طريق الحق والفضيلة
لا شيء أكثر من العقبات في طريق الحق والخير والفضيلة، ولا بدع فان ثمن كل شيء بحسبه، وإذا عرفنا أن ثمن الجنة عند الله سبحانه النهي عن الهوى كما جاء في الآية 40 من النازعات، عرفنا أن تنفيذ هذا النهي صعب مستصعب لأن كل شيء من هذا القبيل يكاد يتحطم على صخرة الأهواء والأغراض. أليس هوى المرء مشدوداً بمنافعه الشخصية تلقائياً وعاطفياً؟ واذن فالنهي عن هواه نهي عن هذه المنافع بالذات، ومن هنا قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو عائد من بعض غزواته: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)). وقال الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): ((الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء)).
وأقبح القبيح أن يجهل المرء بجهله، فيظن الخير شراً، والشر خيراً، وقد يسيء بهذا الجهل إلى نفسه وهو يحسب أنه يحسن اليها صنعاً!. قال رجل لأبي ذر: اطرفني بشيء من العلم. فقال له: ان قدرت أن لا تسيء إلى من تحب فافعل. فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبه؟ قال: نعم، نفسك أحب الأنفس اليك، فاذا أنت عصيت الله فقد أسأت اليها.
وقسم المؤلفون في الأخلاق، الجهد إلى روحي وبدني، وأطالوا الكلام عن الثاني بلا طائل، لأن السعي والكدح من أجل الرزق وسد الخلة، من ضرورات الحياة، ولا أحد يسأل الزارع: لماذا تزرع؟ والعامل لماذا تعمل؟ ومن توكأ على غيره لعجز فمعه عذره، على أن فئة من الفلاسفة قالواك ((من يستهلك ولا يعمل لعجزه يجب أن يترك للموت)). ومنهم أفلاطون وبيكون ونيتشه وتومار وصاحب الإنسان هذا المجهول، وهو من أقطاب القرن العشرين، وبعض الشعوب تترك العجزة في مجاهل الصحراء (مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثالث من المجلد الرابع) وشعوب أخرى في هذا العصر تذبح الهرم العاجز وتأكله.
أما الجهد البدني في عبادة الله سبحانه، فقد كان منذ زمان حيث كان لحياة الروح آثارها وثمارها، وكان الكثير من العباد يحرصون على الندب حرصهم على الواجب، وأذكر من ذلك مثالاً واحداً لأنه نزل من نفسي منزلته، قال رجل لأبي ميسرة العابد: ((يرحمك الله يا أبا ميسرة، أتجهد نفسك في العبادة، والله ذو رحمة واسعة!.. فقال له أبو ميسرة: هل رأيت مني ما يدل على القنوط من رحمة الله؟ ان رحمة الله قريب من المحسنين)) فليس لأحد أن يعتمد على رحمته الواسعة إلا أن يكون محسناً.. وهنا مكان العبرة والاعتبار لمن يرجو رحمة ربه.
هذا ما كان، أما ما هو كائن الآن فقد أنتج العدو الأجنبي لنا سلعاً تستنزف الدماء والأموال، وأفكاراً تضلل العقول وتعمي القلوب، فاستهلكنا هذه وتلك بالكامل، وانسلخنا عن كل قيمة وتراث، ولم يبق فينا من العابدين والمتهجدين إلا من يؤدون الفريضة المكتوبة وكفى.. على أنهم أقل من القليل، وان وجد في الزوايا بقايا من السلف الصالح فمن باب لكل قاعدة شواذ.
ومن هنا كان الجهد النفسي في هذا العصر أكثر إصراً وأشد عُسرا من أي وقت مضى، ولكن هذا لا يخفف المسئولية، بل يؤكد وجوب العمل للخروج من عهدتها، ولا يبرر الجريمة، بل يستوجب المزيد من النشاط ومقاومة المنكر، والمؤمن الصادق لا يتهرب من واجبه متعللا بالأعذار الزائفة، بل يصمد ويضاعف الجهود، والله يضاعف له ويزيده من فضله.. وتاريخ الإنسانية كله حرب وصراع بين عناصر الخير وعناصر الشر، وبين أنصار الحق والباطل.. حتى دنيانا هذه التي بلغت من الإغراء والمادة غايتها، فيها الكثير، ولله الحمد، من الشهداء والمعتقلين والمشردين، لا لشيء إلا لأنهم رفضوا الاستسلام للبغي، وأبوا إلا العدل والمضي على الحق.
هذا، إلى أن النفس الأمارة لا تملك قنابل وصواريخ، وما لها أي سلطان ظاهر وقاهر، وغاية جهدها أن تدعو إلى التمرد على الدين والعقل والخلق الكريم كما جاء في الآية 22 من سورة ابراهيم على لسان الشيطان: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتهم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). وكم سمعنا وقرأنا عن أفراد تحرروا بالعزم الصادق وقوة الإرادة من أعمال بغيضة وعادات قبيحة بعد أن اعتادوها عشرات السنين، وصارت لهم طبيعة ثانية وثابتة: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (3 ـ الطلاق). وفي فصل الإلزام فقرة لا أخلاق بلا حرية تكلمنا حول هذا الموضوع بما يتناسب مع الحرية، وهنا تكلمنا بما يستدعيه الحديث عن الجهد.
أخلاق العسر والشدة
يرى بعض الفلاسفة أن الجهد لا يتلاءم مع الأخلاق لأن الخلق طبع وسجية، أي ان الفعل الأخلاقي يجب أن يصدر من أعماق الإنسان بيسر وسهولة بحيث يكون امتداداً لانفعالات وجدانية، وثمرة لبواعث داخلية منزها عن كل قسر وضغط. والقائلون بهذا يسمون أخلاقية الفعل وتأدية الواجب عن جهد وكبح النفس ـ بأخلاق العسر والشدة.
وقرأت العديد من الإجابات عن هذا السؤال، وأرجحها ـ فيما أرى ـ ما أجاب به الدكتور دراز في كتابه دراسات إسلامية، قال ما معناه: ليست المسألة في أخلاقية السلوك والفعل من حيث هو ـ مسألة عقل وعاطفة، وغرائز متضاربة، وانما هي مسألة نية صافية، وإرادة جادة تتعلق بهدف واضح معين، وبالإرادة مع هدفها يقاس العمل والسلوك، ويوصف بأنه خير أو شر، فضيلة أو رذيلة.
فإنْ اختار المرء وأراد ما هو خير وصلاح يكون خلقه حميدا وكريما، وإن مال إلى ما هو شر وفساد يكون خلقه قبيحا وذميما سواء أكان هذا الميل والاختيار تلقائيا وبلا واسطة، أم بسبب التربية والبيئة، أم بجهاد النفس وترويضها.
وما أبعد ما بين هذا القول وقول آخر بأنه لا أخلاق إلا بجهد وكفاح لأن النفس التي تفعل الخير تلقائياً وبكل يسر وسهولة لا أجر لها ولا فضل.
والجواب هنا هو الجواب هناك من أن السلوك الخلقي يقاس بالإرادة مع هدفها بغض الطرف عن سببها ومصدرها… ويضاف إلى ذلك أنه لو صح هذا الزعم لكان المصنوع خيرا من المطبوع، وكان من يحيا حياة مثلى بفطرته أسوأ حالا ممن يحياها بالتمرين وعلى أيدي المربين.
وأخيراً فان الكمال المطلق لله وحده، وأشرف مخلوق لا يخلو من افتقار أو ضعف أو نقص، ولا غنى له عن الحذر والكدح والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. وأيضاً أكثر الناس شراً لا يخلو من بذرة طيبة ونفحة إنسانية يظهر أثرها ويقطف ثمرها في ساعة تمر على حين غفلة من شياطين الانس والجن. والنتيجة العائدة على هذا أو ذاك تأتي من وجه واحد وهو العمل، فانه القطب والأساس والأول والآخر مع التفاوت في الدرجات بين الفاضل والمفضول عند العليم الحكيم.
الفضيلة توحيد وانسجام
والمراد بالتوحيد هنا أن يكون الإنسان واحداً في دينه وعلمه وعمله، والمراد بالانسجام التوافق بين الشيء وحقيقته. مثلاً ـ تغريد البلبل ينسجم مع روحه وطهره، ونهيق الحمار يتفق مع خواطره شعوره.. ويُروى أن حكيما مرّ بسفيه فشتمه وأفحش، فأعرض الحكيم عنه ولم يمتعض وحين قيل له: لم لا تبالي؟. قال: لأني لا أتوقع أن أسمع من الغراب هدير الحمام.
ونقطة البداية في الفضيلة والخلق الحسن أن يعرف المرء ويميز بين الخير والشر، ويؤمن ويوقن بأن هذا يجب الكف عنه، وذاك لا يسوغ تركه واهماله بحال، فإن طاوعته النفس وانقادت له عند العمل والتنفيذ فقد تم الإنسجام واجتمع الإيمان والعلم والعمل على نهج واحد، وإن عاكست النفس الأمارة وشاكست حرصاً على مال أو جاه أو حياة إن كان الواجب بذلا وجهاداً، أو حرصاً على لذة عاجلة إن يك الواجب كفاً عن شهوة محرمة فعليه أن ينسجم مع علمه وايمانه بالوقوف إلى جانبهما ضد النفس الأمارة، ويلجمها بكل ما استطاع من شكائم حتى تستسلم للحق خاضعة صاغرة.
ومن ضعف وانقاد لشهوته فقد انفصل من عقله ووجدانه وعلمه وايمانه، وأصبح مخلوقاً مشوهاً… إن العلم ليس مجرد صورة تحتل مكاناً في الذهن والدماغ كالحبر على ورق، ولا الإيمان ألفاظاً نرددها على حبات المسابح. كلا، إن العلم والإيمان طريق وأداة إلى العمل النافع، إلى بناء حياة مثلى، وهذا العمل والبناء هو الإيمان والعلم والأخلاق.. فقد جاء في المجلد الثاني من أصول الكافي: أن رجلا سأل الإمام الصادق(عليه السلام)، هل الإيمان قولٌ وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: الإيمان كله عمل، وفي رواية ثانية: ((لا يكون الإيمان إلا بعمل))، وفي المجلد الأول من هذا الكتاب أيضا عن الإمام الصادق(عليه السلام): ((لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته معرفته على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له)). ومن المعلوم أنه لا دين بلا معرفة.
وقول الإمام: ((دلته معرفته على العمل الخ)) يومىء إلى أن العلم بلا عمل تماماً كالجهل الذي لا يكشف عن شيء لأن هذا لا يعقبه العمل، وذاك ايضاً كذلك كما هو الفرض. وتلتقي البرجماتية مع قول الإمام(عليه السلام) لأن المعرفة عندها عين العمل، ومن قال أو يقول: أنا عارف أو عالم دون أن يعمل فقد ناقض نفسه بنفسه، والفرق أن الإمام يحصر العمل بما لا ضرر فيه على أي مخلوق.