كربلاء .. ثورة المبادئ والقيم الإنسانية
ممّا لا شكّ فيه أنّ الثورة الحسينية فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني العام، حيث أنّها الثورة الوحيدة التي لا زالت تلعب دوراً منذ حصولها وحتى اليوم، حيث تفاعلت معها كلّ الأجيال التي جاءت بعدها وأخذت منها كلّ معاني الجهاد والتضحية والفداء والإستشهاد، ولعلّ أصدق تعبير عن ذلك التأثير عبر العصور هو ما قاله الإمام الخميني المقدّس: (إنّ كلّ ما لدينا هو من عاشوراء).
ولكن لماذا لعبت عاشوراء الحسين (عليه السلام) كلّ هذا الدور ولا تزال حتى الآن، وللإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الرجوع إلى نفس تلك الثورة لاستنطاقها ودراسة منطلقاتها وأهدافها معاً، وفي هذا المجال يمكن أن نرى ما يلي:
أولاً: أنّ تلك الثورة كانت ثورة رسالية بكلّ ما للكلمة من معنى، فلم يكن الهدف منها هو الوصول إلى الحكم من أجل الحكم ذاته، بل من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل وتقويم مسيرة الأمة الإسلامية بعد انحرافها عن جادة الحق والصواب، ولذا كان شعار تلك الثورة: (… وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر…)، إذن فالهدف هو “الإصلاح” وهو عبارة عن الرجوع بالأمور إلى ما كانت عليه قبل الوصول إلى ما وصلت إليه في زمن “يزيد بن معاوية” الذي جعل من الحكم وسيلة للسيطرة وهدر الأموال والتضييق على العباد والاستيلاء على أموال الناس وقتلهم على الظنّ والشبهة وهتك أعراضهم من دون أيّ اعتبارٍ لأحكام الإسلام ومبادئه وقيمه الرسالية والإنسانية، وإهمال كلّ الجوانب المهمة من حياة المسلمين من الإعتناء بدينهم وتقوية أركان الدين بين المسلمين وترغيبهم بالتمسّك به، بل نرى أنّ ذلك النظام الفاسد قد أبعد الناس عن الدين الأصيل نتيجة ما أحدثه من توجّهٍ عند المسلمين نحو الدنيا وزخارفها ومتعها الدنيوية الفانية والزائلة ممّا أدّى إلى إضعاف العامل الديني عند الأكثر منهم في ذلك الزمن.
ثانياً: إنّ قيادة تلك الثورة لم تكن بالشخصية العادية التي لا وزن لها ولا قيمة عند المسلمين، وإنّما كانت قيادة إلهية ربّانية بكلّ ما للكمة من معنى، فالقائد هو الإمام الحسين (عليه السلام) الذي ورد في حقّه من النصوص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ينفي عنه كلّ صفة سلبية وتوضح صفاته الإيجابية من الإيمان والتقى والورع والخوف من الله والعمل لمصلحة الرسالة الإسلامية والأمة الإسلامية، ويكفي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه وفي أخيه: (الحسن والحسين إمامان قاما أم قعدا) أو (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أو (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، ولا شكّ أنّ مثل تلك القيادة المثالية للثورة لا تستهويها السلطة ولا تتغلّب عليها شهوة الملك ولا تجذبها المتع الدنيوية الفانية، وهي إذا ثارت وانتفضت إنّما ذلك من أجل مصلحة الدين والأمة، ولهذا عندما نقارن بين شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) كقائد وبين شخصية يزيد بن معاوية كخليفة لا نجد مجالاً للمقارنة أصلاً، لأنّ كلّ واحدٍ منهما من عالمٍ مختلف تماماً عن الآخر، فالإمام الحسين (عليه السلام) تربّى في بيت النبوة والإمامة ونهل منهما وتغذّى عليهما حتى صار إسلاماً متحرّكاً ينشر رسالة الله ودينه حيثما تواجد، بينما “يزيد” قد نشأ على الفساد وحبّ الدنيا والملك ممّا جعله متمسّكاً بالدنيا الفانية وحاضراً لأن يسفك الدماء ويهتك الأعراض ويفسد حياة الأمة من أجل ملكٍ فانٍ لن يبقى ولن يدوم، ولذا كان جواب الإمام الحسين (عليه السلام) عندما طولب بالبيعة ليزيد: (إنَّا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الوحي ومهبط الوحي والتنزيل، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق فاجر شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة، و”مثلي لا يبايع مثله”).
ولا شكّ أنّ القيادة الرسالية المنزَّهة عن الأغراض الدنيوية يكون لها الإحترام والتقدير عند الناس الذين يفهمون معنى القيادة الرسالية ويقدّرونها، لأنّ مثل هذه القيادة لا يمكن أن تتنازل عن أهدافها وأغراضها مهما كبرت المغريات من جهة، أو تصعَّبت المخاطر من الجهة الأخرى، لأنّها قيادة رسالية لا تهدف إلى تحقيق أهداف دنيوية رخيصة، وإنّما تسعى إلى تحقيق أهداف رسالية إلهية عالية المضامين والمعاني.
ومن هنا نفهم لماذا كان الهدف الأول ليزيد عند استلام الحكم أن يتخلّص من الإمام الحسين (عليه السلام) لأنّ نفس وجود الإمام (عليه السلام) ثار أو لم يَثُرْ، انتفض ضدّ الحكم المنحرف أو لم ينتفض هو النقيض للحاكم المنحرف، والكاشف عن كلّ سوءاته وعوراته ونقائصه، وهو الفاضح له على مستوى ممارساته كحاكم وكفرد في آنٍ معاً. ولهذا لم يكن من الممكن أن يتواجدا معاً، بل لا بدّ من القضاء على واحدٍ منهما، ولذا كان قول الإمام الحسين (عليه السلام) عندما استلم يزيد الخلافة: (وعلى الإسلام السلام إذا ابتُليت الأمة براعٍ كيزيد).
ثالثاً: أنصار الحسين (عليه السلام) وأنصار يزيد. ممّا ذكرناه في النقطتين الأوليتين يتبيّن معنا حتماً أنّ أنصار الحسين (عليه السلام) لم يكونوا طالبي سلطة أو مال أو جاه، وإنّما كان هدفهم هدف قائدهم وكانت منطلقاتهم للثورة هي منطلقاته، ولهذا لم يبخلوا عليه بشيء، بل نرى أنّه لمّا صارت الأمور صعبة على الإمام الحسين (عليه السلام) ليلة العاشر من المحرم ورأى قلّة الأصحاب والأتباع خاف عليهم من الموت والقتل فأحلَّهم من بيعته وأجاز لهم الهروب في جوف الليل باعتبار أنّه هو المطلوب لا هم، وإذا ظفر أتباع يزيد بالإمام الحسين (عليه السلام) فلن يلتفتوا إلى غيره، لكنّهم أبوا ذلك وآثروا أن يبقوا معه ممّا أدّى إلى استشهادهم جميعاً، بينما أتباع يزيد كانوا من أهل الدنيا الذين أصمّوا آذانهم وأعموا عيونهم وأغلقوا عقولهم فلم يستمعوا إلى نداء الرحمة والهداية الصادر عن الإمام الحسين (عليه السلام) الخائف على دينهم وآخرتهم، لكنّ نفوسهم المريضة والمنحرفة لم تكن في وارد الإستجابة لدعوات الإمام (عليه السلام) فشاركوا في قتله وهم يعلمون من هو ومن أبوه وأمه وجده وأخوه، ولم يراعوا له أيّة حرمة لأهل بيته من النساء والأطفال ممّا جعل مظلومية الحسين (عليه السلام) مظلومية لا مثيل لها في المسار الإلهي والإنساني العام وبقي الحسين (عليه السلام) رمزاً خالداً للتضحية والفداء من أجل المبادىء والقيم الإلهية والإنسانية.
من هنا نقول “إنّ الحسين لم يمت ولن يموت طالما هناك أتباع ينهجون نهج الحسين (عليه السلام)، ويلتزمون أهدافه ومبادءه ومنطلقاته، ويحاولون أن يغيّروا أوضاع شعوبهم كما سعى الإمام الحسين (عليه السلام) لذلك، ولهذا بقي الحسين (عليه السلام) هو الرمز “وبقيت جملته الخالدة” “هيهات منّا الذلّة” هي الشعار الذي رفعه ولا زال يرفعه إلى اليوم كلّ الثائرين من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل في مواجهة الكيان الغاصب لفلسطين والقدس وفي مقابلة الإستكبار العالمي وزعيمته أمريكا “الشيطان الأكبر”. والحمد لله ربّ العالمين1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.