم بذات الصدور} أي اللهم أمتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.

قوله تعالى: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم}، المساءة خلاف السرور، وفي الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر والتقوى.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 333-334.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات   (1)

لا تتخذوا الأعداء بطانة :

هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين ـ ضمن تمثيل لطيف ـ بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصّة بهم، قال سبحانه :

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة(2) من دونكم…}.

وهذا يعني أن الكفّار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا : {لا يألونكم خبالاً}(3).

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع اُولئك الكفّار ـ بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك ـ من أضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم (ودوا ما عنتم) أي احبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنهم ـ لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم ـ يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أن آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو اُخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم : {قد بدت البغضاء من أفواههم}.

وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في إحدى كلماته إذ يقول :

«ما أضمر أحد شيئاً إلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(4).

إنه لابدّ أن يَرْشَح شيء إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل، كما يطفح الكيل فتنفضح السرائر، وتبدو الدخائل.

وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثمّ إنه سبحانه يقول : {وما تخفي صدورهم أكبر} أي أن ما يبدو من أفواههم ما هي إلاَّ شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثمّ إنه تعالى يضيف قائلاً : {قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} أي أن ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جداً فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.

البغض في مقابل الحبّ :

يحسب بعض المسلمين أن في مقدورهم أن يكسبوا حبّ الأعداء والأجانب إذا أعطوهم حبهم وودهم، وهو خطأ فظيع، وتصور باطل، يقول سبحانه : {ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه}.

إنه سبحانه يخاطب هذا الفريق من المسلمين ويقول لهم : إنكم تحبون من يفارقكم في الدين لما بينكم من الصداقة أو القرابة أو الجوار، وتظهرون لهم المودة والمحبة، والحال أنهم لا يحبونكم أبداً، وتؤمنون بكتبهم وكتابكم المنزل من السماء ـ على السواء ـ في حين أنهم لا يؤمنون بكتابكم ولا يعترفون بأنه منزل من السماء.

إن هذا الفريق من أهل الكتاب ينافقون ويخادعون {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}.

ولاشكّ أن هذا الغيظ لن يضر المسلمين في الواقع، إذن فقل لهم يا رسول الله : {قل موتوا بغيظكم} واستمروا على هذا الحنق فإنه لن يفارقكم حتّى تموتوا.

هذه هي حقيقة الكفّار التي غفلتم عنها، ولم يغفل عنها سبحانه : {إن الله عليم بذات الصدور}.

ثمّ إن الله يذكر علامة اُخرى من علائم العداوة الكامنة في صدور الكفّار إذ يقول {ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها}.

ولكن هل تضر هذه العداوة وما يلحقها من ممارسات ومحاولات شريرة بالمسلمين ؟

هذا ما يجيب عنه ذيل الآية الحاضرة حيث يقول سبحانه : {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط}.

وعلى هذا يستفاد من ذيل هذه الآية أن أمن المسلمين، وسلامة حوزتهم من كيد الأعداء، يتوقف على استقامة المسلمين وحذرهم وتقواهم، ففي مثل هذه الحالة فقط يمكنهم أن يضمنوا أمنهم وسلامتهم من كيد الكائدين.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص410-412.

2 ـ «البطانة» مأخوذة من بطانة الثوب، وهي الوجه الذي يلي البدن لقربه منه، ونقيضها «الظهارة» والبطانة في المقام كناية عن خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويطلعون على أسراره.

3 ـ «الخبال» في الأصل بمعنى ذهاب شيء، وهي تطلق في الأغلب على الأضرار التي تؤثر على عقل الإنسان وتلحق به الضرر.

4 ـ نهج البلاغة ـ الحكمة 26.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى