مقالات

لايُنسب الضلال لمن جاء يدعو للكمال

🔅(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)
وكيف يُدرِكُ في الدنيا حقيقته ، قومٌ نيامٌ تسلُّوا عَنهُ بالحُلُم .
〰〰〰〰〰〰
▪لايُنسب الضلال لمن جاء يدعو للكمال
▪عدنان الجنيد
ذهب البعض إلى أن الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – كان كافراً في أول أمره، ثم هداه الله إلى النبوة، مستدل بقوله تعالى :(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)[الضحى : 7] وبأقوال الكلبي(1) والسدي(2) وغيرهما، فقد قال الكلبي والسُّدي: (أي وجدك كافراً والقوم كفار فهداك) (3).

قلتُ: مثل هذه الأقوال لا يصح أن تقال في النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا في أحد من الأنبياء، لأن العصمة ثابتة لهم قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر وهذا بإجماع علماء السنة والجماعة فضلا عن علماء العترة.
قال الإمام الزمخشري في كشافه (4) ما نصه: «والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة فما بال الكفر والجهل بالصانع… ».
وكيف يسوغ لمسلم له مسكةٌ من دين أن يقبل مثل هذه الأقوال ، لا سيما وأنَّ الله سبحانه قد قال في كتابه الكريم: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النجم : 2] فنفى الله عز وجل الضلال عن حبيبه – صلى الله عليه وآله وسلم -، والخطاب موجه لقريش، وهو جواب القسم، والضلال نقيض الهدى، والغيّ نقيض الرشد : أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه الضلال والغيّ ، فقد نشأ بين ظهرانيكم على طريق الهدى والرشاد لا على طريق الضلال والفساد وكنتم تسمونه بالصادق الأمين وتقرّون له بذلك وتعترفون له في مواقفكم الخاصة والعامة

قال الشيخ العلامة عبدالله سراج الدين ما نصه:”( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) اعلم أن الضلال قد يراد منه ضلال المعصية: وهو الضلال عن الحق والخير والصلاح، وقد يطلق على غير ذلك من المعاني المختلفة حسب المناسبة التي جاء فيها، كما سيتضح معنا قريباً إن شاء الله تعالى.
فأما الضلال عن الحق والصلاح فهو غير مراد في هذه الآية قطعاً؛ لأن الله تعالى نفاه عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -في قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى )[النجم : 1-2] ، فنفى سبحانه عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – الضلالة التي ضد الهدى، والغواية التي هي ضد الرشاد، ونـزهّه عن ذلك بعد التأكيد بالقسم، وذلك يتضمن شهادة الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – بالهدى والرشاد في علمه وعمله وقاله وحاله صلى الله عليه وآله وسلم  -إلى أن قال- : ولقد امتن الله سبحانه وتعالى على خليله إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – بأنه آتاه رشده من قبل النبوة قال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ )[الأنبياء : 51] ، فإذا كان الخليل كذلك، فالحبيب الأكرم أولى وأجدر بذلك، فإن الله تعالى آتاه الرشد من قبل النبوة، ولذا نبه الله تعالى قومه الذين عاندوه فقال لهم:(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى )[النجم : 2] أي محمدٌ الذي تربى بينكم ونشأ فيكم، فأنتم أعرف به من غيركم لم تعثروا له على ضلالة ولا غواية بل أموره كلها سداد ورشاد.
فليس الضلال الوارد في قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ) هو الضلال عن الحق والميل إلى الفساد والشر، فإنه منفيٌ عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – نصاً في قوله تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النجم : 2]، ولذا قال ابن عباس – رضي الله عنهما -:” لم تكن له ضلالة معصية …”(5)

قلتُ: قد يقول القائل: إذا كان الله سبحانه وتعالى قد نفى عن نبيه الضلال بقوله:( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)، فما المراد من قوله: ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى)[الضحى : 7].
الإجـابة:
قبل أن نُجيب عن المراد من الآية سنورد بعض الإجابات لجماعة من المفسرين ثم نعقبها بالإجابة التي ذهبنا إليها حتى يتضح المعنى ويظهر القول الصائب لدى القارئ، أقول من المفسرين من قال(6): إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام، وكان راكباً ناقة في الليل، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق.

قلتُ: وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً لا يصح منه شيء، وأنَّى لإبليس الاقتراب من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، لو اقترب لا حترق. ثم إذا كانوا يروون أنَّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان إذا مرَّ وادياً مرَّ الشيطان وادياً آخر خوفاً وفرقاً من عمر، فبالأولى أن يفر من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -.
ومنهم من قال: ووجدك بين الضالين فاستنقذك من ضلالتهم(7).
ومنهم من قال: أي غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك: أي أرشدك(8).

قلتُ: وهذا القول أيضاً ضعيف؛ لأن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان يعلم أنه نبي حين برز إلى هذا الوجود، بل إنه كان يعلم نبوته قبل أن يظهر جسده الشريف، فقد جاءت الأحاديث دالة على ذلك، فمنها ما جاء عن العرباض بن سارية – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإنّ آدم لمنجدلٌ في طينته»(9). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه – قال: قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة ؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد»(10).
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: يا رسول الله متى جُعلت نبياً؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» رواه أبو نعيم.
فهذه الأحاديث دالة على أنَّ نبوّة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كانت مذكورة معروفة من قبل أن يخلقه الله تعالى ويخرجه إلى دار الدنيا حيَّاً ووجبت له النبوة قبل نفخ الروح في آدم وهو يعقل ذلك ويعلم كعلمه بعد بروز جسده الشريف. وهنا إن قال قائل: كيف عقِل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته قبل ظهور جسده الشريف؟ قلتُ: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كنت نبياً» إشارة إلى روحه الشريفة أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها لذلك يجب التسليم، ولقائل أن يقول: لماذا لا يكون معنى الحديث ـ كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد ـ هو مجرد العلم بما سيصير إليه في المستقبل؟ نقول له: هذا كلام باطل لأنه لو كان ذلك كذلك لم تكن للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد، ولأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، إذاً، فلا بد من خصوصية للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في هذا الحديث ـ وهي أن النبوة أمر ثابت له في ذلك الوقت، وأنَّه علم وعَقِلَ نبوته في ذلك الوقت..
من هذا ظهر بطلان كلام بعض المفسرين ـ عند قولهم لمعنى قوله تعالى: ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى )، أي غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة ـ وثبت ما قررناه آنفاً، مع أنه قد ورد في كتب السيرة تفسير ذلك حين قال النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- للأنصار: « ألم آتيكم ظلَّالاً فهداكم الله بي؟ ألم أتيكم عالةً فأغناكم الله بي؟ » فبين المقصود من الآية وظهر معنى قوله فهدى، وليس فهداك ،
وذهب بعض العارفين إلى أنَّ المراد من قوله تعالى: ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى )، “أي محباً هائماً في محبته تعالى فهداك إلى نبوته ورسالته، فهو ضلال الهيام والاستغراق في المحبة الإلهية، وقد أخبر الله تعالى عن أولاد يعقوب حين قالوا لأبيهم: ( قَالُوا تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)[يوسف : 95]، فإنهم أرادوا بضلاله: هيامُه في يوسف، وشغفه به، ولم يريدوا بذلك ضلال الإثم والمعصية قطعاً؛ لأنَّ السياق ينفي ذلك، ولأنهم لو أرادوا بذلك ضلالة المعصية أو الإثم لكفروا؛ لأنه طعن في يعقوب الذي هو نبي الله ورسوله بالفسق والمعصية وذلك يوجب الكفر”.
وهذا رأي راجح لا غبار عليه، لكن هناك رأي أرجح – بنظرنا – في بيان معنى الآية وهو الذي اعتمدنا عليه وإليك نصه : ” إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض ، لا شجر معها ، سموها ضالة ، فيهتدى بها إلى الطريق فقال الله تعالى لنبيه محمد – صلى الله عليه آله وسلم – : ووجدك ضالا أي لا أحد على دينك ، وأنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إليّ “(11).
،قلت : ونظيره قوله صلى الله عليه وآله وسلم «الحكمة ضالة المؤمن».
فهذا الجواب هو اللائق بمعنى الآية الكريمة، وبعصمة صاحب الأخلاق العظيمة صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ولولا العقول الجامدة والنفوس الهابطة، والقلوب المريضة، لما احتاج المؤمن إلى مثل هذا الكلام، ومن جهل لغته، فقد حجته، ويا سبحان الله أيقال لموسى (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)فكيف بالحبيب الهاشمي – صلى الله عليه وآله وسلم – !!

……………………………….
الهوامش:

(1) الكلبي نسبة لكلب قبيلة معروفة، وهو أبو النصر محمد بن السائب المفسر النسابة الأخباري الراوي المشهور، والأكثرون على أنه غير ثقة إذا روى ) اهـ، على هامش ” الشفا ” [ ج2/ص292] تحقيق جماعة من العلماء. وقال ابن حجر في «فتح الباري »: (8/561) ط. أولى: والكلبي متروك لا يعتمد عليه، وقال البزار: وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه

(2)السُدِّي: بضم السين وتشديد الدال، هو إسماعيل بن أبي كريمة المحدث المشهور، واختلف فيه، فقيل : ثقة، وقيل كذاب لا يحتج به، وقال الشمني أنه كوفي تابع مفسر صدوق، إلاَّ أنه متهم بالتشيع، وثَّقَه ابن حبان وضعفه أبو حاتم، مات سنة سبع وعشرين ومائة، ونسبته إلى السُد موضع في المدينة ) اهـ على هامش ” الشفا ” [ج1/ص112].

(3)  أورد قول الكلبي والسُّدي كلٌ من الإمام القرطبي في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) [ ج20/ص99]، وردَّ عليهما في [ ج16/ص55] في سورة الشورى.  والإمام الرازي في تفسيره الكبير [ ج31/ص215]، وكذلك الإمام الزمخشري في كشافه [ ج4/ص265]، ولكنَّه أورد عبارة الكلبي غير معزوة إليه، ورد عليها فقد قال ما نصه : ” ومن قال : كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلّوهم عن العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم فمعاذ الله، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوَّة، وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ـ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ـ وكفى بالنبي نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر “.
(4) تفسير الكشاف [4/768] دار الكتاب العربي.

(5) “سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ص334.

(6) ذكره ابن كثير في كتابه (تفسير القرآن العظيم ) [ ج4/ص524] طـ. 1408هـ.

(7)  أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس. ذكره الشوكاني وارتضاه في كتابه (فتح القدير )[ ج5/ص460] ـ ط ـ دار الفكر.

(8)  الإمام القرطبي في كتابه ( الجامع لأحكام القرآن ) [ ج20/ص96]، وذهب إلى قريبٍ من هذا القول الإمام النسفي في تفسيره [ ج4/ص464].

(9)  أخرجه أحمد في «المسند»: (4/66، 128) وأبو نعيم في «الدلائل»: (1/9)، وابن كثير في «البداية والنهاية»: (2/321).
وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/226)، وزاد نسبته للطبراني والبزار.

(10)  أخرجه الترمذي [ 5/585]، والحاكم في «المستدرك» [ 2/609]، والبيهقي [2/130].

(11) ذكرى هذا المعنى الإمام القرطبي في كتابه ( الجامع لأحكام القرآن ) [ ج20/ص97] وعزاه إلى بعض المتكلمين
🔅من ارشيف 1999م
،#المركزالاعلاميلملتقى_التصوف

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى