سيف من أسياف على عليه السلام محمد بن أبي بكر
عندما تتدخل الأقدار بنقل هذا البرعم الطاهر وهو غضّ يانع إلى الأرض الطاهرة التي تغذّيه من عقيدتها وتسقيه من نورها فيتصلّب عوده من أخلاقها وتترسّخ جذوره من مبادئها، فإنه يكون منها وإن جاء من أرض غير أرضها، فالفطرة هي التي تولد انطباعاً لدى الانسان بأنه ينتمي إلى من يقاربه في الروح.
وكما يتجسّد عمق هذا المعنى بقول أمير المؤمنين (ع): (ربَّ أخٍ لكَ لم تلده أمك)، فإنه يمكن أن يقال عن علاقة الإمام علي (ع) بمحمد بن أبي بكر بـ (ربَّ ابنٍ لمْ تنجبه).
ولد محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة في العام العاشر للهجرة ــ في حجة الوداع ــ بذي الحليفة، أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وهي من المهاجرات إلى أرض الحبشة مع زوجها الأول جعفر بن أبي طالب، وقد ولدت له هناك – في الحبشة – محمداً وعبد الله وعوناً، ولما استشهد جعفر في معركة مؤتة تزوجها أبو بكر فولدت له محمداً ثم مات عنها، فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى.
نشأ محمد في بيت الإمام علي وعندما شبَّ بدأت رحلته معه، وكانت رحلة طويلة وشاقة، رحلة جهاد وكفاح وقف فيها محمد مع أمير المؤمنين في صراعه ضد الباطل وشهدت له سُوح الوغى بمواقف بطولية رائعة فكان كالجبل الأشم لا تهزّه الأعاصير عند اشتباك الحرب وتلاحم السيوف والرماح متسلحاً بعقيدته في الدفاع عن الحق بيده ولسانه، فكان أحد المحامدة الذين قال فيهم أمير المؤمنين: (إن المحامدة تأبى أن يُعصى الله) وهم: محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن الحنفية.
لم بفارق محمد الحق منذ اتبعه وظلَّ ملازماً للإمام حتى استشهاده في مصر، وكان أمير المؤمنين يعرف منه هذا الإخلاص والطاعة فولّاه مصر، ولا يُخفى ما لمصر من الأهمية في تلك الفترة وما يجب على من يتولّاها من مسؤولية، فكان محمد كفؤاً لهذه المسؤولية، ويتّضح ذلك من كتاب أمير المؤمنين له حين ولاه مصر حيث قال له: (واعلم يا محمد بن أبي بكر إني قد وليتك أعظم أجنادي إلى نفسي، أهل مصر).
محمد.. ربيب علي
بعد أن وضعت حرب صفين أوزارها وانتهت بمهزلة الحكمين تجرّد معاوية للإغارة على البلاد التي هي تحت سيطرة أمير المؤمنين وكان قد جعل مصر – طعمة – لعمرو بن العاص، إن غلب عليها فكان جل هم عمرو الاستيلاء على مصر فبلغ ذلك أمير المؤمنين وكان محمد والياً عليها من قبله فأراد عليه السلام أن يوليها – مصر – للأشتر لأنه أسن من محمد وأكثر خبرة في إدارة أمور الحرب، ولم يكن هناك تقصير من جانب محمد كما جاء في كتاب الإمام (ع) له لما بلغه توجّده من عزله وكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فأجابه الإمام بهذا الكتاب:
(أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك وإنّي لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهد، ولا ازدياداً لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة وأعجب إليك ولاية…)
فأمير المؤمنين (ع) يصرح بجدارة محمد للولاية واسترضائه وتعريفه وجه عذره في تولية الأشتر لعمله وإن ذلك لم يكن لموجده عليه ولا تقصير منه.
عُرف محمد بعبادته وكثرة صلاته حتى عُدّ من نسّاك قريش، كما عُرف بسعة علمه فهو خريج مدرسة الإمام علي ولم يكن يعرف له أباً سواه، ولا يعتقد فضيلة لغيره، حتى قال فيه (ع): (محمد ابني ولكن من صلب أبي بكر)، وهناك كثير من المواقف المشرِّفة شهدت لمحمد تمسّكه بأمير المؤمنين ومدى إخلاصه وطاعته له واعترافه بفضله لأنه وجده الصراط المستقيم الذي من تبعه فقد استمسك بالعروة الوثقى ومن زاغ عنه فهو من الهالكين، من هذه المواقف كتابه الذي أرسله إلى معاوية ونقتبس منه هذه الفقرة:
(إن الله اصطفى وانتخب محمداً فاختصه برسالته…، فكان علي أول من أجاب وأناب، وصدّق ووافق، فأسلم وسلّم، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب فصدقه بالغيب المكتوم، وآثره على كل حميم، ووقاه كل هول، وواساه بنفسه في كل خوف، فحارب حربه وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل، ومقامات الروع، حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده، ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت، وهو هو السابق المبرّز في كل خير، أول الناس إسلاماً، وأصدق الناس نية، وأطيب الناس ذرية، وأفضل الناس زوجة، وخير الناس ابن عم).
وبعد أن يذكر جملة من مخازي معاوية وأبيه وبني أمية وعِدائهم للإسلام ومحاربتهم لنبيه الكريم يقول: (… فكيف – يا لك الويل – تعدل نفسك بعلي!! وهو وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصيه، وأبو ولده، وأول الناس له اتّباعاً، وآخرهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويشركه في أمره، وأنت عدوه وابن عدوه…..).
هذه الكلمات لا تحتاج إلى شرح أو تعليق فأنها تسفر عن نور في داخل محمد وتنطق عن ضمير حي وتشرق عن سجية كريمة وصبغة شريفة ومعدن أصيل.
استشهاد محمد
لما قتل عثمان دعا محمد بن أبي حذيفة المصريين على بيعة أمير المؤمنين وطرد والي مصر عليها من قبل عثمان, عبد الله بن أبي سرح وصلى بالناس والتحق ابن أبي سرح بمعاوية، وولى أمير المؤمنين قيس بن سعد بن عبادة على مصر وبايع الناس أمير المؤمنين واستقامت له مصر إلا قرية (كانت ظالمة) كبُر عليها مقتل عثمان فهادنهم قيس ولم يقاتلهم، وكان مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري يحرّض الناس على التمرّد والطلب بدم عثمان فنهره قيس وهدّده فسكت ولكن سكوته هذا كان كالجمرة تحت الرماد.
ولما سار أمير المؤمنين إلى صفين أرسل إلى قيس للحاق به وولى على مصر محمد بن أبي بكر فتمرّد أولئك الذين لم يبايعوا علياً وأعلنوا العصيان، ولما وصلت إليهم أخبار صفين وانشقاق جيش العراق اجترؤا على محمد بن أبي بكر وأظهروا العداوة له، فبعث إليهم رجلاً فقتلوه ثم بعث إليهم رجلاً آخر فقتلوه أيضاً.
وجهر العثمانيون بالعصيان على خلافة أمير المؤمنين وخرج أشدهم في ذلك معاوية بن خديج السكسكي فدعا إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه كثير آخرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر، فبلغ علياً عصيانهم عليه فقال: ما لمصر إلا الأشتر. وكان علي حين رجع عن صفين قد ردّ الأشتر إلى عمله بالجزيرة، وقال لقيس بن سعد: أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة ثم اخرج إلى آذربيجان، فكان قيس مقيماً على شرطته، فلما انقضى أمر الحكومة أرسل الأشتر إلى مصر لكنه قتل مسموماً قبل أن يبلغها.
أما معاوية فقد استغل هذا العصيان والفوضى في مصر فأرسل عمرو بن العاص إليها فلما وصل أطراف مصر انضمت إليه العثمانية فكتب محمد إلى أمير المؤمنين بذلك وطلب منه أن يمدّه بجيش فكتب إليه (ع): (حصن قريتك واضمم إليك شيعتك وأذك الحرس في عسكرك، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والتجربة والبأس).
وجمع محمد أصحابه وقال لهم: (إن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلالة ويشبون نار الفتنة ويستطيلون بالجبرية قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود، فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجالدهم في الله، انتدبوا إلى هؤلاء رحمكم الله مع كنانة بن بشر ومن يجيب معه من كندة).
فأجاب محمد منهم ألفا رجل، وجاء كنانة بألفي رجل فصاروا أربعة آلاف فأرسل إليهما عمرو بن العاص الكتائب كتيبة بعد كتيبة لدخول مصر، ولكن كنانة بن بشر تصدّى لها وهزمهما وردها خائبة فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي فأتاه بجيش من العثمانية وانضم إلى عمرو وهجموا هجمة واحدة على كنانة الذي ثبت في القتال وقاتل ببسالة نادرة حتى استشهد.
ولما رأى أصحاب محمد بن أبي بكر مقتل كنانة تفرقوا عن محمد وبقي وحده، ولم يعرف إلى أين يمضي وانتهى به الطريق إلى خربة فآوى إليها، ودخل عمرو بن العاص مصر، وكلف معاوية بن حديج بتعقب محمد فسأل عن مكانه حتى وصل إليه فاستخرجوه وهو يكاد يموت عطشاً.
وكانت هناك محاولة من عبد الرحمن بن أبي بكر الذي كان في جيش عمرو بن العاص فتوسّط عنده لإنقاذ أخيه محمد لكن معاوية بن حديج أصرّ على قتله، فقال محمد عندما أيقن بالموت: اسقوني قطرة من الماء، فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبداً ثم قتله وأدخله في جوف حمار ميت وأحرقه!!
حزن أمير المؤمنين
بلغت هذه الأخبار أمير المؤمنين فحزن كثيراً حتى (رُئي ذلك فيه وتبيّن في وجهه)، فقام في الناس خطيباً وقال: (ألا وإن مصر قد افتتحها الفجرة أولياء الجور والظلم الذين صدوا عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد – رحمه الله – فعند الله نحتسبه، أما والله لقد كان ما علمت لممن ينتظر القضاء ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر ويحب هين المؤمن….)
وكتب (ع) إلى عبد الله بن العباس يقول: (أما بعد فإن مصر قد افتتحت وقد استشهد محمد بن أبي بكر فعند الله عز وجل نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً). وقال في موضع آخر: (بلا ذم لمحمد بن أبي بكر فلقد أجهد نفسه وقضى ما عليه).
وقيل له (ع): لقد جزعت على محمد بن أبي بكر جزعاً شديداً يا أمير المؤمنين…! قال: (وما يمنعني؟ إنه كان لي ربيباً وكان لبنيَّ أخاً، وكنتُ له والداً أعدّه ولدا).
أجل ذلك هو أبو القاسم محمد بن أبي بكر ربيب بيت الرسالة ومعدن الإمامة ومهبط الوحي.
لقد شاءت الإرادة الإلهية أن تشرِّفه في الدنيا والآخرة وترفع قدره بفخر لا بعده فخر بأن يكون له سبباً ونسباً بالأئمة الأطهار فهو والد القاسم جد الأمام جعفر الصادق لأمه أم فروة، كما شرَّفه الله عز وجل باستشهاده في طاعة سيده أمير المؤمنين وسجّل في حقه التاريخ سجلاً مشرقاً وضاءً على جبين الدهر.