مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 75-76)

قال تعالى : {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [آل عمران : 75 ، 76] .

 

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)

 

ذكر سبحانه معائب القوم ، وأن فيهم من تحرج عن العيب ، فقال : {ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار} أي : تجعله أمينا على قنطار أي :

مال كثير على ما قيل فيه من الأقوال التي مضى ذكرها في أول السورة {يؤده إليك} عند المطالبة ، ولا يخون فيه .

{ومنهم من إن تأمنه بدينار} أي : على ثمن دينار . والمراد : تجعله أمينا على قليل من المال ، {لا يؤده إليك} عند المطالبة ، وهم كفار اليهود بالإجماع {إلا ما دمت عليه قائما} معناه : إلا أن تلازمه وتتقاضاه ، عن الحسن وابن زيد . قيل : إلا أن تدوم قائما بالتقاضي والمطالبة ، عن قتادة ومجاهد . وقيل : إلا ما دمت عليه قائما بالاجتماع معه والملازمة ، عن السدي قال : ما دمت عليه قائما أي : ملحا عن ابن عباس {ذلك} أي : ذلك الاستحلال والخيانة .

{بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} هذا بيان العلة التي كانوا لأجلها لا يؤدون الأمانة ، ويميلون إلى الخيانة أي : قالت اليهود ليس علينا في أموال العرب التي أصبناها سبيل ، لأنهم مشركون ، عن قتادة والسدي . وقيل : لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه ، وذلك أنهم عاملوا جماعة منهم ، ثم أسلم من له الحق ، وامتنع من عليه الحق ، من أداء الحق . وقالوا : إنما عاملناكم ، وأنتم على ديننا ، فإذا فارقتموه سقط حقكم . وادعوا أن ذلك في كتبهم فأكذبهم الله في ذلك بقوله ويقول على الله الكذب وهم يعلمون} أنهم يكذبون ، لأن الله أمرهم بخلاف ما قالوا ، عن الحسن وابن جريج . وإنما سموهم {أميين} لعدم كونهم من أهل الكتاب ، أو لكونهم من مكة ، وهي أم القرى .

ثم الله تعالى رد عليهم قولهم فقال : {بلى} وفيه نفي لما قبله ، وإثبات لما بعده ، كأنه قال : ما أمر الله بذلك ، ولا أحبه ، ولا أراده ، بل أوجب الوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة {من أوفى بعهده} يحتمل أن يكون الهاء في بعده ، عائدة على اسم الله في قوله {ويقولون على الله الكذب} فيكون معناه بعهد الله ، وعهد الله إلى عباده : أمره ونهيه . ويحتمل أن يكون عائدة إلى {من} ومعناه : من أوفى بعهد نفسه ، لأن العهد تارة إلى العاهد ، وتارة إلى المعهود له {واتقى} الخيانة ، ونقض العهد {فإن الله يحب المتقين} معناه : فإن الله يحبه ، إلا أنه عدل إلى ذكر المتقين ليبين الصفة التي يجب بها محبة الله ، وهذه صفة المؤمن ، فكأنه قال : والله يحب المؤمنين ، ولا يحب اليهود .

وروي عن النبي أنه قال ، لما قرأ هذه الآية قال : ” كذب أعداء الله! ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ” .

وعنه قال : ” ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ” . وعنه ” صلى الله عليه وآله وسلم ” قال : من ائتمن على أمانة فأداها ، ولو شاء لم يؤدها ، زوجه الله من الحور العين ما شاء .

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص326-327 .

 

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1)

 

{ ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ومِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } . المراد ان في أهل الكتاب من هو في غاية الأمانة ، حتى لو ائتمنته على الأموال الكثيرة أدى الأمانة ، وفيهم من هو في غاية الخيانة لا يؤتمن على الدينار الواحد . . وذكر الأمانة على المال دون غيره ، لأنه هو المحك الصحيح الذي يميز بين السليم والسقيم .

لا حياة الا للمستميت :

{ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً } . الخائن يطلب أكثر من حقه ، ولا يؤدي ما عليه ، أو بعض ما عليه بدافع من نفسه ، لأنه ميت الضمير ، ولا وسيلة لانتزاع الحق منه الا القيام عليه ، كما قال جلت حكمته ، ومعنى القيام على الخائن المغتصب أن تثور عليه ، وتجاهده وتناضله بكل ما لديك من قوة . . وقديما قيل :

« الاستقلال يؤخذ ، ولا يعطى » .

والثورة على الخائن المبطل فرض وحتم ، والا عم الفساد في الأرض . . ان جريمة المظلوم القادر على دفع الظلم عن نفسه ، تماما كجريمة الظالم من حيث ان كلا منهما يمهد لإشاعة الظلم والفساد . . ولو علم الظالم ان بين جوانح المظلوم عاطفة تدفعه إلى الاستماتة دون حقه لتحاماه . . وقد دلتنا التجارب انه لا حق في الأمم المتحدة ، ولا في مجلس الأمن الا للقوة ، وانه لا حياة للإنسان في القرن العشرين ، بخاصة الشرقي ، وبوجه أخص العربي الا للمستميت .

{ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } . والمعنى ان أهل الكتاب انما استحلوا أموال العرب لأنهم زعموا بأن اللَّه سبحانه لا يعاقبهم على اغتصابها ( 2 ) . .

فرد اللَّه افتراءهم هذا بقوله : { ويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ } .

وليس من شك ان من كذب على اللَّه عامدا متعمدا كانت خيانته أعظم ، وجريمته أفحش .

وتسأل : ان كل الطوائف ، وأهل الأديان ، بل والملحدين أيضا فيهم الأمين والخائن والصادق والكاذب . . وكم من ملحد هو أصدق لهجة ، وأوفى ذمة من كثير من الصائمين المصلين . . اذن ما هو الوجه لتخصيص أهل الكتاب بهذا التقسيم ؟ .

الجواب : أولا سبق ان اللَّه سبحانه قال : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . ثم قال أيضا : وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا أول النهار ، واكفروا آخره ، وبيّن في هذه الآية ان منهم الخائن والأمين ، ولم ينف هذا التقسيم عن غيرهم ، حتى يرد الاعتراض .

ثانيا : انه من الجائز ان يتوهم متوهم بأن جميع أهل الكتاب خونة ، فدفع اللَّه هذا الوهم بأنهم كسائر الطوائف ، وأهل الأديان فيهم ، وفيهم . . .

{ بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ واتَّقى فَإِنَّ اللَّهً يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } . بلى اثبات لما نفاه أهل الكتاب بقولهم : { لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } . وانهم كاذبون في هذا الزعم . . وبعد ان أثبت سبحانه السبيل على من يستحل أموال الناس أخبر بأن من يفي بالعهد ، ويتقي المحرمات فهو محبوب عند اللَّه . . وجاء في الحديث عن النبي انه قال : ما من شيء في الجاهلية الا هو تحت قدمي الا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر .

وقال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : لو ان قاتل أبي الحسين ائتمنني على السيف الذي قتل به أبي لأديته إليه . . وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ثلاثة لا عذر فيها لأحد : أداء الأمانة إلى البر والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا ، أو فاجرين ، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر . . ومن هنا اتفق فقهاء الشيعة الإمامية على ان الكافر إذا أعلن الحرب على المسلمين يحل دمه ، ولا تجوز خيانته ، فلو افترض انه كان قد أودع مالا عند مسلم وجب على المسلم أن يرد له أمانته ، مع العلم بأنه يجوز له قتله ، ونهب أمواله غير الأمانة .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص89- 92 .

2- لا أدري : هل الدول الغربية التي تنهب مقدرات الشعوب العربية من نسل الذين قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل .

 

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1)  :

 

قوله تعالى : {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} – إلى قوله : {سبيل} – إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات والعهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي التضاد وأن هذا وإن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة أخرى اعتقادية وهي ما يشتمل عليه قولهم : { ليس علينا في الأميين سبيل} ، فإنهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب ، وغيرهم بالأميين فقولهم : {ليس علينا في الأميين سبيل} معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل ، وقد أسندوا الكلمة إلى الدين ، والدليل عليه قوله تعالى : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى} “الخ” .

فقد كانوا يزعمون – كما أنهم اليوم على زعمهم – أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا فلهم السيادة والتقدم على غيرهم ، واستنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا وأكل مال الغير : وهضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله ، والمحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته ، وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب ، وأما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا ويفعلوا في من دونهم ما أرادوا ، وهذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائنا من كان .

وهذا وإن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة وغيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم ، وتولد من ذلك أن هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره ، وهذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض وأماته روح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية .

نعم أصل هذه الكلمة – وهو سلب الحقوق العامة عن بعض الأفراد والجوامع – مما لا مناص عنه في الجامعة الإنسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الإنساني الصالح هو سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق وهدم المجتمع ، والذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الإسلام أو الذمة فمن لا إسلام له ولا ذمة ، فلا حق له من الحيوة وهو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر إجمالا عند المجتمع الإنساني .

ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى : {ومن أهل الكتاب} ، كان الظاهر أن يقال : ومنهم ، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير والوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت : {آمنوا بالذي أنزل} “الخ” ولذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية : {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب} الآية .

وهناك وجه آخر وهو أن ذكر الوصف – وهو كونهم من أهل الكتاب مشعر بنوع من التعليل ، وذلك أن صدور هذا القول والفعل منهم – أعني قولهم : ليس علينا في الأميين سبيل ، وأكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا أميين لأخبر عندهم من النبوة والوحي لكنهم أهل الكتاب وعندهم الكتاب فيه حكم الله ، وهم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك ، ولا يبيح لهم مال غيرهم لأنه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه .

وهم أهل الكتاب منهم أغرب وأبعد ، والتوبيخ والتقبيح عليهم أوجه وألزم .

والقنطار والدينار معروفان والمقابلة بينهما – على ما فيها من المحسنات البديعية – والمقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير والقليل ، والمراد أن منهم من لا يخون الأمانة وإن كثرت وثقلت قيمتها ، ومنهم من يخونها وإن قلت وخفت .

وكذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله : {إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} ، غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للإشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد ، والكلام في معنى قولنا : إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه .

و ما في قوله : {إلا ما دمت عليه قائما} ، مصدرية على ما قيل ، والتقدير إلا أن تدوم قائما عليه ، وذكر القيام عليه للدلالة على الإلحاح والاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك وربما قيل : إن ما ظرفية ، وليس بشيء .

و قوله : {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} ، ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة وإن كانت خطيرة مهمة ، وبعضهم لا يؤديها وإن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم ، ليس علينا في الأميين سبيل فأوجب ذلك اختلافا بينهم في الصفات الروحية كحفظ الأمانات والاتقاء عن تضييع حقوق الناس ، والاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب ولا رضي بمثل هذه الأفعال منهم .

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله : {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} ، ويكون ذكر الطائفة الأولى الأمينة لاستيفاء تمام الأقسام ، والتحفظ على النصفة ، ويجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله : {ويقولون} وفي قوله : {وهم يعلمون} راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله : {من إن تأمنه بدينار} ، بحسب المعنى وكذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله : علينا ، جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض ، ويختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة ، وعليك بالتدبر فيها .

قوله تعالى : {ويقولون على الله الكذب} وهم يعلمون إبطال لدعواهم أنه {ليس علينا في الأميين سبيل} ، ودليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي والتشريع الديني كما مر .

قوله تعالى : {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} ، رد لكلامهم وإثبات لما نفوه بقولهم : { ليس علينا في الأميين سبيل} ، وإيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر والنقص ، والتوفية البذل والإعطاء وافيا ، والاستيفاء الأخذ والتناول وافيا .

و المراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به ويعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} ، أو مطلق العهد الذي منه عهد الله تعالى .

و قوله : { فإن الله يحب المتقين} من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثارا للإيجاز ، والتقدير فإن الله يحبه لأنه متق والله يحب المتقين ، والمراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل .

فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتسابا أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدو عبادة المتقين ، وأثرها النصرة الإلهية ، والحيوة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها ، وترفع درجات الآخرة .

فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوما على أكتاف عباده من صالح وطالح ويطلقهم ويخلي بينهم وبين ما يشاءون وما يعملون فيقولوا يوما : ليس علينا في الأميين سبيل ، ويوما نحن أولياء لله من دون الناس ، ويوما : نحن أبناء الله وأحباؤه فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض ، وإهلاك الحرث والنسل .

____________________

1 . تفسير الميزان ، ج3 ، ص 227-230 .

 

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)

 

ترسم الآية ملامح أُخرى لأهل الكتاب . كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسؤولين عن حفظ أمانات الناس ، بل لهم الحقّ في تملّك أماناتهم ! كانوا يقولون : إنّنا أهل الكتاب ، وأن النبيّ والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا ، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا . لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة . وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله {يقولون على الله الكذب} قال اليهود : إنّ لنا حقّ التصرّف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى .

وقيل أيضاً إن اليهود كانت لهم مع العرب إتفاقات إقتصادية وتجارية وعندما أسلم العرب ، إمتنع اليهود عن ردّ حقوقهم ، قائلين : إنكم عند عقد الإتفاق لم تكونوا من مخالفينا . أما وقد أتخذتم ديناً جديداً فقد سقط حقّكم .

من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعاً ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني ، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدّي حقّ الآخرين . ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعاً ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع ، ولذلك يقول {ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار(2) يؤدّه إليك ومنهم مَن إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلاَّ ما دمت عليه قائماً} .

إنّ تعبير {إلاَّ ما دمت عليه قائماً} أي واقفاً ومسيطراً ، يشير إلى مبدأ أصيل في

نفسيّة اليهود ، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين بردّ حقّ إلاَّ بالقوّة . ليس أمام المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل ، سبيل السعي للحصول على القوّة التي تجعلهم يردّون حقوقهم .

إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي ، وقضايا الحقّ والعدالة وأمثالها ، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى ، وما من شيء يحملهم على الخضوع للحقّ سوى القوّة . وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن .

{ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأُمّيّين سبيل} .

هذه الآية تبيّن منطقهم في أكل أموال الناس ، وهو قولهم بأنّ «لأهل الكتاب» أفضلية على «الأُميّين» أي على المشركين والعرب الذين كانوا أُمّيّين غالباً أو أن المقصود كلّ من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل ، لذلك يحقّ لهم أن يستولوا على أموال الآخرين ، وليس لأحد الحقّ أن يؤاخذهم على ذلك ، حتّى أنّهم ينسبون إلى الله تقرير التفوّق الكاذب .

لاشكّ أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرّد خيانة الأمانة ، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّاً من حقوقهم ، فيشير القرآن إلى هذا قائلاً : {ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} .

هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شيء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم ، ولكنّهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله .

الآية التالية تنفي مقولة اليهود {ليس علينا في الأُميّيّن سبيل} التي قرّروا فيها لأنفسهم حرّية العمل ، فاستندوا إلى هذا الزعم المزيّف للإعتداء على حقوق الآخرين بدون حقّ . حيث يتلاعبون بمصائر شعوب العالم ، ولا يتورّعون عن إرتكاب كلّ إعتداء على حقوق الإنسان ، ويرون القوانين مجرّد العوبة بيدهم لتحقيق مصالحهم ، فتقول : {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} .

تقرر هذه الآية أنّ مقياس الشخصية والقيمة الإنسانية ومحبّة الله يتمثّل في الوفاء بالعهد وفي عدم خيانة الأمانة خاصّة ، وفي التقوى بشكل عامّ ، أجل ، إن الله يحب هؤلاء ، لا الخوانة الكذابين الذين يبيحون لأنفسهم غصب حقوق الآخرين ويتجرؤون كذلك على نسبتها إلى الله تعالى .

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص326-328 .

2 ـ بشأن معنى قنطار انظر تفسير الآية 14 من هذه السورة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى