مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 14)

قال تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران : 14].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآية (1) :

أنزل الله تعالى ما أخبر به عن السبب الذي دعا الناس إلى العدول عن الحق والهدى، والركون إلى الدنيا، فقال: {زين للناس حب الشهوات} أي:

حب المشتهيات، ولم يرد بها نفس الشهوة. ولهذا فسرها بالنساء والبنين وغيرهما.

ثم اختلف فيمن زينها لهم فقيل: الشيطان، عن الحسن، قال: فوالله ما أجد أذم للدنيا من خلقها. وقيل: زينها الله تعالى لهم بما جعل في الطباع من الميل إليها، وبما خلق فيها من الزينة، محنة وتشديدا للتكليف، كما قال سبحانه: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} وقيل: زين الله تعالى ما يحسن منه، وزين الشيطان ما يقبح، عن أبي علي الجبائي.

ثم قدم سبحانه ذكر النساء فقال {من النساء} لأن الفتنة بهن أعظم. وقال النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم “: ” ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء “. وقال: النساء حبائل الشيطان “. وقال أمير المؤمنين ” عليه السلام “: المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها وهي عقرب حلوة اللسعة. ثم قال: {والبنين} لأن حبهم يدعو إلى جمع الحرام. وقال النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” للأشعث بن قيس: ” هل لك من ابنة حمزة من ولد؟

قال: نعم، لي منها غلام، ولوددت أن لي من جفنة من طعام أطعمها من معي من بني جبلة. فقال: لئن قلت ذاك إنهم لثمرة القلوب، وقرة الأعين، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة مخزنة “.

{والقناطير} جمع قنطار. واختلف في مقداره فقيل: ألف ومائتا أوقية، عن معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر. وقيل: ألف ومائتا مثقال، عن ابن عباس والحسن والضحاك. وقيل: ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، عن الحسن بخلاف. وقيل: ثمانون ألفا من الدراهم، أو مائة رطل، عن قتادة. وقيل:

سبعون ألف دينار، عن مجاهد وعطاء. وقيل: هو ملء مسبك ثور ذهبا، عن أبي نضرة، وبه قال الفراء، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله و {المقنطرة، المضاعفة، عن قتادة. وقيل: هي تسعة قناطير، عن الفراء. وقيل: هي الأموال المنضد بعضها فوق بعض، عن الضحاك. وقيل: الكاملة المجتمعة. وقيل: هي {من الذهب والفضة}، عن الزجاج. ولا يصح قول من قال من الذهب خاصة، لأن الله ذكر القنطار فيهما جميعا، وجميع الأقوال يرجع إلى الكثرة.

{والخيل المسومة} قيل: معناه الأفراس الراعية، عن سعيد بن جبير وابن عباس والحسن والربيع. وقيل: هي الحسنة من السيمياء، وهو الحسن عن مجاهد وعكرمة والسدي. وقيل: هي المعلمة، عن قتادة. وفي رواية عن ابن عباس المعدة للجهاد، عن ابن زيد. {والأنعام}: وهي جمع النعم، وهي الإبل والبقر والغنم من الضان والمعز، ولا يقال لجنس منها على الانفراد نعم، إلا للإبل خاصة، لأنها يغلب عليه جملة وتفصيلا {والحرث} معناه: الزرع. هذه كلها محببة إلى الناس، كما ذكر الله تعالى.

ثم بين أن ذلك كله مما يتمتع به في الحياة، ثم يزول عن صاحبه، والمرجع إلى الله، فأجدر بالإنسان أن يزهد فيه، ويرغب فيما عند ربه فقال: {ذلك متاع الحياة الدنيا} يعني كل ما سبق ذكره مما يستمتع به في الحياة الدنيا ثم يفنى {والله عنده حسن المآب} يعني: حسن المرجع. فالمآب مصدر سمي به موضع الإياب.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص252-253.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآية (1) :

حُبُّ الشَّهَواتِ :

زين مبني للمجهول ، وقد اختلف المفسرون في فاعل التزيين من هو ؟ فمنهم من قال : انه اللَّه . وقال آخرون : بل هو الشيطان . والصحيح ان اللَّه سبحانه أنشأ الإنسان على طبيعة تميل إلى اللذائذ والرغبات . . والشيطان يوسوس ويحسّن للإنسان الأعمال القبيحة ، ويقبّح له الأعمال الحسنة ، وحب النساء والبنين والمال ليس قبيحا في ذاته ، واللَّه سبحانه لم يحرّم شيئا من هذه الأنواع الستة ، ولم يرد بهذه الآية التنفير منها . . كيف ؟ وهو القائل : قل أحل لكم الطيبات . .

قل من حرم زينة اللَّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . . وقال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله  ) : أحب من دنياكم ثلاثا : الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة ؟ ! .

والمراد بالشهوات هنا الأشياء المرغوب فيها التي يشتهيها الإنسان ، ويشعر بالغبطة والسعادة إذا حصل عليها ، كما يريد .

وتسأل : ان الشهوة تتضمن معنى الحب ، كما ان الحب يتضمن معنى الشهوة ، وعليه يكون معنى الآية ان الناس يحبون الحب ، ويشتهون الشهوة . .

ومثل هذا ليس بمستقيم ، وكلام اللَّه يجب أن يحمل على أحسن المحامل ؟ .

الجواب : ان حب الإنسان للشيء على نوعين : الأول أن يحبه ، ولا يحب ان يحبه ، أي انه يود من أعماق نفسه لو انقلب حبه لهذا الشيء كرها وبغضا ، كمن اعتاد على مشروب ضار ، وهذا يوشك أن يرجع عن حبه يوما . .

النوع الثاني : ان يحب الشيء ، وهو راض ، ومغتبط بهذا الحب ، كمن اعتاد على فعل الخير ، قال تعالى حكاية عن سليمان : إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ – 32 صاد . وهذا أقصى درجات الحب ، وصاحبه لا يكاد يرجع عنه .

والقناطير المقنطرة كناية عن الكثرة ، وفي الحديث : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوفه إلا التراب . . اما الخيل المسومة فقيل : هي الراعية من السوم . وقيل : المعلَّمة بالزينات . والأرجح انها المطهمة الحسان . وبديهة ان زمن الخيل قد ولَّى ، وجاء زمن السيارة والطيارة . .

والمراد بالأنعام الإبل والبقر والغنم . . وهذه أيضا قد ذهب التكاثر والتفاخر بها ، وجاء زمن المصانع وناطحات السحاب . . والحرث الزرع على اختلاف أنواعه .

وحب الثلاثة : النساء والبنين والأموال لا يختص بعصر دون عصر ، بل هي شهوة كل النفوس في كل عصر ، أما حب الخيل والانعام والحرث فقد خصها اللَّه بالذكر لأنها كانت مثلا أعلى للرغائب في ذاك العصر .

وقد أطال كثير من المفسرين ، ومنهم الرازي وصاحب المنار ، أطالوا في ذكر ما لكل واحد من الأنواع الستة من اللذة والمتعة . . ولكنهم أتوا بالبديهيات التي يعرفها ويحسها الجميع ، لذا لم نشغل أنفسنا والقارئ بها . . ورأينا من الأفضل ان نتكلم عن السعادة في الفقرة التالية .

السعادة :

يرى بعض المؤلفين ان السعادة تتم للإنسان إذا توافرت له هذه الأركان الأربعة : الصحة ، والزوجة الملائمة ، والمال الذي يسد الحاجة ، والجاه الذي يحفظ الكرامة . . وأحسب ان صاحب هذا الرأي قد نظر إلى السعادة من خلال نفسه وحاجته ، لا من خلال الواقع . . وإلا فأين الشعور بمشاكل العالم ، وآلام الناس ؟ . وأين الخوف من الوقوع في الأخطاء ، ومن سوء العاقبة والمصير ؟ .

وأين حملات الكذب والتشهير ؟ . إلى ما لا نهاية من الهموم التي تتكدس وتتراكم على القلب .

والحق ان السعادة المطلقة في كل شيء وسائر الأحوال لم تتحقق لإنسان . .

وأحسب انها لن تتحقق إلا في غير هذه الحياة . . أما السعادة نسبيا وآنيا فقد مرت بكل انسان ، ولو في عهد طفولته . . ومن المفيد أن نوضح السعادة النسبية بالبيان التالي :

ان للاستمتاع بالحياة مظاهر شتى ، منها التمتع بالربيع والأشجار ، والشلالات والأنهار ، ومنها تذوق الشعر والفن ، ومنها الاطمئنان والخلود إلى الزوجة والصديق ، ومنها التلذذ بالحديث والمطالعة ، إلى غير ذلك من المتع واللذائذ الروحية .

ومن مظاهر المتع المادية النساء والمال والبنون ، أما الخيل والانعام والحرث فتدخل في المال ، لأنها من جملة أقسامه وأفراده ، تماما كالذهب والفضة ، ولكن هذه اللذائذ والرغائب بشتى مظاهرها لا تحقق السعادة المطلقة للإنسان ، لأن الدنيا لا تصفو لأحد من جميع الجهات . . فان كان في يسر من العيش شكا الأمراض والأسقام ، وان جمع بين الصحة والثراء شكا من بيته أو أرحامه قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « وان جانب منها اعذوذب  واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى ، لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا » .

أما السعادة النسبية ، أي في حال دون حال ، فلا يخلو منها إنسان . وخير مثال يوضح هذه السعادة ما قرأته في بعض الكتب ، قال صاحب الكتاب :

« خرجت عائلة إلى النزهة ، فيها نساء وأطفال ، وعم وخال ، وأب وجد . .

ولما بلغوا جميعا المتنزه تقلب طفل على العشب ، ونضد آخر عقودا من الأقحوان ، وصنعت الأم شطيرة وسندويش ، ونهش العم تفاحة ذات ماء ، وأدار الخال أسطوانة على الحاكي ، وتمدد الأب على الثرى ، يتطلع إلى قطيع من الغنم ، واستغرق الجد في تدخين غليونه » .

ان كل واحد من هؤلاء استشعر الغبطة من نفسه ، ولكن في هذا الحال ، لا في سائر الأحوال ، لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا توجد هذه السعادة إلا في الحياة الآخرة . . ولأجل هذا قال عز من قائل بعد ذكر النساء والبنين والأموال : { قُلْ أَأُنَبِئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ }.

ورأيت رواية عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) تعتبر التوفيق الإلهي ركنا من الأركان الأساسية للسعادة ، وقد أدركت هذه الحقيقة بالحس والتجربة .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص18-21.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآية (1) :

قوله تعالى : {زين للناس حب الشهوات} فنقول : الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى وهو الشيطان أو النفس: أما أولا فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال و الأولاد و استغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه، و الأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى.

وأما ثانيا: فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الأمور فكان الأنسب في التعبير أن يقال: زين للإنسان أو لبني آدم و نحوها كقوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4، 5] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70] ، وأما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شيء من إلغاء الميز أو حقارة الشخص و دناءة الفكر نحو قوله: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا } [الإسراء: 89] ، و قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] و غير ذلك.

وأما ثالثا: فلأن الأمور التي عدها تعالى بيانا لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية، و لفظ البنين بالأولاد، و لفظ القناطير المقنطرة، بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء، و كذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد و مطلق الأموال دون خصوص البنين و خصوص القناطير المقنطرة، و لذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول: إن المراد حب مطلق الزوجية و مطلق الأولاد و مطلق الأموال و إنما ذكرت النساء و البنين و القناطير لكونها أقوى الأفراد و أعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له.

و أما رابعا: فلأن كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية: ذلك متاع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم، فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية و توجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان و الأزواج و الرضوان، و لا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة و إبطالا للأمرين معا كالذي يريد الشبع و يمتنع عن الأكل.

فإن قلت: الآية أعني قوله: {زين للناس حب الشهوات} “الخ” بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الأعراف: 32] ، و لازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضا هو الله سبحانه.

قلت: بين الآيتين فرق من حيث المقام: فإن المقام فيما نحن فيه: مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها وإلهائها الناس عما لهم عند الله، و حثهم على الإعراض عنها و التوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان وأنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا و بالاختصاص في الآخرة، و لذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد.

وعدت هذه الزينة رزقا طيبا.

وإن قلت: إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات، و من المعلوم أن تزيين الحب للإنسان و جذبه لنفسه و جلبه لقلبه أمر طبيعي و خاصة ذاتية له فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثرا في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم، و لا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله: زين.

قلت: لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه و يصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم أمور تستصحب الحسن والجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الأمور والمنتفع من هذا القصد هي المرأة، وبالجملة فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه و الولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، و يؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله: {من النساء و البنين و القناطير}، على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف و الولوع و إن كان بمعنى المشتهيات.

قوله تعالى: {من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة} “الخ”، النساء جمع لا واحد له من لفظه، و البنين جمع ابن و هو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة، و القناطير جمع قنطار و هو ملء مسك ذهبا أو هو المسك المملوء، و المقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار وهو جامد، و هذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئا من النسب يكسب بها معنى مصدريا ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل و التآمر والعطار لبائع البقل و التمر والعطر، وفائدة توصيف الشيء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له، و التلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقدة كما يقال: دنانير مدنرة و دواوين مدونة، و يقال : حجاب محجوب و ستر مستور، و الخيل: هو الأفراس، و المسومة مأخوذة من سامت الإبل سوما بمعنى ذهبت لترعى فهي سائمة، أو من سمت الإبل في المرعى و أسمتها و سومتها بمعنى أعلمتها.

فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة، و الأنعام جمع نعم بفتحتين و هو الإبل و البقر والغنم، والبهائم أعم منه و يطلق على غير الوحش و الطير و الحشرات، والحرث هو الزرع وفيه معنى الكسب وهو تربية النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش.

وبناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج و الأولاد و المال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس و التعبير عن الأولاد بخصوص البنين، و التعبير عن المال بالقناطير المقنطرة “الخ” بما تكلف به جمع من المفسرين.

بل على كون الناس أصنافا في الشغف و الولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء و غرامهن والتقرب إليهن و الأنس بصحبتهن، و يستصحب ذلك أذنابا من وجوه الفساد و معاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف و الأغاني و شرب المسكرات و أمور أخر غيرهما، وهذا مما يختص بالرجال عادة، و لا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ، و من محب للبنين و التكاثر و التقوي بهم كما يوجد غالبا في أهل البدو، و يختص أيضا بالبنين دون البنات، ومن مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير، و يملأ المخازن من وجوه النقد، و ظهور هذا الجنون أيضا في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب و الفضة أو ما يتقوم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لأجلهما بوجه، و يوجد غالبا في الحاضر دون البادي، أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة وأمثالهم أو اتخاذ الماشية من الأنعام، أو يستحب الحرث، و ربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض وربما تفترق.

وهذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفا صنفا بالتعلق بواحد منها و جعله أصلا في اقتناء مزايا الحيوة، وجعل غيره فرعا مقصودا بالقصد الثاني، و قلما يوجد أو لا يوجد أصلا في الناس من ساوى بين جميعها، و قصد الجميع قصدا أولا معتدلا.

وأما مثل الجاه و المقام و الصدارة و نحوها فهي جميعا أمور وهمية بالحقيقة إنما تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذا شهويا، على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات.

و من هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل و الانغمار في حبها وهو المنسوب إلى الشيطان دون أصل الحب المودع في الفطرة وهو المنسوب إلى الله سبحانه.

قوله تعالى : {ذلك متاع الحياة الدنيا}، أي هذه الشهوات أمور يتمتع بها لإقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحيوتين منكم و هما الحيوة الدنيا و الحيوة الأخرى، و الحيوة الدنيا و كذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة، و صلاح العقبى و حسن المآب إنما هو عند الله سبحانه و هو قوله تعالى: {والله عنده حسن المآب}.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 90-93.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآية(1) :

جاذبية المتاع الدنيوي :

تعقيباً على الآيات السابقة التي اعتبرت الإيمان رأس المال الحقيقي للإنسان ـ لا المال والبنين والأنصار ـ تشير هذه الآية إلى حقيقة أنّ الزوجة والأبناء والأموال إنَّما هي ثروات تنفع في الحياة المادّية هذه، ولكنّها لا يمكن أن تشكّل هدف الإنسان الأصيل. صحيح أنّه بغير هذه الوسائل لا يمكن السير في طريق السعادة والتكامل المعنوي، إلاَّ أنّ الإستفادة منها في هذا السبيل شيء وحبّها وعبادتها ـ بغير أن تكون مجرّد وسيلة يستفاد منها ـ شيء آخر.

في هذه الآية بضع نقاط ينبغي الإلتفات إليها :

1 ـ مَن الذي جعل المادّيات زينة ؟

في تعبير (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ)(2) جاء الفعل مبنيّاً للمجهول، أي أنّ الفاعل المجهول قد زيَّن للناس حبّ الزوجة والأولاد والأموال. في هذه الحالة يخطر للمرء هذا السؤال : ترى من هو الذي زيَّن هذه الاُمور للناس ؟

بعض المفسّرين يرون أنّ هذه المشتهيات من عمل الشيطان الذي يزيّنها في أعين الناس، ويستدلّون على ذلك بالآية 24 من سورة النمل : {وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم} وأمثالها(3). إلاَّ أنّ هذا الاستدلال لا يبدو صحيحاً، لأنّ الكلام في الآية التي نبحث فيها لا تتكلّم عن «الأعمال»، بل عن الأموال والنساء والأبناء.

إنّ التفسير الذي يبدو صحيحاً هو أنّ الله هو الذي زيَّن للناس ذلك عن طريق الخلق والفطرة والطبيعة الإنسانية.

إنّ الله هو الذي جعل حبّ الأبناء والثروة في جبلّة الإنسان لكي يختبره ويسير به في طريق التربية والتكامل، كما يقول القرآن {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].

ممّا يثير الإلتفات في الآية أنّ الزوجة أو المرأة قد وردت أوَّلاً، وهذا هو ما يقول به علماء النفس اليوم، بأنّ الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز في الإنسان، كما أنّ التاريخ المعاصر والقديم يؤيّد أنّ كثيراً من الحوادث الإجتماعية ناشئة عن طغيان هذه الغريزة.

وينبغي القول أيضاً إنّ هذه الآية والآيات المشابهة لا تذمّ العلائق المعتدلة مع المرأة والأولاد والمال، لأنّ التقدّم نحو الأهداف المعنوية غير ممكن بدون الوسائل المادّية، وهي لا تتعارض مع نواميس الخلق الطبيعية. إنّما المذموم هو الإفراط في هذه العلائق، وبعبارة أُخرى : المذموم هو عبادة هذه الأُمور.

2 ـ ما هي «القناطير المقنطرة» و«الخيل المسوّمة» ؟

«قناطير» جمع قنطار، وهو الشيء المحكم، ثمّ أُطلق على المال الكثير. وإطلاق «القنطرة» على الجسر، و«القِنْطَر» على الشخص الذكي إنّما هو لإحكام البناء أو الفكر. و«المقنطرة» اسم مفعول يدلّ على الكثرة والمضاعفة، وذكرهما متتاليين يعني التوكيد، كقولنا «آلاف مؤلّفة» ونقصد به الكثرة الكاثرة.

هناك من حدّد وزن القنطار بأنّه يساوي سبعين ألف دينار ذهباً، وقال بعض إنّه مائة ألف دينار، وقال آخرون إنّه يساوي اثني عشر ألف درهم، ويقول بعض إنّ القنطار كيس مملوء ذهباً أو فضة.

وفي رواية عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) أنّ القنطار مقدار من الذهب الذي يملأ جلد بقرة(4). إلاَّ ا نّ كلّ هذه تشير إلى المال الوفير.

«الخيل» اسم جمع للفرس، وتطلق على الفرسان أيضاً. والمقصود في الآية هو المعنى الأول طبعاً.

و «المسوّمة» بمعنى المعلّمة أي ذات العلامة، فقد تُعلّم الخيل لإبراز جمال هيكلها ورشاقتها، أو لمعرفة أنّها مدرّبة ومعدّة للركوب في ميادين القتال.

وعليه، فإنّ الآية تعدّد ستة من ثروات الحياة وهي : المرأة، والولد، والمال، والخيول الأصيلة، والمواشي والإبل، والزراعة، وهي أركان الحياة المادّية.

3 ـ ما هو المراد بـ (متاع الحياة الدنيا) ؟

«المتاع» هو الإنتفاع بالشيء بعض الوقت. والحياة الدنيا هي الحياة الواطئة الحقيرة. فيكون معنى الآية : إذا عشق أحد هذه الأشياء الستة وحدها باعتبارها الهدف النهائي للحياة، ولم يستفد منها كسلّم للصعود في مسيرة حياته، يكون قد اختار لنفسه حياة منحطّة.

وفي الحقيقة أنّ تعبير «الحياة الدنيا» إشارة إلى سير الحياة التكاملي، إذ أنّ هذه الحياة الدنيا تعتبر المرحلة الأُولى في ذلك السير. لذلك تشير الآية في النهاية إلى الحياة السامية التي تنتظر الإنسان فتقول {والله عنده حسن المآب}.

4 ـ كما تقدّم في تفسير الآية، فقد اشارت الآية إلى النساء من بين النعم المادّية وقدّمتها على الجميع، لأنّها بالقياس الى النعم الاُخرى أقوى تأثيراً واشدّ جاذبية لأهل الدنيا وقد تدعوهم إلى ارتكاب أعظم الجنايات في هذا السبيل.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص215-217.

2 ـ الشهوات : جمع شهوة، أي حبّ شيء من الأشياء حبّاً شديداً ، ولكنها في هذه الآية بمعنى المشتهيات.

3- الانفال ،48؛والعنكبوت،38.

4-بحار الانوار ،ج2 ،ص 5.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى