عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .. أول شهيد في معارك الإسلام
ابن عم محمد (ص) وعلي (ع) .. سقى غرس الإسلام بدمه ليشرق متوهجاً بالحقيقة واليقين الصادق على صدق الدعوة المحمدية، سقط جريحاً في أول منازلة بين الإيمان والكفر في معركة بدر ثم مات في (الصفراء) من أثر جرحه شهيداً، وهو أول من سقط دمه في معارك الدفاع عن الإسلام.
هذه الشخصية العظيمة عقّها الكتاب والمؤرخون وأجحفوا بحقها، فلا تجد لها ذكراً إلّا عند هذه الواقعة في سطور قليلة رغم أنه كان من أفذاذ الرجال والعظماء, ومن السابقين الأولين إلى الإسلام, ومن كرام العرب وأجيادهم الذين يقرون الضيف, ويعيلون الأرامل واليتامى والمساكين وابن السبيل، كما كان من المؤمنين الأوائل, وتدلنا على ذلك أبيات هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب في رثائه حيث تقول:
لقد ضمنَ الصفراءُ مجـــداً وسؤدداً *** وحلماً أصيلاً وافر اللـبِّ والعقلِ
عبيدة فابكيه لأضيـــــــــــافِ غربةٍ *** وأرملةٍ تعوي لأشعـــثَ كالجذلِ
وبكّيهِ للأقوامِ في كــــل شتـــــــــوةٍ *** إذا احمرَّ آفاقُ السماءِ من المَحْلِ
وبكّيهِ للأيتـــــــــــــامِ والريحُ زفرةٌ *** وتشبيبُ قدرٍ طـالما أزبدت تَغْلي
فإن تصبحَ النيرانُ قد مات ضوؤها *** فقد كان يذكيهـنَّ بالحطبِ الجزلِ
لطارقِ ليلٍ أو لملتمسِ القـــــــــرى *** ومستنبحٍ أضحى لديهِ على رسلِ
هو من بني هاشم ذروة المجد وسنام الفخر, أمه: سخيلة بنت خزاعي بن الحويرث الثقفية, أما زوجته فهي (أم المؤمنين) زينب بن خزيمة التي تزوجها النبي (ص) بعد استشهاد عبيدة وقد استشهد وله من العمر ثلاث وستون سنة وله من الأبناء معاوية وعون ومنقذ والحارث ومحمد وإبراهيم وريطة وخديجة وسخيلة وصفية وهم من أكثر من أم.
أسلم في بداية الدعوة, وحالما تناهت إليه أخبارها, وكان ذلك قبل دخول النبي (ص) دار الأرقم، وكان أسن من النبي (ص) بعشر سنين, وأشارت المصادر إلى أنه أسلم مع أبي سلمة بن عبد الأسد, والأرقم بن أبي الأرقم, وعثمان بن مظعون في وقت واحد. وقد هاجر مع أخويه الطفيل والحصين ومسطح بن أثاثة إلى يثرب, ورغم أنه كان من سادة بني هاشم إلا أن النبي (ص) قد آخى بينه وبين بلال بن رباح الذي كان عبداً لأمية بن خلف وفي ذلك أعظم درس في إزالة الفوارق الطبقية من المجتمع وزرع المحبة في القلوب والمساواة بين الناس وأن (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) وهو ما لم تصل إليه الشعوب والأمم في قمة تحضرها.
أول لواء
كان لعبيدة الشرف في حمل أول لواء يعقده النبي (ص) للمسلمين ــ على قول ــ وذلك في السنة الأولى للهجرة الشريفة وكان تحت إمرته ستون رجلا من المهاجرين وأرسله (ص) إلى قتال المشركين فالتقى مع أبي سفيان في (ثنية المرة) عند ماء يقال لها (أحياء) بالقرب من (بطن رابغ) وكان مع أبي سفيان مائتا رجل ولكن لم يجر بينهما قتال سوى رمي النبال ورجعوا وهو أول قتال جرى بين المسلمين والكفار.
كان عبيدة ذا منزلة كبيرة عند رسول الله (ص) ويدلنا حديثه يوم الخندق على مكانته السامية عندما برز أمير المؤمنين لقتال عمرو بن عبد ود العامري فتوجه (ص) بالدعاء وقال: اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وهذا علي فلا تدعني فرداً وأنت خير الوارثين.
وقد عُد عبيدة في عداد الشهداء العظماء فعده ابن شهرآشوب في أبطال الجهاد في الإسلام مثل: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله, وجعفر بن أبي طالب الطيار
العهد العظيم
لقد وفى عبيدة ما عليه من العهد لله ولرسوله ومضى شهيداً في سبيله وهذا العهد الذي عاهد به الله ورسوله كان قد تعاهد عليه مع عبيدة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع), والحمزة بن عبد المطلب, وجعفر بن أبي طالب, وقد ذكره أمير المؤمنين (ع) في قوله: ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله، أنا، وعمي حمزة، وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة، على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله…).
ولعظمة هذا العهد يشير هشام بن الحكم ــ تلميذ الإمام الصادق ــ في مناظرته إليه ويجعل هشام عبيدة مع أفضل الشهداء في الإسلام حيث يقول: أن الشهداء أربعة نفر: علي بن أبي طالب عليه السلام، وجعفر، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب… .
وهذا القول من هشام هو عن لسان الإمام الصادق (ع)
بدر نهاية المطاف
كان عبيدة أَسن المسلمين يوم بدر، وقد خرج عتبة وشيبة والوليد للمبارزة, فخرج إليهم علي والحمزة وعبيدة فقتل علي الوليد, وقتل الحمزة عتبة, وبارز عبيدة شيبة فضرب كل منهما عدوه, فضرب شيبة ساق عتبة فقطعها فسقط جريحاً فحمله الحمزة وعلي ووضعاه أمام رسول الله, فوضع (ص) رأس عبيدة على ركبته وهو يمسح التراب عن وجهه..
لقد لبى عبيدة دعوة السماء بعد أن بذل جهده وفدى الإسلام بنفسه، فنظر إلى الرسول (ص) وهو يبتسم غير آبه بالجراح، فقد أنسته فرحة النصر والنظر إلى وجه رسول الله (ص) ألم الجرح فقال للنبي: لو كان أبو طالب حياً لعلم أنني أقررت عينه حين قال:
كذبتم وبيتِ اللهِ نُخلي محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضلِ
وننصرُه حتى نصرّعَ حوله *** ونذهلُ عن أبنائنا والحلائلِ
وحمله المسلمون بعد المعركة في طريق العودة إلى المدينة, لكنه كان قد نزف كثيراً وأعياه الجرح, فما إن غادروا بدرا ووصلوا إلى منطقة الصفراء وهي قرب آبار بدر حتى أحسّ بدنو أجله وكان رسول الله لا يفارقه فقال له: ألست شهيداً يا رسول الله ؟
فقال (ص) : بلى والله …وأنا الشاهد عليك, أنت أول شهيد من أهل بيتي، وبكى النبي (ص) عليه فقال عبيدة وقد تألم وهو يرى دموع رسول الله (ص):
ستبلغُ عنّا أهـــــــــــــل مكّة وقعة *** يهبُّ لها من كان عــن ذاكَ نائيا
بعتبة إذ ولّــــــــــــــى وشيبة بعده *** وما كان فيها بكر عـتـبة راضيا
فإن تقطّعوا رجـــــــلي فإنّي مسلمٌ *** أرجي بها عيشـــــاً مـن اللهِ دانيا
مع الحورِ أمثالَ التماثيلِ أخلصت *** مع الجنّة العــــليا لـمن كان عاليا
وبعتُ بها عيشاً تعـــــرقت صفوه *** وعالجـــــــته حتّى فـقدت الأدانيا
وأكرمني الرحمن مــن فضل منةٍ *** بثوبٍ من الإسلامِ غطّى المساويا
ثم فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها فنزل (ص) إلى قبره ودفنه بيديه الشريفتين
ما أروعها من لحظات تلك التي تحيل الإنسان فيها إلى عالم السمو والخلود، لقد تيقّن عبيدة معنى الإسلام وحقيقة النبوة فآمنت روحه الطاهرة بهما وأشرقت بنورهما حتى فاضت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في طريق العودة إلى المدينة.
عبيدة في القرآن
كان لإخلاص عبيدة للإسلام وصدق عقيدته به وإيمانه العميق الذي لا تشوبه شائبة بما أنزل الله على رسوله من الحق جزاءً خالد من الله لا يفنى ولا يمحى فقد أنزل الله فيه قرآناً يتلى آناء الليل وأطراف النهار وفي ذلك الفوز العظيم, فقد نزلت فيه وفي أصحابه الشهداء يوم بدر آية: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون).
وعن الإمام محمد الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) ) أنه (ع) قال: نزلت في حمزة, وعلي, وعبيدة
وروي عن أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) إنه كان يقسم إن هذه الآية الشريفة نزلت في الذين برزوا يوم بدر وهم: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث, وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة:
هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم من حرير
لقد تبوأ عبيدة دار جنة عدن مع الأبرار والشهداء وحسن أولئك رفيقا..