سخاء الإمام الرضا عليه السلام وإحسانه
لم يكن شيء في الدنيا ، أحب إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) من الإحسان إلى الناس و البِر بالفقراء ، و قد ذكر المؤرخون بوادر كثيرة من جوده ، و إحسانه ( عليه السلام ) ، و كان منها ما يلي :
أولاً :
أنه ( عليه السلام ) ، أنفق جميع ما عنده على الفقراء ، حينما كان في خراسان ، و ذلك في يوم عرفة .
فأنكر عليه الفضل بن سهل ، و قال له : إن هذا المغرم ..
فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : بل هو المغنم ، لا تحدث مغرماً ، ما ابتغيت به أجراً و كرماً .
إنه ليس من المغرم في شيء صِلَة الفقراء و الإحسان إلى الضعفاء ابتغاء مرضاة الله تعالى ، و إنما المغرم ، هو الإنفاق بغير وجه مشروع ، كإنفاق الملوك و الوزراء الأموال الطائلة على المغنيين و العابثين .
ثانياً :
وفد على الإمام الرضا ( عليه السلام ) رجل ، فَسلَّم عليه ، و قال له : أنا رجل من مُحبِّيك و محبِّي آبائك ، و مصدري من الحج ، و قد نفذت نفقتي ، و ما معي ما أبلغ مرحلة ، فإن رأيت ، أن ترجعني إلى بلدي ، فإذا بلغت تصدقت بالذي تعطيني عنك .
فقال ( عليه السلام ) له : اِجلس رحمك الله ، و أَقبلَ على الناس يحدثهم ، حتى تفرقوا .
و بقي هو و سليمان الجعفري ، و حيثمة ، فاستأذن الإمام منهم ، و دخل الدار ثم خرج ، وَرَدَّ الباب ، و خرج من أعلى الباب ، و قال ( عليه السلام ) : أين الخراساني .
فقام إليه فقال ( عليه السلام ) له : خذ هذه المائتي دينار ، و استعِن بها في مؤنتك و نفقتك ، و لا تتصدق بها عني .
فانصرف الرجل مسروراً ، قد غمرته نعمة الإمام ( عليه السلام ) ، و التفت إليه سليمان فقال له : جُعلت فداك ، لقد أجزلت و رَحِمت ، فلماذا سَترتَ وجهك عنه .
فَأجابهُ ( عليه السلام ) : إِنَّما صنعتُ ذلك ، مخافة أن أرى ذُلَّ السؤال في وَجهِهِ لِقضَائِي حاجتَهُ .
أما سمعت حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
المُستَتِرُ بالحسنة تعدل سبعين حجة ، و المُذِيعُ بالسيِّئةِ مَخذُول .
أما سمعت قول الشاعر :
مَتى آَتِهِ يَوماً لأَطلبَ حَاجَةً
رَجِعتُ إِلَى أَهلِي وَوَجهِي بِمَائِهِ
ثالثاً :
و من سخائه ( عليه السلام ) أنه ، إذا أتي بصحفة طعام عَمدَ إلى أطيب ما فيها من طعام ، و وضعه في تلك الصحفة ثم يأمر بها إلى المساكين ، و يتلو هذه الآية : ( فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَة ) ، [ البلد 11 ] . ثم يقول ( عليه السلام ) : علم الله عزَّ وجلَّ أن ليس كلَّ إنسانٍ يقدر على عتق رقبة فجعل له السبيل إلى الجنة .
رابعاً :
و من بوادر جوده و كرمه ( عليه السلام ) ، أنَّ فقيراً قال له : أعطني على قدر مروءتك . فأجابه الإمام ( عليه السلام ) : لا يَسَعَني ذلك . فالتفت الفقير إلى خطأ كلامه ، فقال ثانياً : أعطني على قدر مروءتي . و قابله الإمام بِبَسَمات فَيَّاضة بالبشر قائلاً : إذن نعم . و أمر ( عليه السلام ) له بمائتي دينار . فإن مروءة الإمام ( عليه السلام ) لا تُعَدُّ ، فلو أَعطَاه ( عليه السلام ) جَميع ما عِندهُ ، فإن ذلك ليسَ عَلى قدرِ مروءتِهِ و رحمتِهِ التي هي امتداد لِمُروءة جَدِّهِ الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
خامساً :
ومن معالي كَرَمِهِ ( عليه السلام ) ما رواه أحمد بن عبيد الله عن الغفاري ، قال : « كانَ لِرَجلٍ من آل أبي رافع عليَّ حق فتقاضاني وَ أَلَحَّ عليَّ ، فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم توجهت نحو الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، و كان في العريض . فلما قربت من بابه خَرجَ ( عليه السلام ) ، و عليه قميص ورداء ، فلما نظرت إليه اسْتَحْيَيْتُ منه ، و وقف ( عليه السلام ) لما رآني . فَسَلَّمتُ عليه ، و كان ذلك في شهر رمضان ، فقلت له : جُعلت فداك ، لِمَولاك عَلَيَّ حقٌّ ، شَهَرَنِي . فأمرني ( عليه السلام ) بالجلوس حتى يرجع ، فلم أَزَل في ذلك المكان ، حتى صَلَّيتُ المغرب و أنا صائم ، و قد مَضَى بعض الوقت فَهَمَمْتُ بالانصراف . فإذا الإمام ( عليه السلام ) قد طَلَع ، و قد أحاط به الناس ، و هو يتصدق على الفقراء و المَحُوجِين . و مضيت معه ( عليه السلام ) حتى دخل بيته ، ثم خرج فدعاني فقمت إليه ، و أمرني بالدخول إلى منزله ، فدخلت ، و أخذت أحدثه عن أمير المدينة ، فلما فرغت من حديثي ، قال ( عليه السلام ) لي : ما أظُنُّكَ أفطرت بعد . قلتُ : لا . فدعاني ( عليه السلام ) بطعام ، و أمر غُلامه ، أن يتناول معي الطعام ، و لما فرغت من الإفطار أمرني ، أن أرفع الوسادة ، و آخذ ما تحتها . فرفعتُها فإذا دنانير ، فوضعتها في كمي ، و أمر بعض غلمانه ، أن يبلغوني إلى منزلي ، فمضوا معي . و لما صرت إلى منزلي دعوت السراج ، و نظرتُ إلى الدنانير ، فإذا هي ثمانية و أربعون ديناراً . و كان حق الرجل عَلَيَّ ثمانية و عشرين ديناراً ، و قد كُتِبَ على دينار منها ، أن حَقَّ الرجل عليك ثمانية و عشرين ديناراً ، و ما بقي فهو لك .
وهذه بعض بوادر كرمه ( عليه السلام ) ، و هي تُنمِ عن نفس خُلقَت للإحسان و البِرِّ و المَعروف .