زهير بن القين
زهير بن القَيْن الأنماريّ البَجَليّ، من شجعان المسلمين، وممّن اشترك في الفتوح الإسلاميّة، وقد التحق بالإمام الحسين عليه السّلام أثناء الطريق.. وهذه قصّة التحاقه.
توفيق رفيع
عَلِم الإمامُ الحسين عليه السّلام أنّ يزيد بن معاوية أنفَذَ إليه مَن يقتله في مكّة ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة المشرّفة، فخشي عليه السّلام أن تُنتهَك حُرمة البيت الحرام، لذا خرج من مكّة المكرّمة يوم التروية ( الثامن من ذي الحجّة سنة 60 هجريّة ) بعد أن خطب فيها معلناً نهضته، قائلاً في ختامها: ألاَ ومَن كان فينا باذلاً مهجتَه، مُوطّناً على لقاء الله نفسَه، فلْيَرحَلْ معنا؛ فإنّي راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله (1).
وسار الموكب الحسينيّ نحو كربلاء.. وكان هنالك موكبٌ آخر يسير بزعامة زهير بن القَين يحوي نفراً من البَجَليّين والفَزاريّين، جانَبوا الحسين عليه السّلام ولم يرغبوا في مُسايَرَته والنزول معه. قال بعضهم:
كنّا مع زهير بن القين، أقْبَلْنا من مكّة نُساير الحسين عليه السّلام.. إذا سار تخلّف زهير، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير. حتّى نزلنا في منزلٍ لم نجد بُدّاً من أن نُنازِله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب. فبينا نحن جُلوسٌ نَتَغدّى إذْ أقبل رسولُ الحسين، فسلّم ثمّ دخل، فقال: يا زهير بن القَين، إنّ أبا عبدالله الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيه. قال: فطرح كلُّ إنسانٍ ما في يده، حتّى كأنّنا على رؤوسنا الطير!
فأحجَم زهير قليلاً.. وهنا نادَته زوجتُه دَلْهَم بنت عمرو: أيَبعَث إليك ابنُ رسول الله ثمّ لا تأتيه ؟! سبحان الله! لو أتيتَه فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفت.
فذهب زهير.. فما لَبث أن عاد مُستبشراً قد أسفَر وجهُه، فأمر بفسطاطه وثِقله ومَتاعه فقُدّم له، وحَمَله نحو الإمام الحسين عليه السّلام، ثمّ قال لأصحابه: مَن أحَبَّ منكم أن يَتبعني، وإلاّ فإنّه آخِرُ العهد، إنّي سأحدّثكم حديثاً:
غَزَونا بَلَنْجر (2) ففتح اللهُ علينا وأصَبْنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهليّ: أفَرِحتُم بما فَتَح اللهُ عليكم وأصَبْتُم من الغنائم ؟ فقلنا: نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شبابَ آلِ محمّد فكونوا أشدَّ فَرَحاً بقتالكم معهم بما أصَبْتُم من الغنائم.
ثمّ قال زهير: أمّا أنا فإنّي أستودعكمُ الله (3).
روح النصرة والولاء
بلغ حبُّ أصحاب الحسين للحسين عليه السّلام في كربلاء غايةً قُصوى، جعلهم يتسابقون على بذل الأرواح دونه، حتّى أنّ عابس بن أبي شَبيب الشاكريّ صرّح بذلك لإمامه بقوله: أمَا واللهِ ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعزَّ علَيّ ولا أحبَّ إليّ منك (4).
ووقف مسلم بن عوسجة يقول للإمام الحسين عليه السّلام بعد أن أذِن للأصحاب بالانصراف: أمَا واللهِ لو قد علمتُ أنّي أُقتَل ثمّ أُحيا، ثمّ أحرَق ثمّ أُحيا، ثمّ أذرّى.. ثمّ يُفعَل بي ذلك سبعين مرّةً ما فارقتُك.
وقام زهير بن القين فقال: واللهِ لَوَدِدْتُ أنّي قُتِلتُ ثمّ نُشرِت، ثمّ قُتلت.. حتّى أُقتلَ هكذا ألفَ مرّة، وأن اللهَ عزّوجلّ يَدفَع بذلك القتلَ عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفِتْيان مِن أهل بيتك (5).
الموقف الصعب
أصبَحَ صباحُ عاشوراء، فصلّى الإمام الحسين عليه السّلام بأصحابه ثمّ خَطَبهم قائلاً: إنّ الله قد أذِن في قتلكم، فعليكم بالصبر (6). ثمّ صفّهم للحرب، وصفّ عمرُ بنُ سعد أصحابَه وقد طَوّقوا أرضَ كربلاء خيلاً ورجالاً.. فخطبهم الحسين سلام الله عليه ووعظهم؛ إكمالاً وإتماماً للحُجّة عليهم، وترغيباً في الهداية والرشد.
وبعد خطاب سيّد الشهداء عليه السّلام، تقدّم بعض أصحابه يخطبون في أهل الكوفة، وكان فيهم: زهير بن القَين، تقدّم على فرسه وهو شاكٍ في السلاح فنادى:
« يا أهل الكوفة، نَذارِ لكم مِن عذابِ الله نَذارِ! إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوةٌ على دينٍ واحد وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العِصمة، وكنّا أمّةً وأنتم أمّة.
إن الله ابتلانا ( أي اختبرنا ) وإيّاكم بذريّةِ نبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخِذْلان الطاغية يزيد وعبيدالله بن زياد؛ فإنّكم لا تُدرِكون منهما إلاّ سوءَ سلطانهما كلّه، لَيَسملانِ أعيُنَكم، ويُقطّعان أيديَكُم وأرجلَكُم، ويُمثّلان بكم، ويرفعانكم على جُذوع النخل، ويقتلان أماثِلَكم وقُرّاءَكم أمثالَ حُجْرِ بن عَدِيّ وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه ».
فما كان منهم إلاّ أن سَبُّوا زهيراً وأثنَوا على عبيدالله، وقالوا: واللهِ لا نَبرحُ حتّى نَقتُلَ صاحبَك ومَن معه، أو نَبعثَ به وبأصحابه إلى عبيدالله سلماً!
فأجابهم زهير: عبادَ الله، إنّ وُلْد فاطمة أحقُّ بالودّ والنصر من ابن سُميّة، فإن لم تنصروهم فأُعيذكم بالله أن تقتلوهم.
فرماه شمرُ بن ذي الجوشن بسهمٍ وقال: اسكُتْ أسكَتَ الله نَأمَتَك، أبرَمتَنا بكثرة كلامك! فقال زهير: يا ابنَ البوّال على عَقِبَيه! ما إياك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، واللهِ ما أظنّك تُحِكم من كتاب الله آيتين، فأبشِرْ بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. قال الشمر: إنّ الله قاتِلُك وصاحبَك عن ساعة. فقال له زهير: أفَبِالموتِ تُخوّفني ؟! فوَاللهِ لَلموتُ معه أحَبُّ إلَيّ من الخُلد معكم.
ثمّ أقبل زهير بن القين على الناس رافعاً صوتَه:
عبادَ الله، لا يَغُرّنّكم عن دينكم هذا الجِلفُ الجافي وأشباهه، فوَاللهِ لا تَنال شفاعةُ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله قوماً هَرَقوا دماء ذريّتهِ وأهل بيته، وقتلوا مَن نَصَرهم وذَبَّ عن حَريمهم.
فناداه رجل من أصحاب الحسين عليه السّلام: إنّ أبا عبدالله يقول لك: أقْبِلْ؛ فلَعَمري لئن كان مؤمنُ آلِ فرعون نَصَح لقومه وأبلَغَ في الدعاء ( أي الدعوة إلى الحق )، فلقد نَصَحتَ لهؤلاء وأبلَغْتَ لو نَفع النُّصحُ والإبلاغ! (7)
إلى ساحة الوغى
لأصحاب الإمام الحسين عليه السّلام حملةٌ كبرى في بدء نهار عاشوراء، اشتركوا فيها بأجمعهم، وصُرِع فيها أكثرهم على قلّتهم، فصاروا بعدها يَبرُزون وحداناً أو مَجاميعَ صغيرة.. وقد خرج الحرّ بن يزيد الرياحيّ للحرب، فكان زهير بن القين يحمي ظهره، فكان إذا شدّ أحدهما واستَلحَم شَدّ الآخرُ فاستَنقَذه.. حتّى استُشهد الحرّ رضوان الله عليه، فعاد زهير إلى موقعه يستعدّ لجولةٍ أخرى.
وبعد الزوال.. خرج سلمانُ بن مُضارب البَجَليّ ـ وهو ابن عمّ زهير ـ فقاتل حتّى استُشهِد. بعده خرج زهير، فوضع يده على منكب الإمام الحسين عليه السّلام وخاطبه مُستئذناً:
أقدِمْ هُدِيتَ هاديـاً مَهديّافاليومَ ألقى جدَّك النبيّـاوحَسَناً والمرتضى عليّـاوذا الجَناحَينِ الفتَى الكميّا
فقال له الحسين عليه السّلام: وأنا ألقاهما على أثرك.
وتقدّم زهير بن القين فقاتل قتالاً لم يُرَ مِثلُه ولم يُسمع بشبهه، وأخذ يحمل على القوم وهو يرتجز ويقول:
أنا زهيـرٌ وأنا ابـنُ القَينِأذودُكم بالسيفِ عن حُسَينِإنّ حُسَينـاً أحدُ السِّـبطَينِمِن عِترةِ البَرِّ التقيِّ الزَّينِ
فقتلَ منهم مئةً وعشرين رجلاً، ثمّ عَطَف عليه كُثَيرُ بن عبدالله الصَّعبيّ، والمهاجِر بن أوس.. فقتلاه، فوقف الإمام الحسين عليه السّلام وقال له: لا يُبعدَنَّك الله يا زهير، ولَعَنَ قاتِليك لَعْنَ الذين مُسِخوا قِرَدةً وخنازير (8).
طِيب الذكرى
• في زيارته المقدّسة.. جاء عن الإمام المهديّ صلوات الله عليه وعلى آبائه:
السلام على زُهيرِ بنِ القَينِ البَجَليّ، القائلِ للحسين عليه السّلام ـ وقد أذِن له في الانصراف: لا واللهِ لا يكون ذلك أبداً، أتْرُكُ ابنَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله أسيراً في يدِ الأعداءِ وأنجو أنا ؟! لا أراني اللهُ ذلك اليوم! (9)
• عبدالله المامقانيّ: ذَكَر أهلُ السِّيَر أنّ زهيراً هذا كان رجلاً شريفاً في قومه، نازلاً فيهم بالكوفة، شجاعاً، له في المغازي مواقفُ مشهورة، ومواطن مشهودة (10).
• ذبيح الله المحلاّتيّ: يجب أن يُعلَم أنّ زهير بن القين كان من الرجال المهمّين، ومن الفرسان الأُسود، ومن الخطباء. كان عالي القَدْر، وكان في ميمنة أصحاب الإمام الحسين عليه السّلام (11).
• عبدالواحد المظفّر: زهير بن القين البَجَليّ الشهيد مع الحسين عليه السّلام بطفّ كربلاء، هو من وجوه أهل الكوفة وأعيان التابعين، وأعلام أهل العراق المعروفين بالرئاسة والشرف والشجاعة، ومن الخطباء والشعراء والأبطال (12).
• إسماعيل اليوسف: خرج زهير ـ وكان بطلاً مشهوراً ـ فقاتل قتال الأشدّاء.. حتّى استطاع قَتْلَ عشراتٍ من القوم وجَرْحَ الكثيرين (13).
فسلامٌ عليك يا زهير في الغيارى الشجعان، وأسكنك ربُّك فسيح الجِنان.
المصادر
1 ـ اللهوف في قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس 53.2 ـ في بلاد الخَزَر، فتحها سليمان بن ربيعة. معجم البلدان لياقوت الحمويّ 278:2.3 ـ تاريخ الطبريّ 225:6.4 ـ تاريخ الطبري 254:6.5 ـ الإرشاد للشيخ المفيد 231.6 ـ كامل الزيارات لابن قولويه 73.7 ـ تاريخ الطبريّ 244:6.8 ـ تاريخ الطبريّ 253:6. مقتل الحسين عليه السّلام للخوارزميّ 20:2.9 ـ إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس 576.10 ـ تنقيح المقال 452:1.11 ـ فرسان الهيجاء 142:1.12 ـ الأمالي المنتخبة 56.13 ـ شهيد كربلاء الحسين بن عليّ 79