مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (100-103)

قال تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ( 100 ) وكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ ومَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 101 ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 102 ) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 100 – 103].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

حذر المؤمنين عن قبول قولهم، فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي: صدقوا الله ورسوله، وهو خطاب للأوس والخزرج، ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ. {إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} معناه: إن تطيعوا هؤلاء اليهود في قبول قولهم، وإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية {يردوكم بعد إيمانكم كافرين} أي: يرجعوكم كفارا بعد إيمانكم. ثم أكد تعالى الامر وعظم الشأن فقال: {وكيف تكفرون} أي: وعلى أي حال يقع منكم الكفر {وأنتم تتلى عليكم آيات الله} وهذا استبعاد أن يقع منهم الكفر مع معرفتهم بآيات الله، وفيهم داع يدعوهم إلى الايمان. وقيل: هو على التعجيب أي: لا ينبغي لكم أن تكفرون مع ما يقرأ عليكم في القرآن المجيد، من الآيات الدالة على وحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

{وفيكم رسوله} يعني محمدا ترون معجزاته. والكفر إن كان فظيعا في كل حال، فهو في مثل هذه الحالة أفظع. ويجوز أن يكون المراد بقوله: {وفيكم رسوله}: القوم الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم خاصة. ويجوز أن يكون المراد به جميع أمته، لان آثاره وعلاماته من القرآن وغيره فينا قائمة باقية، وذلك بمنزلة وجوده فينا حيا.

{ومن يعتصم بالله} أي: يتمسك بكتابه وآياته وبدينه. وقيل: من يمتنع بالله عمن سواه، بأن يعبده لا يشرك به شيئا. وقيل: من يمتنع عن الكفر والهلاك بالايمان بالله وبرسوله، {فقد هدي إلى صراط مستقيم} أي: إلى طريق واضح. قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله، ونبي الله. فأما نبي الله فقد مضى وأما كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.

وقيل: إنهم قد شاهدوا في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم معجزات كثيرة منها أنه كان يرى من خلقه كما يرى من قدامه. ومنها أنه كان ينام عينه، ولا ينام قلبه. ومنها أن ظله لم يقع على الأرض. ومنها أن الذباب لم يقع عليه. ومنها أن الأرض كانت تبتلع ما يخرج منه، وكان لا يرى له بول، ولا غائط. ومنها أنه كان لا يطوله أحد وإن طال. ومنها أنه كان بين كتفيه خاتم النبوة. ومنها أنه كان إذا مر بموضع يعلمه الناس لطيبه. ومنها أنه كان يسطع نور من جبهته في الليلة المظلمة. ومنها أنه قد ولد مختونا. إلى غير ذلك من الآيات.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 102 ) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

لما نهى تعالى عن قبول أقوال الكافرين، بين في هذه الآية ما يجب قبول فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} معناه: اتقوا عذاب الله أي:

احترسوا وامتنعوا بالطاعة من عذاب الله، كما يحق. فكما يجب أن يتقى، ينبغي أن يحترس منه. وذكر في قوله {حق تقاته} وجوه أحدهما: إن معناه أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وثانيها: إنه اتقاء جميع معاصيه، عن أبي علي الجبائي وثالثها: إنه المجاهدة في الله تعالى، وأن لا تأخذه فيه لومة لائم، وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن، عن مجاهد.

ثم اختلف فيه أيضا على قولين أحدهما: إنه منسوخ بقوله {فاتقوا الله ما استطعتم}، عن قتادة والربيع والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله والاخر: إنه غير منسوخ، عن ابن عباس وطاووس. وأنكر الجبائي نسخ الآية لما فيه من إباحة بعض المعاصي، قال الرماني: والذي عندي أنه إذا وجه قوله {واتقوا الله حق تقاته} على أن يقوموا له بالحق في الخوف والأمن، لم يدخل عليه ما ذكره أبو علي، لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس، كما قال {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.

وقوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} وقد ذكرنا في سورة البقرة أن معناه لا تتركوا الاسلام، وكونوا عليه، حتى إذا ورد عليكم الموت، صادفكم عليه. وإنما كان بلفظ النهي عن الموت، من حيث أن الموت لا بد منه، وإنما النهي في الحقيقة عن ترك الاسلام، لان لا يهلكوا بالانقطاع عن التمكن منه بالموت، إلا أنه وضع كلام موضوع كلام على جهة التصرف والابدال بحسن الاستعارة وزوال اللبس. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام {وأنتم مسلمون} بالتشديد، ومعناه: مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مقادون له.

{واعتصموا بحبل الله} أي: تمسكوا به. وقيل: امتنعوا به من غيره. وقيل في معنى حبل الله أقوال أحدها: إنه القرآن، عن أبي سعيد الخدري وعبد الله وقتادة والسدي، ويروى ذلك مرفوعا. وثانيها: إنه دين الله الاسلام، عن ابن عباس وأبي زيد وثالثها: ما رواه أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: نحن حبل الله الذي قال: {واعتصموا بحبل الله جميعا}. والأولى حمله على الجميع. والذي يؤيده ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” أيها الناس! إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما، لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الاخر:

كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلا الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. {ولا تفرقوا} معناه: ولا تتفرقوا عن دين الله الذي أمركم فيه بلزوم الجماعة، والائتلاف على الطاعة، واثبتوا عليه، عن ابن مسعود وقتادة. وقيل: معناه لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن وقيل: عن القرآن بترك العمل به.

{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} قيل: أراد ما كان بين الأوس والخزرج، من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة، إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد، عن ابن عباس. وقيل: هو ما كان بين مشركي العرب من الطوائل، عن الحسن. والمعنى: إحفظوا نعمة الله ومنته عليكم بالإسلام، وبالائتلاف، ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل، مع ما أعد لكم من الثواب الجزيل في الاجل، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم بجمعكم على الاسلام، ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم.

{فأصبحتم بنعمته} أي: بنعمة الله {إخوانا} متواصلين، وأحبابا متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين، وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين، لان أصل الأخ من توخيت الشيء: إذا قصدته وطلبته. {وكنتم على شفا حفرة من النار} أي: وكنتم يا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم على طرف حفرة من جهنم، لم يكن بينها وبينكم إلا ا لموت، فأنقذكم الله منها بأن أرسل إليكم رسولا، وهداكم للإيمان، ودعاكم إليه، فنجوتم بإجابته من النار. وإنما قال {فأنقذكم منها} وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها، من حيث كانوا مستحقين لدخولها. قال أبو الجوزاء: قرأ ابن عباس {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، واعرابي يسمع، فقال: والله ما أنفذهم منها، وهو يريد أن يقحمهم فيها! فقال ابن عباس:

اكتبوها من غير فقيه. {كذلك يبين الله لكم آياته} أي: مثل البيان الذي تلي عليكم، يبين الله لكم الآيات أي: الدلالات والحجج فيما أمركم به، ونهاكم عنه، {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا إلى الحق والصواب.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص353-357.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

طاعة الكافر كفر :

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ } . حذر اللَّه سبحانه في الآيتين السابقتين أهل الكتاب من معاندة الحق ، وصد المؤمنين عن سبيله ، وحذر في هذه الآية المؤمنين من الإصغاء إلى فريق من أهل الكتاب يحاول إضلال المؤمنين وفتنتهم عن دينهم .

وروي في سبب نزول هذه الآية ان بعض اليهود قصد إيقاظ الفتنة بين الأوس والخزرج ، وتفريق كلمتهم بعد أن جمعها اللَّه على الإسلام ، فأخذ يذكّرهم بما كان بينهم في الجاهلية من العداء والقتال ، بخاصة يوم بغاث ، وهو يوم اقتتل فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس ، فثارت الحمية في رؤوسهم ، وكادت الفتنة أن تقع بينهم لولا أن تداركها رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) .

والآية تنطبق على هذه الواقعة ، كما تنطبق على محاولة المبشرين المسيحيين في هذا العصر ، وعلى جميع المحاولات التي يهدف من ورائها بعض أهل الكتاب وغيرهم إلى تفتيت كلمة المسلمين ، وصرفهم عن دينهم ، والشعور بوطنيتهم وحريتهم ، ليقعوا فريسة سائغة لكل ناهب وغاصب . . وهذا ما يفعله اليوم المستعمر الغربي مع العرب والمسلمين . . ولا تقع المسؤولية عليه وحده ، بل يشاركه فيها العملاء الأدنياء الذين أطاعوه وساروا في ركابه ، وكفروا بعد ايمانهم

بدينهم وأوطانهم ، وعلى هذا فإن الآية تنطبق على هؤلاء العملاء ، كما تنطبق على دعاة الفتنة والفساد ، ورواد الكفر والضلال ، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم ، شرقيين وغربيين .

وأيضا ينطبق قوله تعالى : { إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ } ينطبق على تقليد نسائنا للغرب في التهتك والتبرج ، واستخفاف شبابنا بالدين والأخلاق ، وعلى كل عادة مضرة ومحرمة اقتبسناها من الأجانب . .

ان الآية ظاهرة في النهي عن إطاعة أهل الكفر في الكفر والارتداد عن الإسلام ، ولكن السبب الموجب عام يشمل كل تقليد ومتابعة تغضب اللَّه والرسول .

{ وكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ } . أي لا ينبغي لمسلم ان يتأثر ، ويلتفت إلى إضلال المضللين ، ويتبع الكافرين في أخلاقهم وعاداتهم ، وهو يتلو القرآن الكريم ، ويستمع إلى النبي العظيم ، يبين الحق ويزيح عنه كل شبهة ، قال نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري في تفسير غرائب القرآن : « أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر ، وأما النبي ( صلى الله عليه واله ) فإن كان قد مضى إلى رحمة اللَّه فإن نوره باق ، لأن عترته وورثته يقومون مقامه ، ولهذا قال : « اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب اللَّه وعترتي » .

{ ومَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } . الاعتصام باللَّه هو التمسك بدينه ، والدين عند اللَّه الإسلام ، وهو بالذات الصراط المستقيم ، والمقصود ان من اعتصم باللَّه حقا فلا يحيد ، ولن يحيد عن الإسلام ، مهما تكن المحاولات والإغراءات .

ولك أن تسأل : لقد جاء في الآية 56 من سورة هود : { إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } وقد فسرت الصراط المستقيم بالإسلام ، فيلزم على هذا أن يكون اللَّه على دين الإسلام ؟ .

الجواب : ان الصراط المستقيم يراد به الإسلام إذا نسب إلى العبد ، أما إذا نسب إلى اللَّه تعالى فإن المراد به العدل والحكمة ، أي انه عز وجل يدبر الأمور بعدله وحكمته ، ولا يحيد تدبيره عن هذا المنهج .

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .

كل من فعل الواجبات ، وتجنب المحرمات فقد اتقى اللَّه حق تقاته . . وعليه يكون معنى الآية مرادفا لقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهً مَا اسْتَطَعْتُمْ – 16 التغابن } ، لأن ما لا يستطاع لا يتناوله التكليف ، وكل ما لا يمكن التكليف به فهو أجنبي عن التقوى . . أما قوله تعالى : { فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فهو نهي عن ترك الإسلام ، وأمر بالثبات عليه ، حتى الموت .

{ واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا } . الحبل معروف ، ويستعمل في الواسطة التي يتوصل بها إلى المطلوب ، والمراد بالحبل هنا الإسلام ، ومعنى الآية بمجموعها ان المسلمين ما داموا أتباع دين واحد ، ورسول واحد ، وكتاب واحد ، فعليهم جميعا أن يراعوا هذه الرابطة الدينية التي هي أقوى من الرابطة النسبية ، وان يحرصوا عليها ، ويعملوا بموجبها ، ولا يتفرقوا شيعا وأحزابا .

وتسأل : أليس في هذه الدعوة إلى التكتل الديني نوع من العصبية الدينية ؟

الجواب : كلا ، ان تدعيم الرابط بين اتباع الدين الواحد ، تماما كتدعيمها بين أفراد الحزب الواحد ، أو الأسرة الواحدة . . ولا تلازم بين هذا التدعيم ، وبين التعصب ضد الآخرين . . بل على العكس بالنسبة إلى الإسلام ، حيث يدعو إلى التعاطف والتآلف بين جميع أعضاء الأسرة الانسانية بصرف النظر عن أديانهم وأفكارهم وقومياتهم . . وعليه تكون الاخوة الاسلامية قوة ودعامة للأخوة الانسانية .

وتجمل الإشارة إلى أن الجماعة الذين يجب التعاون معهم ، ويحرم الخروج عليهم هم الذين اجتمعوا وتعاونوا على ما فيه للَّه رضى ، وللناس صلاح ، أما مجرد التجمع دون أن تترتب عليه أية فائدة مرضية فليس بمطلوب إلا من حيث عدم الشقاق والنزاع . قال الإمام علي ( علبه السلام ) : « الفرقة أهل الباطل وان كثروا ، والجماعة أهل الحق وان قلوا . . وبهذا نجد تفسير الحديث الشائع : « يد اللَّه مع الجماعة » أي خصوص المجتمعين المتعاونين على الحق ، أما إذا اجتمعوا على الباطل فلا أحد معهم إلا الشيطان .

{ واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً } . يذكّر اللَّه المسلمين الأول بما كانوا عليه من الإحن والبغضاء والحروب

المتطاولة ، ومنها الحرب بين الأوس والخزرج التي امتدت 120 سنة – كما في تفسير الطبري – فألف اللَّه بين قلوبهم ببركة الإسلام ، حتى صاروا إخوانا في اللَّه متراحمين متناصحين . قال جعفر بن أبي طالب في حديثه إلى النجاشي :

« كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث اللَّه إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى اللَّه لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد اللَّه ، ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام » .

{ وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها } . شفا الشيء حرفه وحافته ، وشفى على الشيء إذا أشرف عليه ، والمعنى كنتم مشرفين على نار جهنم لكفركم فأنقذكم اللَّه منها ببركة محمد ( صلى الله عليه واله ) . . وأحسن تفسير نفسر به هذه الآية ما جاء في خطبة سيدة النساء فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه واله ) التي خطبتها بعد وفاة أبيها ( صلى الله عليه واله ) مخاطبة أبا بكر ، ومن معه :

« كنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطَّرق ، وتقتاتون القدّ ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم اللَّه تبارك وتعالى بأبي محمد ( صلى الله عليه واله ) .

___________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص119-123.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} – إلى قوله: – {وفيكم رسوله}، المراد بالفريق كما تقدم هم اليهود أو فريق منهم، وقوله تعالى: وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداء إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد عنكم، واستظهار الحق بالرجوع إليه ثم إبطال شبهة ألقتها اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

فالمراد بالكفر في قوله: {وكيف تكفرون}، الكفر بعد الإيمان، وقوله: {وأنتم تتلى عليكم}، كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله، وقوله: {ومن يعتصم بالله}، بمنزلة الكبرى الكلية لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.

و في تحقيق الماضي في قوله: {فقد هدي}، مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.

و يتبين من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 102 ) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

الآيات من تتمة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم، وأن عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلوا ولا يسقطوا في حفر المهالك، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام، ولا تغير السياق السابق أعني أن التعرض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات: {لن يضروكم إلا أذى} “الخ”.

قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}، قد مر فيما مر أن التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنبا وتحرزا من عذابه كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] ، وذلك إنما يتحقق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، والانتهاء عن نواهيه، والشكر لنعمه، والصبر عند بلائه، ويرجع الأخيران جميعا إلى الشكر بمعنى وضع الشيء موضعه وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.

لكنه إذا أخذ التقوى حق التقوى الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبودية التي لا تشوبها إنية وغفلة وهي الطاعة من غير معصية، والشكر من غير كفر، والذكر من غير نسيان، وهو الإسلام الحق أعني الدرجة العليا من درجاته، وعلى هذا يرجع معنى قوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} إلى نحو قولنا: ودوموا على هذه الحال حق التقوى حتى تموتوا.

وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، فإن هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شيء مما تستطيعونه غير أن الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم، ولا ريب أن حق التقوى بالمعنى الذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس، فإن في هذا المسير الباطني مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلا العالمون، ودقائق ولطائف لا يتنبه لها إلا المخلصون، فرب مرحلة من مراحل التقوى لا يصدق الفهم العامي بكونها مما تستطيعه النفس الإنسانية فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقة خلفوها وراء ظهورهم، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشق وأصعب.

فقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} الآية كلام يتلقاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على حسب ما يطبقه كل فهم على ما يستطيعه صاحبه ثم يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله، {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أن المراد أن يقعوا في صراط حق التقوى، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه، وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الذي لا يتمكن منه إلا الأوحديون، ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس، فيكون محصل الآيتين: {اتقوا الله حق تقاته }- {فاتقوا الله ما استطعتم }أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حق التقوى ثم يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا، وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلا أنهم في مراحل مختلفة، وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده، فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين.

و منه يظهر: أن الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون، ولا أن الآية الأولى أعني قوله:{ اتقوا الله حق تقاته} الآية، أريد بها عين ما أريد من قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} الآية، بل الآية الأولى تدعو إلى المقصد والثانية تبين كيفية السلوك.

قوله تعالى: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} الموت من الأمور التكوينية التي هي خارجة عن حومة اختيارنا، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلقان به وبأمثاله أمرا ونهيا تكوينيين كقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة: 243] ، وقوله: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82] ، إلا أنه ربما يجعل الأمر غير الاختياري مضافا إلى أمر اختياري فيتركبان بنحو وينسب المركب إلى الاختيار فيتأتى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] ، وقوله: {وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } [هود: 42] ، وقوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119] ، وغير ذلك، فإن أصل الكون لازم تكويني للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنه بارتباطه بأمر اختياري كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلا يعد أمرا اختياريا فيؤمر به وينهى عنه أمرا ونهيا مولويين.

وبالجملة النهي عن الموت إلا مع الإسلام إنما هو لمكان عده اختياريا ويرجع بالأخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الإسلام في جميع الحالات حتى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات، فيكون الميت مات في حال الإسلام.

قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، ذكر سبحانه فيما مر من قوله: {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله }الآية أن التمسك بآيات الله وبرسوله الكتاب والسنة اعتصام بالله مأمون معه المتمسك المعتصم، مضمون له الهدى، والتمسك بذيل الرسول تمسك بذيل الكتاب فإن الكتاب هو الذي يأمر بذلك في مثل قوله : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7].

وقد بدل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أن حبل الله هو الكتاب المنزل من عند الله، وهو الذي يصل ما بين العبد والرب ويربط السماء بالأرض، وإن شئت قلت: إن حبل الله هو القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد عرفت أن مآل الجميع واحد.

والقرآن وإن لم يدع إلا إلى حق التقوى والإسلام الثابت لكن غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحق التقوى والموت على الإسلام فإن الآية السابقة تتعرض لحكم الفرد، وهذه الآية تتعرض لحكم الجماعة المجتمعة والدليل عليه قوله: {جميعا} وقوله: {ولا تفرقوا} فالآيات تأمر المجتمع الإسلامي بالاعتصام بالكتاب والسنة كما تأمر الفرد بذلك.

قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} جملة { إذ كنتم}، بيان لما ذكر من النعمة، وعليه يعطف قوله: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}.

والأمر بذكر هذه النعمة مبني على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامي المعمي، وحاشا التعليم الإلهي أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثم يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.

لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبر الباحث، فالله سبحانه يعلم الناس حقيقة سعادتهم، ويعلم الوجه فيها ليتبصروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض، وأن الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنه الله رب العالمين واعتصامهم بحبله لأنه حبل الله رب العالمين كما يومىء إليه ما في آخر الآيات من قوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك}، الآيتان.

و بالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولا، ولا يطيعوا أمرا إلا عن علم بوجهه، ثم أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبين وجهه أنه هو الله الذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلا ما أراده فيهم وتصرف فيه منهم، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلغه رسوله وبين وجهه بأنه رسول لا شأن له إلا البلاغ، ثم يكلمهم بحقائق المعارف، وبيان طرق السعادة، وبين الوجه العام في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف وطرق السعادة فيتحققوا أصل التوحيد، وليتأدبوا بهذا الأدب الإلهي فيتسلطوا على سبيل التفكر الصحيح، ويعرفوا طريق التكلم الحق فيكونوا أحياء بالعلم أحرارا من التقليد، ونتيجة ذلك أنهم لو عرفوا وجه الأمر في شيء من المعارف الثابتة الدينية أو ما يلحق بها أخذوا به، ولو لم يعرفوا وقفوا عن الرد ورجعوا نيله بالبحث والتدبر من غير رد أو اعتراض بعد ثبوته.

وهذا غير أن يقال: إن الدين موضوع على أن لا يقبل شيء حتى من الله ورسوله إلا عن دليل فإن ذلك من أسفه الرأي وأردإ القول، ومرجعه إلى أن الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإن ربوبيته وملكه أصل كل دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم.

و رسالة رسوله هو الدليل على أن ما يؤديه عن الله سبحانه فافهم ذلك، أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيته فيما يتصرف فيه بربوبيته وليس إلا التناقض، والحاصل أن المسلك الإسلامي والطريق النبوي ليس إلا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلدة المتسمون بالناقدين.

و لعل الوجه في ذكر أن هذا المذكور نعمة{ نعمة الله عليكم} هو الإشارة إلى ما ذكرناه أي إن الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبة والألفة والأخوة والإشراف على حفرة النار والتخلص منها، وإنما نذكركم بهذا الدليل لا لأن علينا أن نؤيد قولنا بما لولاه لم يكن حقا فإنما قولنا حق سواء دللنا عليه أو لا، بل لأن تعلموا أن ذلك نعمة منا عليكم فتعرفوا أن في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.

وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله: {إذ كنتم أعداء}، مبتن على أصل التجربة، والثاني وهو قوله: وكنتم على شفا حفرة، على طريقة البيان العقلي كما هو ظاهر.

وفي قوله: {فأصبحتم بنعمته إخوانا} تكرار للامتنان الذي يدل عليه قوله: واذكروا نعمة الله عليكم، والمراد بالنعمة هو التأليف فالمراد بالأخوة التي توجده وتحققه هذه النعمة أيضا تألف القلوب فالأخوة هاهنا حقيقة ادعائية.

ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، من تشريع الأخوة بينهم فإن بين المؤمنين أخوة مشرعة تتعلق بها حقوق هامة.

قوله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، شفا الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به.

والمراد من النار إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان.

وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألف قلوبهم، وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات – وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة – فالمقصود أن المجتمع الذي بني على تشتت القلوب واختلاف المقاصد والأهواء، ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلة شتى تختلف باختلاف الميول الشخصية والتحكمات الفردية اللاغية التي تهديهم إلى أشد الخلاف والاختلاف – يشرفهم إلى أردإ التنازع، ويهددهم دائما بالقتال والنزال، ويعدهم الفناء والزوال، وهي النار التي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة التي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها.

فهؤلاء هم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حيوتهم قبل الإسلام إلا في حال تهددهم الحروب والمقاتلات آنا بعد آن، فلا أمن ولا راحة ولا فراغ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العام الذي يعم المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك.

ثم لما اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله، ولاحت لهم آيات السعادة، وذاقوا شيئا من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكرهم به الله من هنيء النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.

ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان، ولا التجارب كالفرض والتقدير، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} “الخ” إلى حال من قبلهم فإن مآل حالهم بمرأى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.

ثم نبههم الله على خصوصية هذا البيان فقال: {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص 316-321.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات  (1)

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ }.

أجل إن نتيجة الإنصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن العدو يسعى في المرحلة الاُولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والإقتتال، ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتّى يخرجكم عن الإسلام مرّة واحدة، ويعيدكم إلى الكفر تارة اُخرى.

من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر ـ في الآية ـ هو «الكفر الحقيقي، والإنفصال الكامل عن الإسلام» كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر ـ في حدّ ذاتها ـ شعبة من شعب الكفر، وعلامة من علائمه، وأثراً من آثاره، لأن الإيمان لا يصدر منه إلاَّ المحبة والمودة والتآلف، وأما الكفر فلا يصدر منه إلاَّ التقاتل والعداوة والتنافر.

ثمّ يتساءل ـ في عجب واستغراب ـ {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله} أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر، وترجعوا كفّاراً والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانيكم، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم، وتشع أنوار الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره ال محيية ؟

إن هذه العبارة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلاَّ الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا، ولكن العجب ممّن يلازمون الرسول ويرونه فيما بينهم، ولهم مع عالم الوحي إتصال دائم… ومع آياته صحبة دائمة، إن العجب إنما هو ـ في الحقيقة ـ من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون ؟

إنه حقّاً يدعو إلى الدهشة والإستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور، ولاشك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا الضلال ـ إن ضلوا ـ لأنهم لم يضلوا إلاَّ عن بيّنة، ولم ينحرفوا إلاَّ بعد بصيرة… ولا شكّ أن عذابهم سيكون شديداً جدّاً لذلك.

ثمّ في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين ـ إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء، وأرادوا الإهتداء إلى الصراط المستقيم ـ أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته، ويقول لهم بصراحة تامة {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}.

هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة، لأن الله سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له {قل}ولكنه عندما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الآخريين يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه (قل) وهذا يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين، وأنهم ـ دون غيرهم ـ لائقون بأن يخاطبهم الله مباشرة، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحداً.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 102 ) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.

الدعوة إلى التقوى :

في الآية الأُولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة للإتحاد والتآخي.

وفي الحقيقة أن الدعوة إلى الإتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والإعتقادية، دعوة قليلة الأثر، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة، ولهذا يركز الإهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الإختلاف، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى، ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً حَقَّ تُقاتِهِ}.

يبقى ا ن نعرف أنه قد وقع كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من قوله تعالى {حق تقاته} ولكن ممّا لا شكّ فيه أن «حق التقوى» يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كلّ إثم ومعصية، وكلّ تجاوز وعدوان، وإنحراف عن الحقّ.

ولذا نقل عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير الدرّ المنثور ، وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) كما في تفسير العيّاشي ومعاني الأخبار ـ في تفسير قوله : {حق تقاته} أنهما قالا : «أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى (ويشكر فلا يكفر)».

ومن البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهية، يرتبط بمدى قدرة الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حقّ التقوى وأسمى درجاته والآية 16 من سورة التغابن التي تقول : {فاتقوا الله ما استطعتم}فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأُخرى ممّا لا أساس له مطلقاً، ولا داعي له أبداً.

على أنه ليس من شكّ في أن الآية الثانية تعتبر تخصيصاً ـ في الحقيقة ـ لمفاد الآية الأُولى وتقييداً بالاستطاعة والقدرة، وحيث أن لفظة النسخ كانت ـ عند القدماء ـ تطلق على التخصيص، لذلك من الممكن أن يكون المراد من قول القائل بأن الآية الثانية ناسخة للأُولى هو كونها مخصصة للأُولى لا غير.

ثمّ إنه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى إنتهت الآية بما يعتبر تحذيراً ـ في حقيقته ـ للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم، تحذيراً مفاده : أن مجرد إعتناق الإسلام والإنضمام إلى هذا الدين لا يكفي، إنما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته، فلا يبدد هذا الإيمان بإشعال الفتن وإثارة نيران البغضاء أو بالإنسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء، والضغائن المندثرة فتكون عاقبته الخسران، وضياع كلّ شيء ولهذا قال سبحانه {ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون}.

الدعوة إلى الإتحاد

بعد أن أوصت الآية السابقة كلّ المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيأتها، جاءت «الآية الثانية» تدعوهم بصراحة إلى مسألة الإتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة، فقال سبحانه في هذه الآية {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

ولكن ما المقصود من «حبل الله» في هذه الآية ؟ فقد ذهب المفسّرون فيه إلى إحتمالات مختلفة، فمنهم من قال بأنه القرآن، ومنهم من قال : بأنه الإسلام، ومنهم من قال بأنهم الأئمّة المعصومون من آل الرسول وأهل بيته المطهرين.

وقد وردت كلّ هذه المعاني في روايات منقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام).

ففي تفسير «الدرّ المنثور» عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كتاب «معاني الأخبار» عن الإمام السجّاد أنهما قالا : «كتاب الله حبل ممدود من السماء».

وروى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال : «آل محمّد (عليهم السلام) هم حبل الله الذي أمرنا بالإعتصام به فقال : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا».

ولكنه ليس هناك ـ في الحقيقة ـ أي إختلاف وتضارب بين تلك الأقوال والأحاديث لأن المراد من الحبل الإلهي هو كلّ وسيلة للإرتباط بالله تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام، أم القرآن الكريم، أم النبي وأهل بيته الطاهرين.

وبعبارة اُخرى فإن كلّ ما قيل يدخل بأجمعه في مفهوم ما يحقق «الإرتباط بالله» سبحانه ـ الواسع ـ والذي يستفاد من معنى حبل الله.

التعبير بـ «حبل الله» لماذا ؟

إن النقطة الجديرة بالإهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأُمور بحبل الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلابدّ للخروج من هذا القاع، والإرتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلاَّ حبل الله المتين، وهو الإرتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي.

أعداء الأمس وإخوان اليوم : ثمّ إن القرآن بعد كلّ هذا يعطي مثالاً حيّاً من واقع الأُمة الإسلامية لأثر الإرتباط بالله وهو يذكر ـ في نفس الوقت ـ بنعمة الإتحاد والأُخوة ـ تلك النعمة الكبرى ـ ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف، ومقارنة ذلك الإختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول : {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}.

والملفت للنظر هو تكرار كلمة (نعمة) في هذه الآية مرتين وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحققّ إلاَّ في ظل التعاليم الإسلامية والإعتصام بحبل الله.

والنقطة الأُخرى الجديرة بالإهتمام أيضاً هي أن الله نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال {فألف بين قلوبكم} أي أن الله ألف بين قلوبكم، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة إجتماعية عظيمة للإسلام، لأننا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات وإختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب، وإندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية، فإن أفراداً من هذا النوع من الصعب أن يتناسوا أبسط أُمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى ؟ ومن هنا تتجلى أهمية المعجزة الإجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف، وألف بين القلوب، وأنسى الأحقاد، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة، وإيجاد أُمة واحدة متآخية من ذلك الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.

اعتراف العلماء والمؤرخين :

وقد كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين، حتّى غير المسلمين منهم، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة، وإظهارها في كتاباتهم، وها نحن نذكر نماذج من ذلك :

يقول «جان ديون پورث» العالم الإنجليزي المشهور : «لقد حول محمّد العربي البسيط، القبائل المتفرقة والجائعة، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك منظم، إمتازت، فيما بعد ـ بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة وجديدة، واستطاع في أقل من ثلاثين عاماً وبهذا الطريق أن يتغلب على الامبراطورية الرومانية، ويقضي على ملوك إيران، ويستولي على سوريا وبلاد ما بين النهرين، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطىء بحر الخزر وحتى نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى)(2).

ويقول توماس كارليل : «لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتّى صار الخمول شهرة، والغموض نباهة، والضعة رفعة، والضعف قوّة، والشرارة حريقاً، وشمل نوره الأنحاء، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلاَّ قرن بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح له قدم في الهند، وأُخرى في الأندلس، وعم نوره ونبله وهداه نصف المعمورة»(3).

ويقول الدكتور «غوستاف لوبون» : معترفاً بهذه الحقيقة : «… وإلى زمان

وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس الفاتحين، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شيء أو علامة للعلم والمعرفة، أو الدين»(4).

ويكتب «نهرو» العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلاً :

«إن قصة إنتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم اُعجوبة من أعجوبات التاريخ، ولقد كان محمّد واثقاً بنفسه ورسالته، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأُمته أسباب القوّة والعزّة والمنعة»(5).

لقد كان وضع العرب سيئاً إلى أبعد الحدود حتّى أن القرآن يصف تلك الحالة بأنهم كانوا على حافة الإنهيار والسقوط إذ يقول : {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}.

وتعني «شفا» في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك، ومن ذلك «الشفة» ، كما وتستعمل لفظة «شفا» هذه في البُرء من المرض، لأن الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.

ويريد سبحانه من قوله هذا : أنكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية، وأن سقوطكم كان محتملاً في كلّ آن ومتوقعاً في كلّ لحظة، لتصبحوا بعد السقوط رماداً، وخبراً بعد أثر، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمناً، وبدل الإنهيار إعتلاء ومجداً، وهداكم إلى حيث الأمن والأمان في رحاب الأُخوة والمحبة.

والنار في هذه الآية : هل هي نار الجحيم، أو نيران هذه الدنيا ؟ فيها خلاف بين المفسّرين، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كلّ لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.

فإن القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كلّ لحظة بالفناء والدمار والإنهيار، وما منَ به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في ظل الإسلام وبفضل تعاليمه، والذي بسببه تخلّص المسلمون أيضاً من نار جهنم، وعذابه الأليم.

ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل الله مع الإعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.

إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام، وحيث إن في ذلك مصلحتكم فإن عليكم أن تعيروا ما بيناه لكم مزيداً من الإهتمام، ومزيداً من العناية.

دور الإتحاد في بقاء الأُمم :

رغم كلّ ما قيل عن أهمية الإتحاد وآثاره العظيمة في التقدّم الإجتماعي عند الشعوب والأُمم فإن من الممكن القول والإدعاء بأن الآثار الواقعية لهذه المسألة لا تزال مجهولة، وغير معروفة كما ينبغي.

إن العالم يشهد اليوم سدوداً كثيرة وكبيرة أقيمت في مختلف المناطق، وقد أصبحت منشأ لإنتاج أضخم القوى الصناعية، فقد استطاعت هذه السدود بفضل ما أنتجت من طاقات وحفظت من مياه كانت تذهب قبل ذلك هدراً، أن تغطي مساحات كبيرة شاسعة بالري والإضاءة.

فلو أننا فكرنا قليلاً لوجدنا أن هذه القوّة العظيمة لم تنشأ إلاَّ من تجمع القوى الصغيرة، الجزئية ـ أي تجمع قطرات المطر، وحبات الغيث الحقيرة ـ ومن هنا تدرك أهمية إجتماع القوى البشرية وتلاحم الطاقات الإنسانية، وتجمعها، وما يرافقها من جهود جماعية.

ولقد عبرت النصوص والأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته الطاهرين ـ عليهم صلوات الله أجمعين ـ عن أهمية الإتحاد والإجتماع بعبارات متنوعة مختلفة.

فتارة يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وشبك بين أصابعه(6).

واُخرى يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «المؤمنون كالنفس الواحدة»(7).

وثالثة يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى»(8).

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص372-382.

2 ـ من كتاب عذر تقصير به پيشگاه محمّد وقرآن (بالفارسية) ص 77.

3 ـ الإسلام والعلم الحديث ص 33، والمخططات الإستعمارية لمكافحة الإسلام للصواف ص 38.

4 ـ حضارة العرب لغوستاف لوبون.

5 ـ لمحات من تاريخ العالم ص 23 ـ 24.

6 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي ج 2 ص 450 نقلاً عن البخاري كتاب المظالم باب 5.

7 ـ المصدر السابق.

8ـ المصدر السابق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى