يحوي كتاب (الفكر الإسلامي على ضوء القرآن الكريم) سلسلة دروس قرآنية ألقاها السيد علي خامنئي( ده) في مسجد الإمام الحسن المجتبى (ع) في مشهد في شهر رمضان المبارك من العام 1974م.
هذه الدروس ألقيت قبل الثورة الإسلامية المباركة وكان لها الأثر الكبير في إشعال الوعي بأهمية الإسلام وقدرته على الاستجابة لمتطلبات العصر كما أنها مثلت رافدا أساسيا من روافد النهوض الإسلامي و إحياء الروح الثورية خلال تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الشعب الإيراني والأمة الإسلامية بأسرها.
إن الدين ليس مجرد حالة روحانية منفصلة عن السلوك والمعاملة والعمل وإنما هو رؤية شاملة تفصيلية تغطي كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية وتلبي كل احتياجات الإنسان الروحية والمادية.
وتتصف هذه المحاضرات القيمة وتتفرد بأنها استطاعت أن تنأى بنفسها عن الخوض فيما خاض فيه السابقون من تناول أبحاث العقيدة ـ وعلى طريقتهم ـ بشكل ذهني مجرد منفصل عن الحياة لتسلك بهذا طريقا مغايرا يجعلها أكثر التصاقا بالواقع المعيش وأكثر اقترابا من هموم الناس وتساؤلاتهم وتطلعاتهم.
وللأطروحة هذه أسلوبها الفريد وطريقتها الشيقة ونظامها المتميز والتي تعتمد فيه ـ داخل مباحثها الأربعة المتمثلة في:(الإيمان، التوحيد،النبوة، الولاية) ـ على آيات من القرآن الكريم وتتخذ منها محاور ليدور النقاش معها وحولها ولتكشف من خلال ذلك عن حركة الواقع وعن التغييرات الطارئة في مسيرة الحياة الإنسانية.
كانت تلك الآيات ومن خلال تناولها بالتفسير والوقوف عليها والنظر فيها وبضوئها الساطع تكشف عن تحولات الواقع و تبدد الظلم وتبصر الناس بما يجري من حولهم وتحثهم وتحضهم على الانخراط في مسيرة الحياة والإسهام و المشاركة في تشكيل الحاضر وصناعة المستقبل .
ومن جهة أخرى وفي سبيل تحقيق ما سبق نجحت هذه المحاضرات في الكشف عن الاختلالات التي تمس جوهر الفكر الإسلامي و ترمي إلى تحييد طاقات الإسلام والمسلمين وتعطيلها وقد سعت لتصحيح الفهم الخاطئ لأهم ركيزة من ركائز الدين الإسلامي والتي ربما تسببت في فصل الدين عن الدنيا وجعله رهين جدران المساجد وأسير الكتب دينا أخرويا وجعل المسلم مسلما سلبيا تقع عليه الأحداث والملمات دون أن يحرك لها ساكنا مسلما منعزلا منكفئا على نفسه منطويا عاجزا لا حول له ولا قوة.
لقد سعت هذه الأطروحة إلى إعادة الإسلام إلى مكانه الصحيح في قلب الحياة وفي قلب الأحداث وإلى إعادة المسلمين إلى مكانهم الحقيقي والجدير بهم في مقدمة ركب الحضارة الإنسانية هناك حيث يتقدم على الجميع بما يحمل من قيم روحية وإنسانية تميزه عن سواه وتضمن له حق الصدارة.
تستند هذه المحاضرات على القرآن الكريم وفي كل مبحث أو فصل تتخذ من آية أو مجموعة من الآيات قطبا لها يدور حوله النقاش بطريقة قادرة على الكشف عن الواقع وعن الأحداث المعاصرة وعن الأخطار المحدقة وعن المسؤوليات الملقاة على عواتق المسلمين .
لقد كانت ولازالت تحمل في طياتها وبين جنباتها مشروعا تنويريا وهما تصحيحيا فيه الخلاص للأمة الإسلامية ككل مما وقعت فيه من براثن التخلف والانحطاط والتردي في كافة مناحي الحياة .
ولسنا هنا بصدد عرض ومناقشة كل ما ورد في الكتاب لضيق المقام وسنقتصر فقط على الجلسة الأولى منه والتي تناولت الآيات القرآنية التالية بالشرح والتحليل:
(وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)
لعل أول وأهم ما تعرض له السيد القائد علي خامنئي (ده) هو الإيمان محاولا إرساء مفاهيم مغايرة لما هو مألوف ومعروف لدى علماء الإسلام والمسلمين مفاهيم استنبطها من القرآن الكريم بعد أن أمعن فيه فكره وأطال تأمله لتجعل من الإيمان دافعا لانخراط المؤمنين في واقع الحياة وليكونوا متفاعلين وفعّالين ومؤثرين في الحاضر والآتي.
إنها ترفض ذلك الإطار الذي وضع داخله المؤمن وحد فيه وحصر وترمي إلى تحريره من كل قالب شكلي ومن كل حدود تحجم منه ومن كل سقف يقف دون تحقيق تطلعاته وطموحاته.
ليس المؤمن بالمترهبن المنفصل عن واقعه المنعزل عن مجتمعه بهذا يصرح الكتاب مستدلا بقوله تعالى:
( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ابتدعوها ما كتبناهم عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)
فالله جل في علاه يذم النصارى لرهبانيتهم التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم ولم يكتبها عليهم ففروا إلى المغارات والجبال والكهوف لئلا يتلوثا بالمعاصي .
وعلى المسلمين أن يأخذوا العبرة منهم ولا يقعوا فيما وقع فيه سابقوهم من أهل الكتاب فالمسلم مسلم ومسؤول لا انفكاك بين هذين الأمرين فهما كاللازم والملزوم ولا فرار له ولا مفر فمن واجبه أن يدخل إلى منطقة الذنوب والمعاصي لإنقاذ العصاة وهو وفي ذات الوقت ملتفت لنفسه حريص عليها حذر متيقظ .
فالمسلم ليس المنعزل المترهبن المكتفي بالعبادة ولا بالمقتصر على متابعة ما يجري من حوله المكتفي بدور المتفرج بل هو المساهم في صناعة الأحداث والمحرك لما حوله ومن حوله إنه مركز الوقائع وصانع التغيرات ورائد التحولات بحق.
ويناقش هذا الكتاب فكرة أخرى في غاية الأهمية ترتبط بالإيمان ارتباطا وثيقا وتنظم المؤمنين وتجعل تحركاتهم حول قطب يوحد جهودهم وطاقاتهم ويخلق بينهم ائتلافا وانسجاما يكون مستلزما لرحمة الله ولطفه؛ فالإيمان بدون التسليم المطلق للرسول الأكرم لا قيمة له ولا فائدة منه لأنه إيمان زائف وإيمان مشتت ومفرق
إن الإيمان يكون بالطاعة التامة لنبي الله هذه الطاعة المستلزمة لرحمة الله الجالبة لها وبدون طاعة من نصبه الله نبيا لا يمكن أن تنزل الرحمة على المسلمين.
إن قضية الإيمان ـ كما يوضح الكتاب ـ هي” توجه قلبي وارتباط فكري واعتقادي ونفسي بمبدأ ما أو شخص أو قطب أو مركز لا يمكن اختصارها بأنها عبارة عن توجه واندفاع نحو شيء يحدث في القلب فالإيمان يكون صادقا عندما يكون العمل مطابقا له هناك يمكن للإنسان أن يدعي أنه مؤمن واقعي لالتزامه بلوازم الإيمان وعهوده كما يقول تعالى:
(وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين).”
ونجد ـ في هذه الأطروحة ـ تسمية جديدة ومثيرة للاهتمام تطلقها على المؤمن من خلال وصفه بالواقعي الذي يكون مستحقا لرحمة الله ولا فصل هنا ووفق المنطق القرآني بين المؤمن الملكوتي المسارع لمغفرة الله والمؤمن الواقعي الفاعل في الحياة والمؤثر في الواقع بين المؤمن العابد لله المنشغل بذكره وبين العامل في الأرض الساعي فيها فكلا الأمرين مرتبطان ببعض.
والسؤال هنا في مسيرة المؤمن لإقامة الحكومة الإلهية وتحقيق العدالة المنشودة ما الوسائل التي يتخذها لحماية نفسه والحفاظ على دينه ما الإجراءات المتخذة لضمان عدم الوقوع فريسة لمخططات ومؤامرات الأعداء وفخاخ الشياطين؟
كيف يكون المؤمن مؤثرا في الآخرين لا متأثرا بهم ؟
كيف حينما يريد أن يأخذ بيدهم إلى الحق يكون راسخا ثابتا بحيث لا يسمح لهم بجره إلى باطلهم؟
ما الفرق بين إيمان الواعي البصير والجاهل المقلد ؟
ما مخاطر التقليد الأعمى في الإيمان والتعصب فيه ؟
أسئلة كثيرة أثارها هذا الكتاب وتصدى للإجابة عنها ببراعة واقتدار منقطع النظير .
ومن صفات المؤمنين التي تناولها الكتاب صفة الإنفاق وأراد أن يصحح المفهوم الخاطئ الذي رسخ في أذهان الناس ووفقه يتصرفون .
إن ما يقوم به الكثير من المسلمين ليس إنفاقا وإنما هو صرف والفارق بين الأمرين كبير فالصرف هو هدر وليس استفادة وتوظيف لتلك الأموال فيما يريد الله وفيما يحقق مصلحة المسلمين.
إن ما يأمر به الله هو الإنفاق أي ما يسد فراغا ويقضي حاجة ملحة فهو بهذا المعنى وبه فقط يكون من علامات التقوى .
ونجد هذا الكتاب معني إلى حد كبير بالتمييز بين الإيمان الزائف والمؤمن المدعي والإيمان الحق والمؤمن الصادق.
وينبغي الإشارة إلى أن هذا الكتاب وصف المؤمن بأوصاف متعددة استلهمها من القرآن الكريم ومن المهم الوقوف عليها لأنها ترسم الملامح الحقيقية للمؤمن الحق وتحدد الدور المنوط به والمسؤوليات الملقاة عليه وهي كالتالي:
المؤمن المنتج ـ المؤمن الملتزم ـ المؤمن الواعي ـ المؤمن المطيع ـ المؤمن المسارع ـ
المؤمن المنفق ….
وفي الأخير سنقف قليلا عند تسمية الكتاب للمؤمن الحق بالإنسان الكبير الذي لا يسارع لنيل حطام الدنيا وامتيازات مادية ولا يسعى للتفوق على الآخرين وإنما همه أكبر من هذا بكثير فهو لا يقبل بالقليل الفاني والزائل وإنما يتطلع إلى الكثير الباقي والخالد.
هذا المؤمن إن كان يريد صرف همته لشيء وإن كان ثمة شيء يستحق أن يبذل من أجله جهدا فكل شيء دون السماوات والأرض قليل عليه.
إذن فليسارع لما أمره الله تعالى:
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين).