سياسة الحزم واللين في الخطاب الإلهي
إن من الحكمة مداراة المواقف بما يلائمها، فليس إجحافاً استعمال الحزم والقوة حين يستدعي الأمر ذلك، وليس ضعفاً عندما يكون اللين ضرورة يقتضيها الموقف، ولا يصلح أن يكون بينهما تبادل للأدوار، فلا يناسب موضع الحزم استعمال اللين ولا العكس،
إذ الإعتبار في استعمال هاتين اللفظتين هو وقوعهما فيما يناسبهما، والعاقل الحكيم يعطي لكل مقام ما يناسبه،
إلا أن فهمنا لكثير من المفردات يأخذ معنىً مغلوطاً في كثير من الأحيان، فلا نرى اللين مثلاً إلاّ مدعاة للضعف والإنكسار، والحزم إلا معنى للقسوة المقابلة بالضد من الرحمة، أو الشدة والانحراف في دائرة الهوى المضل، في حين أن الحزم إذا ما وضع موضعه فهو القوة والردع المطلوبان في حفظ النظام العام والأخذ على يد المسيئين إذا ما تطلب الأمر ذلك ( إنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) , والغلظة على الكافرين والتنمر في ذات الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ، ورعاية الحقوق وإقامة الحدود (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) ، ولعل الحزم في بعض مواطنه هو قمة في الرحمة والعطف والحنان، فمشرط الطبيب هو أجدى وأرحم لإزالة وجع المريض من دموع أمه، كما أن اللين في محلِّه ومضانه هو أدعى للقوة والكمال، لأن التوجه باللين والرفق معتمد خطاب الله وسننه الربانية التي يدعو بها عباده إلى الهداية والصلاح، وما يصدر عنه سبحانه وتعالى لا يوسم بالضعف والإنكسار فالله قوي عزيز، كما أن كل أدوات الاستقطاب ومن بينها الرفق واللين لها من قوة التأثير ما لا يمكن نكرانه، فأن للأجسام الجاذبة قدراً من قوة التأثير كي تجذب الأشياء نحوها، ولا يتصور أن يكون محلّها الضعف، وقد استعمل الله سبحانه وتعالى في خطابه لعباده أسلوب الرفق واللين ليستقطب به مجامع قلوبهم، ولتصير آذانهم صاغيةً لهديه وإرشاده، (أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُور رَّحِيمٌ) ، ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، وهذا بيّن فيما أراد الله أن يرشدنا إليه، فقد أعطانا درساً في كيفية التعامل مع الناس باللين والرفق، وفي بيان أثرهما على ما يؤديه المؤمن الرسالي وما يضطلع به من مهام وأدوار في حركته الإبلاغية، لأن فيهما كسب القلوب والمحبة في النفوس، فيحقّق بهما ما يعجز عنه بغيرهما، لأنه متى ما قال سُمِع قوله ومتى ما طلب أجيب طلبه، يراه الناس بلباس اللين جميلاً في الإستقامة والإعتدال، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الرفق: ( لو كان خَلقاً يرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه) ، ويقول أيضاً 🙁 لم يوضع على شيء إلاّ زانه، ولا نُزع من شيء إلاّ شانه) . إن اللين يؤسّس في النفوس بناءً مهذباً يقوم على حقيقة التعامل الطيب مع الناس وإظهار المودة لهم وتحمل أذاهم والصبر عليه والحلم عمن أساء منهم ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، وحقيق علينا أن نتخلّق بخلق هذه الآية الكريمة ونلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به، فنترفع عمن أساء إلينا وندفع إساءته بالحسنة والإحسان إليه، وإن كنا قادرين على رد الإساءة إليه، ونعزز هذا الخلق الطيب بما نلمس من المواقف الصادرة من أسوتنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، كما هو معلوم من سيرتهم في تعاملهم الرؤوف مع أعدائهم فضلاً عن أتباعهم وأوليائهم، لذا فهم أولى بالإتباع والإقتداء من غيرهم من ذوي النفوس الخبيثة الفظّة التي حرمت اللين والسماحة وإقالة الإساءة، – ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله – وتلك النفوس بما مشجت عليه من الغلظة، أصبحت معتادة على تتّبّع العثرات ومقابلة أصحابها بالتنكيل والإساءة، وأكثر من ذلك تقابل الإحسان بالإساءة وأولئك يعقبهم الخسران، فلا تكن مع الخاسرين