شواهد حيّة على فطرية الإيمان باللَّه
ربّما يقال بأنّ هذه كلّها ادّعاءات ولا سبيل لإثبات مثل هذه الفطرة في المعرفة الإلهيّة ، فمن الممكن أن أدّعي بأنّي أشعر بهذا الإحساس في قلبي أي من أعماق روحي ، ولكن كيف أقنع شخصاً يرفض هذا الكلام؟ لدينا شواهد كثيرة بإمكانها إثبات فطرية المعرفة الإلهيّة بشكل واضح جدّاً ، بنحو يفحم المنكرين ، ويمكن تلخيصها في أقسام خمسة :
أ) الحقائق التاريخية
إنّ الحقائق التاريخية التي تمّت دراستها من قِبَل أقدم المؤرّخين في العالم تدلّ على عدم وجود دين لدى الأقوام السابقة ، بل كان كلّ قوم يؤمنون بمبدأ العلم والقدرة في عالم الوجود ويعبدونه ، ولو سلّمنا بوجود حالات نادرة في هذا الأمر ، فإنّ هذه القضية لا تضرّ بالأصل العام الذي يحكم بأنّ المجتمعات البشرية كلّها كانت دائماً على طريق عبادة اللَّه (كل قاعدة كليّة لها استثناءات نادرة).
المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) يُقرّ بهذه الحقيقة بعد الإشارة إلى بعض الموارد في الإلحاد الديني ويقول : «إلى جانب هذه القضايا التي ذكرناها فإنّ الإلحاد الديني من الحالات النادرة ، وهذا الإعتقاد القديم بأنّ التديّن حالة بشرية عامّة يتطابق مع الحقيقة …».
«تعتبر هذه القضيّة من القضايا التاريخية والنفسية الأساسية لدى الفيلسوف ، فهو لا يقول بأنّ الأديان مملوءة باللغو والباطل بل يلتفت إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الدين كان مع التاريخ منذ أقدم العصور» «1».
ويقول في تعبير آخر بهذا الشأن : «أين تكمن التقوى التي لا تفارق قلب الإنسان أبداً؟» «2».
كما يقول في كتابه (دروس التاريخ) وبتعبير ساخط ومتألّم : «للدين مائة روح ، كلّما تقتله فإنّه يسترجع الحياة مرّة اخرى!» «3».
ولو كان الإيمان باللَّه والدين ناشئاً عن تقليد أو تلقين أو دعاية من قبل الآخرين لما كان عاماً وشاملًا بهذا الحجم ولما استمرّ طيلة التاريخ ، وهذا أفضل دليل على أنّه أمر فطري.
ب) الآثار التاريخية
إنَّ الآثار المتبقّية من عصور ما قبل التاريخ (أي ما قبل اختراع الخطّ وكتابة أحوال الإنسان) تدلّ على أنّ البشر ما قبل التاريخ كانوا يعتقدون بالدين ويؤمنون باللَّه والمعاد والحياة بعد الموت ، بدليل أنّهم كانوا يدفنون الأشياء التي يحبّونها معهم كي يستفيدوا منها بعد الموت! كما أنّ تحنيط أجساد الأموات حفظاً لها من الإندثار ، وبناء المقابر نظير (أهرام مصر) لتبقى أزماناً متمادية دليل على إيمان الأسلاف بالمبدأ والمعاد.
صحيح أنّ هذه الأعمال تدلّ على اقتران إيمانهم الديني بخرافات كثيرة إلّا أنّها دليل على أنّ الإيمان الديني في مراحل ما قبل التاريخ لا يمكن إنكاره.
ج) الدراسات النفسية واكتشافات علماء النفس
إنّ الأبعاد الروحية للإنسان وميوله الأساسية هي أيضاً دليل واضح على فطرية العقائد الدينية ، وهي أربعة ميولات سامية وأصيلة عبّر عنها بعض علماء النفس بأنّها الأبعاد الأربعة لروح الإنسان وتشمل : (1- حبّ العلم ، 2- حبّ الجمال ، 3- حبّ الخير ، 4- حبّ الدين) وتمثّل شاهداً حيّاً على هذا الأمر «4».
وقد اعتبرها بعض العلماء خمسة أبعاد هي : (1- مقولة البحث عن الحقيقة ، 2- مقولة الخير الأخلاقية ، 3- مقولة الجمال ، 4- مقولة الإبداع ، 5- مقولة العشق والعبادة) «5».
ويبدو أنّ مقولة الإبداع لا تنفكّ عن مقولة البحث عن الحقيقة.
على أيّة حال فإنّ حبّ العلم يوجِد في الإنسان ميلًا شديداً نحو العلم وفهم أسرار عالم الوجود ، وهذا الإحساس يشمل الامور المؤثّرة وغيرها في حياته.
ونريد أن نعلم كيف كانت الدنيا قبل مليار عام وكيف ستكون بعد مليار عام؟ دون أن تكون لهذه الامور في فهمها على الحياة الفردية والاجتماعية تأثيرات عملية ، فهذا الحسّ هو السبب في ظهور العلوم والمعارف.
إنَّ الجمال الذي يشعر به كلّ إنسان في أعماقه هو الذي يدفعه إلى الإبداع وهو المصدر الأساس لكلّ الفنون.
وإنَّ حبّ الخير هو السبب في ظهور الأخلاق والإلتزام في الإنسان تجاه المبادئ من قبيل العدل ، الحرية ، الصدق ، وأمثالها ، ومن الممكن أن لا يلتزم كثير بهذه المبادئ عمليّاً غير أنّه لا ريب في ارتياح قلوبهم لها.
البعد الرابع لروح الإنسان والمعبّر عنه أحياناً بالميل نحو الكمال المطلق أو البعد المقدّس والإلهي هو الذي يدفع الإنسان نحو الدين ، وهو يؤمن بوجود ذلك المبدئ العظيم بدون حاجة إلى دليل خاصّ ، ويمكن أن يقترن هذا الإيمان الديني بألوان من الخرافات وينتهي بعبارة الأصنام والشمس والقمر ، غير أنّ بحثنا يدور حول الأساس فيه.
د) فشل الدعاية ضدّ الدّين
نحن نعلم بأنّ دعايات شديدة لا مثيل لها من حيث السعة شُنّت ضدّ الدين في القرون الأخيرة وخاصّة في الغرب بالاستفادة من الأساليب والوسائل المختلفة.
وكانت بداياتها في مرحلة النهضة العلمية في اوربا (رنسانس) وفيها تحرّرت المحافل العلمية والسياسية من ضغوط الكنيسة وطغى التيار المعارض للدين (كان الدين المسيحي هو السائد وقتئذٍ في اوربا) إلى درجة تُطرح فيها الأفكار الملحدة في كلّ مكان واستغلَّوا مكانة الفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بشكل خاصّ لرفض الاسس الدينية كلّها حتّى فقدت الكنيسة مكانتها المرموقة ، وانعزل رجال الدين في اوربا وأصبح الإيمان بوجود اللَّه والمعجزات والمعاد والكتب السماوية في عداد الخرافات.
وغدا من المسلّمات لدى كثير منهم أنَّ البشرية مرّت بمراحل أربع هي : (مرحلة الأساطير ، مرحلة الدين ، مرحلة الفلسفة ، ومرحلة العلم) وحسب هذا التقسيم يكون الدين قد انقرض في مرحلة سابقة!
والعجيب أنّ كتب علم الإجتماع الحديثة التي تمثّل الصورة المتكاملة لعلم الإجتماع السائد آنذاك تفترض هذه القضيّة من المسلّمات ، وهي أنّ الدين يمثل عاملًا طبيعيّاً يتردّد بين الجهل والخوف والمتطلّبات الاجتماعية والامور الاقتصادية ، فهناك اختلاف بصددها!
صحيح أنّ السلطة الدينية الحاكمة (أي الكنيسة) في القرون الوسطى هي التي يجب أن تدفع الثمن بسبب استبدادها وظلمها وتعاملها السيّ مع الناس بصورة عامّة وعلماء الطبيعة بصورة خاصّة ، إضافةً إلى اهتمام الكنيسة بالشكليات والمظاهر وبالأمور التي لا تستحقّ الاهتمام ونسيان المحرومين من طبقات المجتمع ، لكن العيب في هذا الأمر هو أنّ الكلام لم يكن عن البابا والكنيسة فحسب بل عن المذاهب في العالم كلّها.
وقد دخل (الشيوعيون) كغيرهم الميدان ليقضوا على الدين بكلّ ما يمتلكون من قوّة ، وسخّروا جميع الأجهزة الإعلامية وأفكار فلاسفتهم من أجل ذلك وسَعَوْا سعيهم لإظهار الدين وكأنّه افيون الشعوب!
بيد أنّا نشهد أنّ هذه التيارات العاتية ضدّ الدين لم توفّق لاجتثاث الجذور الدينية المغروسة في القلوب والقضاء على النشاط الديني ، وها نحن اليوم نرى بامّ أعيننا انتشار الوعي الديني بشكل واسع من جديد حتّى في البلدان الشيوعية ، والأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام تحكي عن الرعب المتزايد الذي يعيشه الحكّام في هذه المناطق إزاء الميول الدينية وخاصّة الإسلامية ، كما نلاحظ في الأقطار الشيوعية- التي تبذل محاولات يائسة وفاشلة للقضاء على الدين- ظهور حركات تطالب بانتشار الدين.
هذه الحقائق تدلّ بصورة واضحة على تجذّر الدين في أعماق (الفطرة) البشرية ، وبذلك استطاع أن يواجه التيارات الإعلامية المعارضة العاتية ولولاها لانقرض تماماً.
ه) التجارب الشخصية في الأزمات
إنَّ أغلب الناس جرّبوا هذه الحقيقة في حياتهم وهي : أنّ الإنسان حينما يواجه مشكلات قاتلة ، وشدائد الحياة الصعبة ، ويُبتلى بدوّامات البلاء وحينما توصد بوجهه الأبواب ويبلغ السيل الزبى ، ففي هذه اللحظات المضطربة يورق أمل في أعماق روحه ، فيتجه إلى اللَّه سبحانه القادر على حلّ المشكلات كلّها فيتعلّق به ويستمدّ العون منه.
ولا يستثنى من ذلك حتّى الأشخاص الذين ليس لديهم ميول دينية حيث تصدر منهم ردود فعل روحية عند تعرّضهم للأمراض الخطرة والهزائم الماحقة وهذه شواهد على الحقيقة التي تتحدّث عنها الآيات القرآنية السابقة حول فطرية المعرفة الإلهيّة.
نعم ، في زوايا قلب الإنسان وأعماق روحه نداء لطيف مليء بالرحمة وقوي وبيّن يدعوه إلى الحقيقة الكبرى ، وهي (اللَّه) القادر والمتعالي والعالم ، وبحثنا يدور حول الإيمان بتلك الحقيقة لا عن تسميتها.
و) شهادة العلماء على فطرية الدين
ليست قضيّة فطرة (معرفة اللَّه) قضيّة مطروحة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية فحسب ، بل إنّ كلمات العلماء والفلاسفة من غير المسلمين والشعراء عامرة بها :
فمثلًا ، يقول اينشتاين في حديث طويل : «إنّ العقيدة والدين موجودان في الجميع دون استثناء … إنّي اسمّيه (الشعور الديني للخلق) .. في هذا الدين يشعر الإنسان الصغير بآمال وأهداف البشرية العظيمة والجلال الكامن خلف هذه القضايا والظواهر ، إنّه يرى وجوده كسجن ، وكأنّه يريد التحرّر من سجن الجسم ليدرك الوجود كلّه كحقيقة واحدة» «6».
ويقول العالم الشهير باسكال :
«للقلب أدلّة لا يدركها العقل» «7».
ويقول ويليم جيمز :
«إنّي أقرّ تماماً بأنّ القلب هو المصدر للحياة الدينية ، كما اقرّ بأنّ القواعد الفلسفية تشابه موضوعاً مترجماً كُتب نصّه بلغة اخرى» «8».
ويقول ماكس مولر :
«لقد خضع أسلافنا للَّه في عصور لم يكونوا قادرين فيها حتّى على إطلاق اسم على اللَّه» «9».
وهو القائل في موضع آخر : «خلافاً لما تقوله النظرية الشهيرة بأنّ الدين ظهر أوّلًا بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام ثمّ وصل إلى عبادة اللَّه الواحد ، فلقد أثبت علم الآثار بأنّ عبادة اللَّه الواحد كانت سائدة منذ أقدم الأيّام» «10».
ويقول المؤرّخ الشهير (بلوتارك) :
«لو لاحظتم العالم فإنّكم ستجدون أماكن كثيرة لا عمران فيها ولا علم وصناعة وسياسة ودولة ، ولكنّكم لا تجدون موضعاً ليس فيه اللَّه» «11».
ويقول صموئيل كينغ في كتاب (علم الإجتماع) : «كان لجميع المجتمعات البشرية لون من الدين وإن قام علماء الأنساب والرحالة والمبشّرون (المسيحيون) الأوائل بذكر أسماء مجموعات لا تدين بدين أو مذهب ، ولكن أقوالهم- كما عُلم فيما بعد- لم يكن لها أساس من الصحّة فأحكامهم ناشئة فقط من ظنّهم بأنّ أديان اولئك يجب أن تشابه ديننا» «12».
ونختم هذا البحث بكلام ل (ويل ديورانت) المؤرّخ المعاصر الشهير حيث قال : «إن لم نتصوّر للأديان جذوراً في عصر ما قبل التاريخ ، فإنّنا لا يمكن أن نتعرّف على حقيقتها في التاريخ» «13».
______________________________
(1) قصة الحضارة ، ويل ديورانت ، ج 1 ، ص 87.
(2) المصدر السابق ، ص 89.
(3) الفطرة للشهيد المطهّري ، ص 153.
(4) راجع مقالة (كوونتايم) في كتاب (الحسّ الديني أو البعد الرابع لروح الإنسان).
(5) الفطرة ، للشهيد المطهّري ، ص 64.
(6) العالم الذي أراه ، ص 53 (بتلخيص).
(7) مسيرة الحكمة في اوربا ، ج 2 ، ص 14.
(8) المصدر السابق ، ص 321.
(9) مقدّمة الدعاء ، ص 31.
(10) الفطرة للشهيد المطهّري ، ص 148.
(11) مقدّمة الدعاء ، ص 31.
(12) علم الإجتماع لصموئيل كينغ ، ص 191.
(13) قصّة الحضارة ، ج 1 ، ص 88.