مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (النساء 1)

ل تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1] .

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآية (1) :

ابتدأ الله سبحانه هذه السورة بالموعظة والأمر بالتقوى فقال : {يا أيها الناس} : وهو خطاب للمكلفين من جميع البشر ، وقيل : النداء إنما كان سائر كتب الله السالفة بيا أيها المساكين . وأما في القرآن فما نزل بمكة فالنداء بيا أيها الناس . وما نزل بالمدينة فمرة بيا أيها الذين آمنوا ومرة بيا أيها الناس .

{اتقوا ربكم} : معناه اتقوا معصية ربكم ، أو مخالفة ربكم ، بترك ما أمر به ، وارتكاب ما نهى عنه وقيل معناه اتقوا حقه أن تضيعوه . وقيل : اتقوا عقابه ، فكأنه قال : يحق عليكم أن تتقوا عقاب من أنعم عليكم بأعظم النعم ، وهي أن خلقكم من نفس واحدة وأوجدكم ومن عظمت عنده النعمى فهو بالتقوى أولى وقيل إن المراد به بيان كمال قدرته فكأنه قال الذي قدر على أن خلقكم من نفس واحدة فهو على عقابكم أقدر فيحق عليكم أن تتركوا مخالفته وتتقوا عقوبته .

وقوله {الذي خلقكم من نفس واحدة} المراد بالنفس هنا آدم عند جميع المفسرين وإنما لم يقل نفس واحد بالتذكير وإن كان المراد آدم لأن لفظ النفس مؤنث بالصيغة ، فهو كقول الشاعر :

أبوك خليفة ، ولدته أخرى           وأنت خليفة ، ذاك الكمال (2)

فأنث على اللفظ ولو قال من نفس واحد لجاز .

{وخلق منها زوجها} : يعني حواء (عليها السلام) ذهب أكثر المفسرين إلى أنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم (عليه السلام) ورووا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال خلقت المرأة من ضلع آدم (عليه السلام) إن أقمتها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن الله تعالى خلق حواء من فضل الطينة التي خلق منها آدم وفي تفسير علي بن إبراهيم من أسفل أضلاعه .

{وبث منهما رجالا كثيرا} : أي نشر وفرق من هاتين النفسين على وجه التناسل رجالا {ونساء} وإنما من علينا تعالى بأن خلقنا من نفس واحدة لأنه أقرب إلى أن يعطف بعضنا على بعض ويرحم بعضنا بعضا لرجوعنا إلى أصل واحد ولأن ذلك أبلغ في القدرة وأدل على العلم والحكمة .

وقوله {واتقوا الله الذي تساءلون به} : قيل في معناه قولان : أحدهما أنه من قولهم أسألك بالله أن تفعل كذا وأنشدك بالله وبالرحم ونشدتك الله والرحم وكذا كانت العرب تقول عن الحسن وإبراهيم وعلى هذا يكون قوله {والأرحام} عطفا على موضع قوله به ، والمعنى : إنكم كما تعظمون الله بأقوالكم فعظموه بطاعتكم إياه والآخر أن معنى {تساءلون به} تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم به {والأرحام} معناه واتقوا الأرحام أن تقطعوها عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والربيع وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) فعلى هذا يكون منصوبا عطفا على اسم الله تعالى وهذا يدل على وجوب صلة الرحم ويؤيده ما رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : قال الله تعالى ” أنا الرحمن خلقت الرحم ، وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته ” وفي أمثال هذا الخبر كثرة . وصلة الرحم ، قد تكون بقبول النسب وقد تكون بالإنفاق على ذي الرحم وما يجري مجراه وروى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : ” أن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل به النار فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمة ، فليمسه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت ، وإنها متعلقة بالعرش ، تقول وتنادي : اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني” .

{ إن الله كان عليكم رقيبا } : أي حافظاً ، عن مجاهد . وقيل : الرقيب العالم عن ابن زيد . والمعنى متقارب ، وإنما أتى بلفظة {كان} المفيدة للماضي ، لأنه أراد أنه كان حفيظاً على من تقدم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين ، وعالماً بما صدر منهم ، لم يعزب عنه من ذلك شيء .

________________________

1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 7-9 .

2. أورده الفراء في معاني القرآن : 1/208 .

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآية (1) :

في هذه الآية أمور نبينها فيما يلي :

1– { يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ } . قيل : يا أيها الناس خطاب لأهل مكة . والصحيح انه عام لجميع المكلفين ، لأن ظاهر اللفظ يشمل الكل ، ولا دليل على التخصيص ، بل الأمر بالتقوى يؤكد الشمول والعموم ، لأن وجوب اتقاء المعاصي لا يختص بفئة دون فئة .

2- { الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ } . نقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده إن اللَّه تعالى « قد أبهم أمر النفس التي خلق الناس منها ، وجاء بها نكرة ، فندعها نحن على إبهامها . . وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله : { يا بَنِي آدَمَ } لا ينافي هذا – أي لا يرفع الإبهام – ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبناء آدم ، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجّه إليهم الخطاب في زمن التنزيل هم من أولاد آدم ، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة انه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس فسدوا فيها ، وسفكوا الدماء » .

ويتلخص ما أراده الشيخ عبده إن القرآن لا يثبت ولا ينفي إن آدم أب لجميع البشر ، بل من الجائز أن يكون للبشر العديد من الآباء ، وآدم واحد منهم ، أما قوله تعالى : { يا بَنِي آدَمَ } فإنه إن دل على شيء فإنما يدل على إن الذين خوطبوا بذلك في عهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا أولادا لآدم ، ولا يدل على إن كل من كان ويكون من البشر هو من نسل آدم ، بل يجوز أن يكون له أب غير آدم .

هذا ملخص ما أراده الشيخ .

ونجيبه أولا بأن الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة لا تختص بمن وجد حال الخطاب ، بل تشمل كل من وجد ويوجد إلى آخر يوم ، لأنها من القضايا

التشريعية التي تعم الحاضرين والغائبين من وجد منهم ومن يوجد من غير تفاوت ، تماما مثل من بلغ عشرين عاما فعليه كذا ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس : 60]  . فإنه موجه لجميع الناس دون استثناء ، سواء أكانوا في زمن الخطاب ، أم لم يكونوا .

ثانيا : ان الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة التي خوطب بها بنو آدم ، لو كانت موجهة لخصوص من كانوا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كنا نحن مكلفين بها ، ولما صح لنا الاستدلال بشيء منها على حكم من أحكام اللَّه ، مع إن جميع المسلمين ، ومنهم الشيخ عبده يحتجون بالقرآن وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل هما المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية بضرورة الدين .

وإذا كان التكليف الموجه لبني آدم شاملا لجميع البشر فالجميع يكونون ، والحال هذه ، نسلا لآدم دون استثناء ، وعليه تكون الآية 60 من يس ، والآية 27 من الأعراف : { يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ } . والآية 171 من الأعراف : { وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . والآية 70 من الإسراء : {ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ } ، تكون هذه الآيات بيانا وتفسيرا للنفس الواحدة في قوله تعالى : {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} وان المراد منها هو أبونا آدم دون لبس واشتباه بغيره .

أما قول الشيخ محمد عبده : كان قبل آدم نوع من هذا الجنس فأجبنيّ عما نحن فيه ، لأن الكلام في الجنس الباقي ، لا في الجنس البائد .

هذا ، إلى ان اللَّه سبحانه خاطبنا بقوله : { يا بَنِي آدَمَ } وأيضا خاطبنا بقوله :

{ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ } [الحج – 5]  . وأيضا قال : { إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ } فإذا عطفنا هذه الآيات بعضها على بعض تكون النتيجة : « كلكم لآدم ، وآدم من تراب » كما جاء في الحديث الشريف .

ثالثا : لقد ثبت عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : أنا سيد ولد آدم . فهل لمسلم – السؤال موجه للشيخ عبده – أن يظن أو يحتمل أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد نوعا خاصا من البشر ، لا كل البشر ؟ .

3- { وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } . قيل : أن من في ( منها ) للتبعيض ، وان المراد بزوجها حواء ، وان اللَّه تعالى خلقها من ضلع آدم ، وقيل : بل خلقها من فضل طينته كما في بعض الروايات .

ويلاحظ بأنه لا دليل على ان من في ( منها ) للتبعيض ، بل يجوز أن تكون للبيان ، مثل قوله تعالى : {ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} [الروم – 20]  ، وعليه يكون المعنى إن كلا من النفس الواحدة وزوجها خلق من أصل واحد ، وهذا الأصل هو التراب ، لقوله تعالى : {ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم – 19] .

أما قول من قال : إن المراد بزوجها حواء فلا دليل عليه من القرآن ، حيث لم يرد لها ذكر فيه على الإطلاق .

4 – {وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً} . أي ونساء كثيرا ، فحذف الوصف من الثاني لدلالة الأول عليه ، ومن الطريف قول الرازي : إن وصف الرجال بالكثير ، دون النساء للتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والبروز ، واللائق بحال النساء الخفاء والخمول . .

وان دل هذا التعليل على شيء فإنما يدل على أن الرازي حكم على طبيعة المرأة بما تستدعيه تقاليد المجتمع الذي تعيش فيه . . وبديهة إن هذه التقاليد تتغير وتتحول بحسب مقتضيات الزمن ، فمن الخطأ أن نأخذ منها مقياسا عاما ، وقاعدة مطردة .

ومهما يكن ، فإن المعنى واضح ، وهو إن البشر متوالد من زوجين ذكر وأنثى ، ومنهما انتشرت الملايين جيلا بعد جيل ، ويقال : إن في العالم الآن ما يزيد على ثلاثة آلاف من الملايين .

5 – {واتَّقُوا اللَّهً الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ} . هذا إشارة ما يقوله بعضنا إلى بعض : سألتك باللَّه أن تفعل كذا . أو سألتك بالرحم أن تفعل كذا .

أي سألتك بحق اللَّه العظيم عليك ، وحق الرحم العزيز عليك ، والغرض من الأمر بتقوى اللَّه والرحم أن نؤدي ما لهما علينا من حق ، فالآية أشبه بقوله تعالى :

{أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان : 14] .

والخلاصة إن اللَّه سبحانه أمرنا في هذه الآية أن نتقي غضبه وعذابه ، وان نحسن إلى الأرحام ، وان لا يعلو بعضنا على بعض ، ولا يظلم أحد أحدا ، لأن الجميع من أصل واحد ، وختم ذلك بقوله : {إِنَّ اللَّهً كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} .

وهو تهديد ووعيد لمن عصى وتمرد .

_______________

1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 242-245 .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآية (1) :

قوله تعالى : {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} إلى قوله : {وَنِساءً} يريد دعوتهم إلى تقوى ربهم في أمر أنفسهم وهم ناس متحدون في الحقيقة الإنسانية من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة والصغير والكبير والعاجز والقوي حتى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة ولا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم والأحكام والقوانين المعمولة بينهم التي ألهمهم إياها لتسهيل طريق حياتهم ، وحفظ وجودهم وبقائهم فرادى ومجتمعين.

ومن هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصة وكذا تعليق التقوى بربهم دون أن يقال : {اتَّقُوا اللهَ} ونحوه فإن الوصف الذي ذكروا به أعني قوله : {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} « إلخ » يعم جميع الناس من غير أن يختص بالمؤمنين ، وهو من أوصاف الربوبية التي تتكفل أمر التدبير والتكميل لا من شئون الألوهية.

وأما قوله تعالى : {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} « إلخ » فالنفس على ما يستفاد من اللغة عين الشيء يقال : جاءني فلان نفسه وعينه وإن كان منشأ تعين الكلمتين ـ النفس والعين ـ لهذا المعنى ( ما به الشيء شيء ) مختلفا ، ونفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان ، وهو مجموع روح الإنسان وجسمه في هذه الحياة الدنيا والروح وحدها في الحياة البرزخية على ما تحقق فيما تقدم من البحث في قوله تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ} الآية : [ البقرة : 154 ] .

وظاهر السياق أن المراد بالنفس الواحدة آدم عليه‌ السلام ، ومن زوجها زوجته ، وهما أبوا هذا النسل الموجود الذي نحن منه وإليهما ننتهي جميعا على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى : {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها} ، : [الزمر : 6] وقوله تعالى : { يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } : [ الأعراف : 27 ] ، وقوله تعالى : حكاية عن إبليس : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } : [ إسراء : 62 ].

وأما ما احتمله بعض المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها في الآية مطلق الذكور والإناث من الإنسان الزوجين اللذين عليهما مدار النسل فيئول المعنى إلى نحو قولنا : خلق كل واحد منكم من أب وأم بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ } : [ الحجرات : 13 ] ، حيث إن ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولد كل واحد منهم من زوجين من نوعه : ذكر وأنثى .

ففيه فساد ظاهر وقد فاته أن بين الآيتين أعني آية النساء وآية الحجرات فرقا بينا فإن آية الحجرات في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانية ، ونفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكون كل واحد منهم إلى أب وأم إنسانين فلا ينبغي أن يتكبر أحدهم على الآخرين ولا يتكرم إلا بالتقوى ، وأما آية النساء فهي في مقام بيان اتحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة ، وأنهم على كثرتهم رجالا ونساء إنما اشتقوا من أصل واحد وتشعبوا من منشأ واحد فصاروا كثيرا على ما هو ظاهر قوله : {وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً } ، وهذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة وزوجها مطلق الذكر والأنثى الناسلين من الإنسان على أنه لا يناسب غرض السورة أيضا كما تقدم بيانه.

وأما قوله : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } فقد قال الراغب : يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة : زوج ، ولكل قرينين فيها وفي غيرها : زوج كالخف والنعل ، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا : زوج ، إلى أن قال : وزوجه لغة رديئة ، انتهى.

وظاهر الجملة أعني قوله : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل وأن هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعا إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئية والآية في مساق قوله تعالى : { وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } : [ الروم 21 ] ، وقوله تعالى : {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} : [النحل 72] ، وقوله تعالى : { فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } : [الشورى 11] ، ونظيرها قوله : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ } : [الذاريات 49] ، فما في بعض التفاسير : أن المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقة منها وخلقها من بعضها وفاقا لما في بعض الأخبار : أن الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه مما لا دليل عليه من الآية.

وأما قوله : { وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً } ، البث هو التفريق بالإثارة ونحوها قال تعالى : { فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا } : [الواقعة 6] ، ومنه بث الغم ولذلك ربما يطلق البث ويراد به الغم لأنه مبثوث يبثه الإنسان بالطبع ، قال تعالى : { قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ } : [يوسف 86] ، أي غمي وحزني.

وظاهر الآية أن النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، ولم يقل : منهما ومن غيرهما ، ويتفرع عليه أمران :

أحدهما : أن المراد بقوله : { رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً } أفراد البشر من ذريتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنه قيل : وبثكم منهما أيها الناس .

وثانيهما : أن الازدواج في الطبقة الأولى بعد آدم وزوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنما وقع بين الإخوة والأخوات ( ازدواج البنين بالبنات ) إذ الذكور والإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ ، ولا ضير فيه فإنه حكم تشريعي راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوما ويحرمه آخر ، قال تعالى : { وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } : [الرعد 41] ، وقال : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } : ـ [يوسف 40] ، وقال : { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } : ـ [الكهف 26] ، وقال : { وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } : ـ [القصص 70].

قوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ } المراد بالتساؤل سؤال بعض الناس بعضا بالله ، يقول أحدهم لصاحبه : أسألك بالله أن تفعل كذا وكذا هو إقسام به تعالى ، والتساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظما عندهم محبوبا لديهم فإن الإنسان إنما يقسم بشيء يعظمه ويحبه.

وأما قوله : { وَالْأَرْحامَ } فظاهره أنه معطوف على لفظ الجلالة ، والمعنى : واتقوا الأرحام ، وربما قيل : إنه معطوف على محل الضمير في قوله : به وهو النصب يقال : مررت بزيد وعمرا ، وربما أيدته قراءة حمزة : والأرحام بالجر عطفا على الضمير المتصل المجرور ـ وإن ضعفه النحاة ـ فيصير المعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام يقول أحدكم لصاحبه : أسألك بالله وأسألك بالرحم ، هذا ما قيل ، لكن السياق ودأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإن قوله : ( وَالْأَرْحامَ ) إن جعل صلة مستقلة للذي ، وكان تقدير الكلام : واتقوا الله الذي تساءلون بالأرحام كان خاليا من الضمير وهو غير جائز ، وإن كان المجموع منه ومما قبله صلة واحدة للذي كان فيه تسوية بين الله عز اسمه وبين الأرحام في أمر العظمة والعزة وهي تنافي أدب القرآن.

وأما نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء الأرحام إلى صنعه وخلقه تعالى ، وقد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله : { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ } : [ البقرة : 281 ] ، وقوله : { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ } : [ آل عمران : 131 ] ، وقوله : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } : [ الأنفال : 25 ] .

وكيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق والتضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله : { يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا } إلى قوله : ( وَنِساءً ) ، فإن محصل معنى الشطر الأول : أن اتقوا الله من جهة ربوبيته لكم ، ومن جهة خلقه وجعله إياكم ـ معاشر أفراد الإنسان ـ من سنخ واحد محفوظ فيكم ومادة محفوظة متكثرة بتكثركم ، وذلك هو النوعية الجوهرية الإنسانية ، ومحصل معنى هذا الشطر : أن اتقوا الله من جهة عظمته وعزته عندكم ( وذلك من شئون الربوبية وفروعها ) واتقوا الوحدة الرحمية التي خلقها بينكم ( والرحم شعبة من شعب الوحدة والسنخية السارية بين أفراد الإنسان ).

ومن هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى وإعادته ثانيا في الجملة الثانية فإن الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الأولى مع زيادة فائدة وهي إفادة الاهتمام التام بأمر الأرحام.

والرحم في الأصل رحم المرأة وهي العضو الداخلي منها المعبأ لتربية النطفة وليدا ، ثم أستعير للقرابة بعلاقة الظرف والمظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة ، فالرحم هو القريب والأرحام الأقرباء ، وقد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم والأمة ، فإن الرحم مجتمع صغير كما أن القوم مجتمع كبير ، وقد اعتنى القرآن بأمر المجتمع وعده حقيقة ذات خواص وآثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان وعده حقيقة ذات خواص وآثار تستمد من الوجود ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ ، قَدِيراً } : [ الفرقان : 54 ] وقال تعالى : { وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا } : [ الحجرات : 13 ] ، وقال تعالى : { وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ } : [ الأحزاب : 6 ] ، وقال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ } : [ سورة محمد : 22 ] ، وقال تعالى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ } الآية : [ النساء : 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً الرقيب الحفيظ والمراقبة المحافظة ، وكأنه مأخوذ من الرقبة بعناية أنهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم ، أو أن الرقيب كان يتطلع على من كان يرقبه برفع رقبته ومد عنقه ، وليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته وسكناته لإصلاح موارد الخلل والفساد أو ضبطها ، فكأنه حفظ الشيء مع العناية به علما وشهودا ولذا يستعمل بمعنى الحراسة والانتظار والمحاذرة والرصد ، والله سبحانه رقيب لأنه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها ، قال تعالى : { وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } : [ سبأ : 21 ] ، وقال : { اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } : [ الشورى : 6 ] ، وقال : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ } : [ الفجر : 14 ] .

وفي تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانية السارية بين أفراده وحفظ آثارها اللازمة لها ، بكونه تعالى رقيبا أعظم التحذير والتخويف بالمخالفة ، وبالتدبر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرضة لأمر البغي والظلم والفساد في الأرض والطغيان وغير ذلك ، وما وقع فيها من التهديد والإنذار ، بهذا الغرض الإلهي وهو وقاية الوحدة الإنسانية من الفساد والسقوط .

_________________________

1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 115-119 .

تفسير الأمثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآية (1) :

مكافحة التّمييزات والإِستثناءات :

{يا أيّها النّاس} الخطاب في الآية الأُولى من هذه السّورة موجه إِلى كافة أفراد البشر ، لأنّ محتويات هذه السورة ـ هي في الحقيقة ـ نفس الأُمور التي يحتاج إِليها كل أفراد البشر في حياتهم .

ثمّ إِنّ الآية تدعو إِلى التقوى باعتبارها أساساً لأيّ برنامج إِصلاحي للمجتمع، فإداء الحقوق والتقسيم العادل للثروة ، وحماية الأيتام ، ورعاية الحقوق العائلية، وما شابه ذلك كلها من الأُمور التي لا تتحقق بدون التقوى ، ولهذا تفتتح هذه السورة ـ التي تحتوي على جميع هذه الأُمور ـ بالدعوة إِلى التزام التقوى : {اتّقوا ربّكم}.

وللتعريف بالله الذي يراقب كلّ أعمال الإِنسان وتصرفاته أُشير في الآية إِلى واحدة من صفاته التي تعتبر أساساً للوحدة الإِجتماعية في عالم البشر : {الذي خلقكم من نفس واحدة} .

وعلى هذا الأساس لا مبرر للتمييز العنصري ، واللغوي ، والمحلي ، والعشائري وما شابه ذلك ممّا يسبب في عالمنا الرّاهن آلافاً من المشاكل في المجتمعات. ولا مجال لهذه الأُمور وما يترتب عليها من الأمجاد الكاذبة والتفوق الموهوم في المجتمع الإِسلامي، لأنّ كافة البشر على اختلاف ألوانهم، ولغاتهم ، وأقطارهم يرجعون إِلى أب واحد وأُمّ واحدة.

وتتّضح أهمية مكافحة هذا الأمر ـ أكثر فأكثر ـ إِذا لاحظنا أنّ ذلك قد تمّ في زمن كان يعاني بقايا ورواسب نظام قبلي وعشائري ظالم، ونعني عصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذا وقد ورد نظير هذا التعبير في موارد أُخرى من القرآن الكريم أيضاً، وسنشير إِلى كل ذلك في موضعه .

والآن يجب أن نرى من هو المقصود من «نفس واحدة» ؟

هل المراد من «نفس واحدة» هو شخص معين، أو أنه واحد نوعي (أي جنس المذكر) ؟

لا شك أنّ ظاهر هذا التعبير هو الشخص المعين، والواحد الشخصي، وهو إشارة إِلى أوّل إِنسان قد سمّاه القرآن الكريم بـ «آدم» ويعتبره أبا البشر.

كما وقد عبر عن البشر ببني آدم في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

فاحتمال أن يكون المراد من نفس واحدة هو الواحد النوعي بعيد عن ظاهر الآية جدّاً.

ثمّ أنّ قوله تعالى : {وخلق منها زوجها} قد فهم منها بعض المفسرين أن «حواء» قد خلقت من جسم آدم واستشهدوا لذلك بروايات وأحاديث غير معتبرة تقول : إنّ حواء خلقت من أضلاع آدم (2) (وهو أمر قد صرّح به في سفر التكوين من التوراة أيضاً) (3) .

لكن مع ملاحظة سائر الآيات القرآنية يرتفع كلّ إِبهام حول تفسير هذه الآية، ويتضح أن المراد منها هو أن الله سبحانه خلق زوجة آدم من جنسه (أي جنس البشر) ففي الآية (21) من سورة الروم نقرأ {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إِليها} كما نقرأ : في الآية (72) من سورة النّحل {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً}.

ومن الواضح أنّ معنى قوله تعالى : {خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} هو أنهّ خلقهم من جنسكم لا أنّه خلقهن من أعضاء جسمكم.

ووفقاً لرواية منقولة عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام) كما في تفسير العياشي ـ أنه كذّب بشدّة فكرة خلق حواء من ضلع آدم ، وصرح (عليه السلام) ـ بأنه خلقت من فضل الطينة التي خلق منها آدم .

كيف كان زواج أبناء آدم ؟

قال سبحانه : {وبثّ منهما رجالا كثيراً ونساءاً} هذه العبارة يستفاد منها أنّ انتشار نسل آدم ، وتكاثره قد تمّ عن طريق آدم وحواء فقط، أي بدون أن يكون الموجود ثالث أي دخالة في ذلك.

وبعبارة أُخرى أنّ النسل البشري الموجود إِنّما ينتهي إِلى آدم وزوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أُنثى .

وهذا يستلزم أن يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم ، لأنه إِذا تمّ تكثير النسل البشري عن طريق تزوجهم بغيرهم لم يصدق ولم يصح قوله : «منهما» .

وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعددة أيضاً ، ولا داعي للتعجب والإِستغراب إِذ طبقاً للإِستدلال الذي جاء في طائفة من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) إِنّ هذا النوع من الزواج كان مباحاً حيث لم يرد بعد حكم بحرمة «تزوج الأخ بأخته».

ومن البديهي أن حرمة شيء تتوقف على تحريم الله سبحانه له ، فما الذي يمنع من أن توجب الضرورات الملحة والمصالح المعينة أن يبيح شيئاً في زمان ، ويحرمه بعد ذلك في زمن آخر .

غير أنّه قد صرّح في أحاديث أُخرى بأن أبناء آدم لم يتزوجوا بأخواتهم ، وتحمل بشدّة على من يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب .

ولو كان علينا عند تعارض الأحاديث أن نرجح ما وافق منها ظاهر القرآن لوجب أن نختار الطائفة الأُولى ، لأنها توافق ظاهر الآية الحاضرة كما عرفت قبل هذا.

ثمّ أنّ هاهنا احتمالا آخر يقول : إن أبناء آدم تزوجوا بمن تبقى من البشر الذين سبقوا آدم ونسله ، لأن آدم ـ حسب بعض الروايات ـ لم يكن أوّل إِنسان سكن الأرض .

وقد كشفت الدراسات والتحقيقات العلمية اليوم أن النوع الإِنساني كان يعيش في الأرض منذ عهد ضارب في القدم، في حين لم يمر على تاريخ ظهور «آدم» في الأرض زمن طويل، فلابدّ إذن من القبول النظرية التي تقول: بأنّه كان يعيش في الأرض قبل آدم بشر آخرون قارن غياب آخر بقاياهم ظهور آدمنا ، فما المانع من أن يكون «أبناء آدم» قد تزوجوا ببقايا النوع البشري السابق الذي كان في أواخر إنقراضه ؟

ولكن هذا الإِحتمال هو أيضاً لا يتوافق وظاهر الآية الحاضرة (وهذا البحث يحتاج إِلى توسع أكثر لا يسعه هذا المجال).

الدّعوة إِلى العناية بالرّحم :

بعد ذكر ما بين أبناء النوع الإِنساني من وشيجة القربى قال سبحانه : {واتّقوا الله الذي تساءلون (4) به والأرحام}.

إنّ أهمية التقوى ، ودورها في بناء قاعدة المجتمع الصالح سببت في أن تذكر مجدداً في نهاية الآية الحاضرة ، وأن يدعو سبحانه الناس إِلى التزام التقوى ، غاية الأمر أنّه تعالى أضاف إِليها جملة أُخرى إِذ قال : {اتّقوا الله الذي تساءلون به} أي اتقوا الله الذي هو عندكم عظيم، وتذكرون اسمه عندما تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم.

ثمّ أنّه يقول : «والأرحام» وهو عطف على «الله» ، ولهذا كانت القراءة المعروفة هي نصب «والأرحام» فيكون معناها : واتقوا الأرحام ، ولا تقطعوا صلاتكم بهم.

إِنّ ذكر هذا الموضوع هنا يدل أوّلا على الأهمية الفائقة التي يعطيها القرآن الكريم لمسألة الرحم ووشيجة القربى إِلى درجة أنّه يذكر اسم الأرحام بعد ذكر اسم الله سبحانه، وهو إِشارة ـ ثانياً ـ إِلى الأمر الذي ذكر في مطلع الآية، وهو أنكم جميعاً من أب واحد وأُمّ واحدة، وهذا يعني ـ في الحقيقة ـ أنّ جميع أبناء آدم أقرباء وأرحام ، وهذا الإِرتباط والترابط يستوجب أن يتحاب الجميع ويتوادوا دون تفريق أو تمييز بين عنصر وآخر، وقبيلة وأُخرى ، تماماً كما يتحاب أفراد القبيلة الواحدة .

ثمّ يختم الآية بقوله : {إِنّ الله كان عليكم رقبياً} .

والرقيب أصله من الترقب ، وهو الإِنتظار من مكان مرتفع ، ثمّ استعمل بمعنى الحافظ والحارس ، لأن الحراسة من لوازم الترقب والنظارة .

وإرتفاع مكان الرقيب قد يكون من الناحية الظاهرية بكون الرقيب يرقب على مكان مرتفع ، ويمارس النظارة من ذلك الموقع ، وقد يكون من الناحية المعنوية.

يقول سبحانه : {إِنّ الله كان عليكم رقيباً} أي أنّه يحصي عليكم نياتكم وأعمالكم، ويعلم بها ويراها جميعاً ، كما أنه هو الذي يحفظكم أمام الحوادث (والتعبير بـ «كان» المفيد للماضي ، إِنّما هو للتأكيد) .

______________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 10-13 .

2. من لا يحضره الفقيه ، ج3 ، ص 380 ؛ وسائل الشيعة ، ج26 ، ص 287 و 288 .

3. سفر التكوين ، باب 2 ، رقم 21 و 22 إن الله ألقى على آدم نوماً ثقيلاً ، ولمّا استولى عليه النوم أخذ بضلعه وكساه لحماً وأن الله خلق من ذلك الضلع امرأة (حوّاء) ثم أتى بها إلى آدم .

4. تساءلون : من مادة تسائل ، وتسائل بالله من قولهم أسالك بالله أن تفعل كذا . وهذا يدل على تعظيم الناس لله تعالى .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى