عبد الحسين الأميني .. على ضفاف الغدير
اقترن اسم العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي بموسوعته الخالدة (الغدير) فلا يُكاد يُذكر اسم الغدير إلا ويُذكر الأميني، ولا يُذكر الأميني إلا وتُذكر هذه الدراسة العلمية الشاملة لحادثة وحديث الغدير، هذا الإنتاج العلمي الهائل والعمل القيم الضخم الذي يعد بحق من الظواهر العلمية الفذة في عالم التأليف.
لقد دخل الشيخ الأميني بتأليفه هذا عالم الخلود من أوسع أبوابه لأنه أبقى بعده شعله وقّادة تنير للأجيال طريق الحق المتمثل بأهل البيت (عليهم السلام) وتحثهم على سلوكه، فأي خلود أعظم من اتصال الإنسان بحبل أمير المؤمنين (عليه السلام) والسير على منهجه القويم ؟.
إن الجهود الجبارة التي بذلها المؤلف تدل على علميته الواسعة ومداركه العلمية والأدبية الفذة، فالمادة التاريخية التي جمعها المؤلف ــ رحمه الله ــ في أسفاره كانت ضخمة ومتنوّعة، وقد بذل قصارى جهده في الحصول عليها حتى أخرج كتابه كنزاً من كنوز المكتبة الإسلامية والعربية.
البيئة والجذور
ولد الشيخ عبد الحسين بن الشيخ أحمد الاميني في مدينة تبريز عام (1320 هـ / 1902 م) ونشأ في أسرة علمية لها جذورها في تاريخ العلوم الإسلامية حيث تنتمي هذه الأسرة إلى جدها الأكبر الشيخ نجف علي الملقب بـ (أمين الشرع) الذي ولد في (سردها) من نواحي تبريز عام (1275هـ / 1885م) والذي كان من كبار العلماء والأدباء، كما عُرف بالورع والتقوى.
وقد حملت هذه الأسرة الشريفة لقبها نسبة إليه وقد تشكلت على يد (أمين الشرع) البيئة العلمية والأدبية للأسرة فكان ابنه الشيخ أحمد – والد الاميني – خلفاً لأبيه في حمل راية العلم والأدب لهذه الأسرة.
رحلة العلم
بدأ عبد الحسين الأميني دراساته الأولى على يد والده الشيخ أحمد ثم واصل دراسته في المدرسة الطالبية في تبريز والتي كانت تعد من أهم مراكز العلم والمعرفة في تلك المدينة آنذاك والتي ما زالت قائمة حتى الآن فقرأ مقدمات العلوم الدينية، ثم أنهى فيها سطوح الفقه والأصول (وهي العلوم التي تؤهل طالب العلم الديني لحضور البحث الاستدلالي الذي يقود لمرحلة الاجتهاد) وقد تتلمذ شيخنا الاميني في تلك المراحل على أيدي أساتذة الفقه والأصول من أجلّاء علماء تبريز أبرزهم:
1- أية الله السيد محمد بن عبد الكريم الموسوي الشهير ب (مولانا) وهو من مراجع الفتوى والتقليد.
2- آية الله السيد مرتضى بن أحمد بن محمد الحسيني الخسروشاهي وهو من كبار علماء تبريز.
3- أية الله الشيخ حسين بن عبد علي التوتني وهو من العلماء الأعلام في الفقه والأصول وعلم الكلام.
4- العلامة الحجة الشيخ ميرزا علي أصغر ملكي وهو من الفقهاء الكبار.
إلى النجف الأشرف
بعد أن بلغ الشيخ الأميني مرتبة سامية عند هؤلاء العلماء الإعلام وأنهى دراسة السطوع تأهل للحضور في مرحلة درس الخارج، فغادر مسقط رأسه ــ تبريز ــ قاصداً مدينة العلم النجف الأشرف مهوى أفئدة طلاب العلم من كل أنحاء بلاد المسلمين وأكبر مركز علمي في العالم الإسلامي…
رحل الشيخ الأميني إلى النجف الأشرف أسوة بطلبة العلوم الدينية بحثاً عن مناهل العلم والمعرفة وليواصل دراساته العليا (البحث الخارج) على أيدي أساتذة الفقه والأصول والحديث والعلوم الأخرى فانتظم في حلقات الدروس العلمية هناك، وحضر بحوث أكابر فقهائها فتتلمذ على يد عدد منهم وأبرزهم:
1- آية الله السيد محمد بن محمد باقر الحسيني الفيروز أبادي.
2- أية الله السيد أبو تراب بن أبي القاسم الخوانساري
3- أية الله الميرزا علي بن عبد الحسين الإيرواني
4- آية الله الميرزا أبو الحسن بن عبد الحسين المشكيني
درس الأميني في النجف إضافة إلى علوم العربية والفقه والأصول، قضية الخلافة والإمامة وما ارتبط بهما دراسة علمية وبحثها بحثاً دقيقاً وثائقياً في ضوء البحث في علمي الدراية والرواية وأدلة العقل والنقل والاستشهاد بمشاهير أصحاب الفكر والرأي وقد زادت دراسته هذه من تضلعه في آداب اللغة وعلومها وصقل شخصيته الفكرية والأدبية والعلمية.
وبعد أن استقر شيخنا الاميني في النجف فترة طويلة ينهل من حلقات الدروس ويباحث طلبة العلوم عاد إلى مسقط رأسه تبريز ليمارس الوعظ والإرشاد والتدريس وإلقاء المحاضرات في تهذيب النفوس وتوجيهها توجيهاُ إسلامياً وتغذية أبناء مدينته بأحكام الإسلام والمعارف الإسلامية على ضوء الكتاب السماوي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فكان لمجالسه ومحاضراته صدى واسعاً في تلك المدينة وأثراً طيباً في نفوس الحاضرين.
ولم تقتصر نشاطات الشيخ الأميني في تلك الفترة على إلقاء المحاضرات وعقد الدروس بل دخل ميدان التأليف فعكف على المطالعة والتحقيق والبحث والتأليف حيث أتم في تلك الفترة تفسيره سورة الفاتحة وقام بتدريس تفسيرها.
ولم تطل إقامة الأميني في تبريز فكان يتحرّق شوقاً لطلب العلم فكان مصداقاً لقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا). فطلب العلم كان يحثه للسفر من أجل المزيد من العلم والتعلم ويدفعه إلى الاستفاضة من حلقات الدروس ومزاحمة العلماء، فدفعه الشوق إلى العلم للعودة مرة أخرى إلى النجف رغم ما كان متوفراً لديه من بلده تبريز من رغد العيش ووجاهة المقام والمنزلة الرفيعة وما تمثله الرئاسة الروحية التي أصبحت له بعد وفاة والده والجاه الذي تتحلى بها سرته.
درجة الإجتهاد
ما أن حل به المقام في بلد العلم النجف الأشرف حتى انتظم مرة أخرى في حلقات الدروس العليا فأحرز درجة عالية في الفلسفة والكلام والاجتهاد في الفقه والتبحر في الأصول وألف فيهما وجمع محاضرات أساتذته في الفقه والأصول وعلق عليها وبلغ رتبة الاجتهاد في المعقول والمنقول حتى نال درجة الاجتهاد ممن كانت الزعامة الشيعية منوطة بهم حيث منح استقلال الرأي والإفتاء من لدن كل من:
1- آية الله السيد ميرزا علي ابن المجدد الشيرازي.
2- آية الله الشيخ ميرزا حسين النائيني النجفي.
3 ــ آية الله الشيخ عبد الكريم ابن المولى محمد جعفر اليزدي الحائري.
4- آية الله السيد أبو الحسن بن السيد محمد الموسوي الأصفهاني.
5- آية الله الشيخ محمد حسين بن محمد حسن الأصفهاني النجفي الشهير بالكمباني.
6- آية الله الشيخ محمد الحسين ابن الشيخ علي كاشف الغطاء.
وكما أجازه أساتذة الفقه والاجتهاد وأقروا نيله درجة الاجتهاد فقد حاز على إجازات من عدد من أعلام الرواية، فدخل في سلسلة الرواة أيضاً، ومنح من المشايخ الأجلاء وأئمة الحديث الإذن في رواية ما أثر عن المعصومين (صلوات الله عليهم) فدوّنوا إجازاتهم تلك بخطوطهم وعباراتهم المعبرة عن أهليته لحمل الحديث وروايته ومن هؤلاء المشايخ الأعلام:
1- آية الله السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني.
2- آية الله المرحوم السيد الميرزا علي الحسيني الشيرازي.
3- آية الله المرحوم الشيخ علي أصغر ملكي التبريزي.
4- اية الله المرحوم السيد آغا حسين القمي.
5- الحجة المرحوم الشيخ علي بن ابراهيم القمي.
6- الشيخ محمد علي الغروي الاوردوبادي.
7- الحجة المرحوم الشيخ محمد محسن (آغا بزرك) الطهراني
8- الحجة المرحوم الشيخ الميرزا يحيى بن أسد الله الخوئي.
العلم مقترنا بالعبادة
كان الشيخ الاميني عاكفاً على التدريس والتصنيف والتحقيق فكان يقضي أكثر ساعاته بالمطالعة والبحث في الكتب والتزود من التراث العلمي الإسلامي حتى أضحى مرجعاً يُستفسر منه عن معضلات العلوم الإسلامية وصار ملاذاً لحل الإشكالات الفكرية وصاحب رأي ونظر في التفسير والحديث والتاريخ وعلم الرجال وكذلك مأوى للمحققين والباحثين والمؤلفين.
ومما ذكر المؤلفون في صفاته إنه كان ورعاً تقياً متعبّداً على جانب كبير من الصلابة الدينية، كريم النفس، رحب الصدر، حسن الخلق، عالي الهمة، عفيف الطبع، بسيطاً في معيشته، متواضعاً في مأكله وملبسه، غير مكترث بالدنيا وما فيها، معرضاً عنها، مقبلاً على الآخرة، عاملاً لها.
كما كان شغوفاً بقراءة القرآن والدعاء وصلاة الليل، وكان يومه العادي مقسَّماً ضمن برنامج محدد يبدأ مباشرة بعد تناول طعام الفطور حيث يأوي إلى مكتبته الخاصة ويعكف على المطالعة لحين حضور تلاميذه إذ يبدأ الدرس والبحث حتى آذان الظهر فيقوم لأداء الفريضة وبعدها يتناول طعام الغداء ويأخذ ساعة من الراحة ثم يعود إلى مكتبته حتى منتصف الليل.
ومما يحكى عن ولعه بقراءة القرآن أنه كان يقرأ جزءاً كاملاً كل يوم، فإذا حل شهر رمضان المبارك عطل جُل أعماله وتفرغ للصيام والعبادة في النجف الأشرف أو في كربلاء المقدسة وعند ذلك يلزم نفسه قراءة خمسة عشر ختمة من القرآن في هذا الشهر يهدي ثواب أربعة عشر منها إلى المعصومين الأربعة عشر (صلوات الله عليهم) ويخص والديه بواحدة وكان دؤوباً على ذلك حتى السنوات الأخيرة من حياته.
كما كان ــ رحمه الله ــ كثير الزيارة للحرم العلوي الشريف يقصده في أوقات مختلفة وكثيراً ما كان يقصد زيارة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء راجلاً ومعه بعض أصدقائه حيث يقضي ثلاثة أيام أو أكثر ضمن المسافة بين كربلاء والنجف يستغرق فيها بتبليغاته وتوجيهاته وإرشاداته منهمكاً بالوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أهل القرى التي يمر بها على طول الطريق الموصل بين المدينتين.
وإلى جانب هذه السيرة العبادية الرسالية لم ينس واجباته الاجتماعية تجاه المعوزين والفقراء فكان كثير البر بهم مشاركاً لهم في أحزانهم مواسياً لهم.
مؤلفاته
بعد حياة علمية حافلة بالمآثر والمنجزات ترك الشيخ الاميني أثاراً عظيمة وتآليف قيمة ساهمت في بناء الصرح الفكري والثقافي للأمة الإسلامية وفي مجالات عديدة في التأليف والتحقيق والتعليق من هذه الآثار:
1- شهداء الفضيلة: وهو كتاب تاريخي يحوي تراجم الشهداء من علماء الإسلام ابتداء من القرن الرابع الهجري إلى العصر الحاضر وقد أحصى العلامة الأميني أكثر من مئة وثلاثين شهيداً نالوا وسام الشهادة دفاعاً عن الإسلام وذوداً عن الدين.
2- سيرتنا وسنتنا: وهي مجموعة محاضرات ألقاها العلامة الاميني في سوريا أثناء رحلته إليها عام 1384.
3- كامل الزيارات: وهو كتاب من تأليف شيخ الطائفة أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه المتوفى سنة 367 وقد حققه الشيخ الاميني.
4-تفسير فاتحة الكتاب: ويعد هذا الكتاب من بواكير تصانيف الأميني وأولى خطواته في التأليف والتحقيق.
5- أدب الزائر لمن يمم الحائر: وهي رسالة موجزة في ما يلزم أن يتحلى به زائر الإمام الحسين (عليه السلام) وأدب الدعاء في مشهده المقدس وكذلك شرح دعاء العلقمي الذي يحتوي على مضامين في آداب التوسل بالله تعالى والاستغاثة به والتوكل عليه.
وهناك كتب وتحقيقات عديدة أخرى تناولها الشيخ الاميني بحثاً وتحقيقاً وتعليقاً وإضافة منها:
1- تعاليق في أصول الفقه في كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري.
2- المقاصد العلية في المطالب السنية (تفسير لعدد من آيات الذكر الحكيم).
3- رياض الأنس (بجزأين).
4- رجال آذربيجان.
5- ثمرات الاسفار.
6- العترة الطاهرة في الكتاب العزيز.
أما أهم مؤلفاته فهو موسوعته الخالدة (الغدير) وهي أشهر من أن تعرف.
توفي الاميني ــ رحمه الله ــ عام (1390 هـ / 1970م) في طهران بعد أن لازم الفراش لمدة سنتين بسبب مرضه ثم نقل جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف وتم تشييعه هناك تشيعاً مهيباً وبعد أن طيف بالجنازة في الحرم الشريف تقدم المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي وصلى عليه ثم دفن في البقعة التي اختارها لنفسه وأمر بإنشاء بنائها قبل وفاته ببضعة شهور في جوار مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد رثاه ولده الشيخ هادي الأميني في مجلس التأبين الذي أقيم له في جامع الهندي في مساء يوم الجمعة 27جمادي الأول 1290 بقصيدة طويلة نقتطف منها هذه الأبيات:
ذكراكَ عادت فعادَ الجرحُ ملتهباً *** ومدمعُ العلمِ شجواً عادَ ما نضبا
عادت فأحرقتِ الأحـشاءَ ثانية *** تفيضُ فينا الأسى والحزنَ والنوبا
وحجَّبتْ وجهَ صـبحِ الحقِّ من حممٍ عليكَ حزناً ليقضي بعضَ ما وجبا
ففي الـجـوانـحِ نيرانٌ مؤجَّجةٌ *** ذابت فلا غروَ أن فكري ضبا وكبا
كم دمعةٍ سكبت من عينِ منصدعٍ *** يـوماً فـقـدنـا بكَ الأقلامَ والكتبا
أبا الغديرِ نصرتَ الحقِّ في قلمٍ *** أزالَ عـن وجـههِ الأوهامَ والرِّيبا
كم طافَ من مكتباتِ الكونِ في شغفٍ ** مـنقّباً يقطعُ البيداءَ والهضبا
وراح ينشرُ سفرَ المجدِ متّضحاً *** سرَّ (الولاية) أذ أعطى لها الغلبا
ففي (الغديرِ) كؤوسُ الهدي مترعة * تـروي الظماء شراباً سائغاً عذباً
كـفـى الـغـريّ بيومِ الفخرِ أنّ له *** مثل الأميني شيخاً طاولَ السحبا