مقالات

في الإمامة

عصمة آدم عليه السلام

الحلقة العاشرة

بقلم/ منير عوض

العصمة وطلب المغفرة:

 من الأُمور التی تمسّك بها المخالفون للعصمة فی قصه آدم (علیه السلام) ما ورد فی القرآن الکریم من قوله تعالى: ( …وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لنَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرینَ ) .

لا ریب أنّنا إذا نظرنا إلى عظمه المقام الإلهي ونظرنا إلى العمل الصادر من الأولیاء نجد أنّ مثل هذه التعابیر طبیعیة جداً ولکنّها فی نفس الوقت من المستحیل أن تکون دلیلاً على ارتکاب الذنب والمعصیة، إن الأولیاء والصالحین العظام حینما یصدر منهم ترك الأولى نجدهم یستعظمون ذلك ویلجأون إلى اللّه بالتضرع والدعاء وکأنّهم قد ارتکبوا ذنباً کبیراً.

نعم إن ترك الأولى من الإنسان العارف ـ بالنسبة إلى معرفته ـ یُعدُّ ذنباً عرفانیاً وإن لم یکن

ذنباً شرعیاً.

ومن هذا المنطلق فاللائق بشأن آدم (علیه السلام) فی مقابل کلّ هذا اللطف العظیم أن یظهر الندم والتوبة ویطلب المغفرة من اللّه سبحانه.

 

 

 

تعليق على ما سبق:

خلق الله آدم للأرض ليكون خليفة فيها عنه تشريفا من الله له فهو طارئ على الجنة ووجوده فيها وجود مؤقت.

كان لا بد إذن من نزول هذا الخليفة إلى موطن استخلافه.

 ولأن آدم خليفة الله في أرضه كان من اللازم أن يعرف من هو عدوه وعدو مستخلفه لكي يكون أهلا للدور المناط به وقادرا على القيام بالمسؤولية الملقاة على عاتقه .

جعل الله لآدم خليفة يستوجب عليه تهيئته ليكون مستعدا للقيام بهذا الدور ومخالفة آدم لربه كانت أمرا طبيعيا في تلك المرحلة التي هي مرحلة إعداد وتهيئة.

في طور التجريب والتدريب من الطبيعي جدا أن تكون هناك أخطاء وخطأ واحد من آدم في هذا الطور دليل قطعي على سبب استخلاف الله له إذ إنه وسريعا فهم ما عليه وأدرك ما ينبغي أن يقوم به كخليفة لله من التزام لأوامر الله ومن مخالفة العدو الواضح العداء والحاقد والناقم عليه إبليس لعنه الله .

ومثل هذا ما يشعر به الطالب المتفوق المتميز من أسى وحزن إذا أخطأ مرة في الصف الدراسي أثناء المشاركة ولم يكن على المستوى المطلوب منه بالنسبة إلى معلمه وتراه حزينا ينتظر منه المواساة .

لو اقترب طفل من النار قبل اكتوائه بها فليس بمخطئ الخطأ لا يكون إلا بعد التجريب.

ما كان الله لينزل آدم إلى ساحة المعركة الأرض إلا وقد أعده وجهزه بما يحتاجه لمواجهة عدوه الماكر ومن ضمن ما يحتاج إليه آدم معرفة أساليب هذا العدو وطريقة شنه الحروب عليه ووسائله للإيقاع بالخصم وقد استطاع الله وهو القادر على كل شيء أن يجمع في هذه الحادثة كل ما يحتاج إليه آدم للتصدي لهجمات إبليس وللدراية التامة بطرقه وأساليبه الخداعية ليكون بهذا قادرا على مواجهته والنجاة من مكره وكيده.

طالما حذر الله آدم من إبليس و قريب من هذا تحذيرات الأب لابنه من الاقتراب من النار مثلا ولكن هذا الطفل حتما لن يستجيب لأبيه ولن يفهم حقيقة التحذيرات والمحذر منه إلا عند اكتوائه بالنار ولم يفهم آدم حقيقة إبليس وألم الوقوع في مخالفة أمر الله إلا حين أوقعه إبليس وأزله عن الجنة.

لقد كانت الدروس النظرية من تحذيرات وتنبيهات غير كافية لآدم فاحتاج أيضا إلى دروس تطبيقية وقد ضمن الله له هذا واختصر له كل هذه الدروس في واقعة واحدة وحدث واحد كان  كفيلا بتحقيق النتيجة المرجو ليكون آدم وبعد فهمه لهذا الدرس خليفة لله في أرضة مكافأة له ورفعا لدرجته لاستيعابه الحكمة الإلهية مما حصل معه في الجنة ثم اجتباه.

درس واحد كان حاويا لكل ما يمكن أن يصدر من إبليس في سبيل إضلاله العباد وكشف عن كل وسائل إبليس في الخداع وعن طرائقه في الكيد والمكر ولنقف قليلا عندها:

1ـ دائما يظهر إبليس للآخرين أنه حريص على مصلحتهم إلى درجة أنه في القصة السابقة يقسم لآدم بهذا ولو أتيح له لما تردد  بالقسم لكل من يسعى لإضلاله من العباد.

2ـ نهى الله آدم عن الاقتراب من الشجرة بلفظ: (ولا تقربا) لا بلفظ: (ولا تأكلا) حتى ولو وسوس إليه إبليس وهو بعيد عنها سيكون ثم وقت كاف للتفكير ومراجعة الأمر وربما لمعرفة خداع إبليس له وكان من الممكن أن يتنبه آدم في هذه الحالة إلى التالي:

أ ـ كيف يغريهما بأن يصيرا ملكين وقد جعلهما الله أفضل من الملائكة بل وأمر الملائكة بالسجود لآدم بل وجعله ـ أيضا ـ معلما للملائكة .

ب ـ وأغرهما إبليس ـ أيضا ـ بالخلود ولو لم يكونا قريبين من الشجرة لكان من الممكن أن يكون رده على إبليس:

ولماذا لم تأكل أنت منها لتكون خالدا وطلبت من الله ـ في ذلة ومسكنة ـ أن يجعلك من المنظرين؟

ومما سبق يتبين لنا أن إبليس استغل قرب آدم من الشجرة وهذا ما حذره الله منه بقوله:( ولا تقربا هذه الشجرة …)

ليدرك آدم من هذا الدرس ضرورة الالتزام بأوامر الله وتنفيذها بكل دقة.

 إن الألفاظ الواردة في القرآن الكريمة من قبيل :

( عصى ) ، ( من الظالمين ) ، ( غوى ) ، ( تاب )

كلها ألفاظ ترتبط بزمان ما قبل الهبوط ومن المؤكد تبعا لهذا فإن معانيها ودلالتها ستختلف عن تلك المعاني والدلالات التي ستكون محملة بها بعد الهبوط إلى الأرض .

فمخالفة الأمر والنهي الإلهي خارج دائرة التكليف لا يستوجب العقاب ولم يبدأ التكليف إلا بعد نزول آدم كما قال تعالى:

(فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي …)

فهنا وبالهبوط وبمجيء الهدي الإلهي سيكون الأمر مختلفا عن ذي قبل.

لم يكن يترتب على عدم إطاعة آدم لربه في الشأن إلا ما ذكره له مما ينص عليه القرآن من عواقب المخالفة لتوجيه الله ونصحه له في قوله تعالى:

( إِنَّ لَکَ ألاّ تَجُوعَ فِیها وَ لاتَعْرى * وَ أَنَّك لا تَظْمَؤُاْ فِیها وَ لا تَضْحى )

ولذا وبعد هذه المخالفة وبعد تحقق ما حذر الله منه آدم لم يطلب آدم من ربه أن يعيده إلى الجنة واكتفى فقط بطلب المغفرة من الله لعلمه أن العودة إلى الجنة مستحيلة لأن الله سبق وأن أخبره بنتيجة السماع لإبليس وذكره مرارا بمدى حرص إبليس على إخراجه وزوجه من الجنة. 

إن معاني هذه الألفاظ وآدم في الجنة قطعا ليست كمعانيها بعد أن نزول آدم إلى الأرض .

وهذا أيضا ما يشهد عليه علم اللغة الحديث وتنبه إليه كذلك علماء اللغة قديما فألفاظ أي لغة كانت تختلف باختلاف الزمان و المكان .

كثير من الكلمات العربية على سبيل المثال لها معان تختلف تماما عن المعاني التي كانت لها في العصر الجاهلي بل حتى عن المعاني التي كانت لها في العصور القريبة من هذا العصر ويصل الأمر ببعض هذه الكلمات إلى أن يكون لها معنى في عصر وفي عصر آخر يكون لها معنى مضاد لذاك المعنى.

لن يكون من الإنصاف والصواب أن نحكم على تلك المفردات التي وردت في القرآن وهي تصف تلك الواقعة وتنقل لنا تفاصيل ما حصل قبل الخروج من الجنة وبعده أن نحملها نفس المعاني والدلالات التي تحملها فيما بعد الخروج.

فلفظ عصى هناك في الجنة استعماله ودلالته ليست كلفظ عصى هنا على الأرض خصوصا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن آدم كان هناك في الجنة غير مكلف بعد .

فلفظ الخطأ مثلا إذا ما أطلق على المقاتل هو في ساحة التدريب سيكون له معنى آخر غير المعنى المستقى من خطأ المقاتل إذا كان في ساحة المعركة فالخطأ الأول لا يترتب عنه ضرر وليس قاتلا فيما الخطأ الثاني سيفهم منه تضرر المقاتل وربما موته أيضا. 

واختلاف المفهوم هنا من الكلمة الواحدة وغدوه مفهومان ناشئ قطعا عن اختلاف مكان حدوث الخطأ .

وقريب من هذا حينما يطلب المعلم في قاعة الدرس من أحد الطلبة الإجابة عن سؤال ما فيخطئ هذا الطالب فالخطأ هنا من الطالب أثناء تدريب وتعليم المعلم له لا يستوجب العقاب بخصم الدرجات مثلا فيما خطأه  في وقت الامتحان يستوجب العقاب .

لم يكن ما تلقاه آدم من دروس و توجيهات إلهية بعد كافيا فقد علمه الله الأسماء كلها وعلمه أيضا بعد هذا كيف يعلم الآخرين هذه الأسماء وعرفه بأحبته من الملائكة الذين سجدوا له وكان لابد بأن تكتمل سلسلة الدروس الإلهية هذه بمعرفة العدو اللدود الحاقد الحاسد لآدم الناقم عليه الساعي للانتقام منه.

من المؤكد أن آدم وهو في الجنة قد سمع بما حصل من فعل إبليس التمردي وعصيانه لربه حينما أمره بالسجود لآدم فانتهي عن هذا مبررا فعله بأنه خير من آدم المخلوق مكن الطين فيما هو مخلوق من النار قطعا آدم عليه السلام سمع بهذه القصة وبتفضيل إبليس نفسه عليه وبخروج إبليس من ملكوت الله بسببه سمع آدم بكل هذا ولكي تكتمل صورة العدو الشديد العداء له في ذهنه وليعرفه تمام المعرفة هيأ الله له في قادم أيامه درسا سيكون هو آخر الدروس التي سيحتاج إليه خليفة الله وسيكون بعدها قادرا على الوقوف في وجه العدو المخادع الماكر.

فكان نهي الله له عن أكل الشجرة ناتج عن علم الله بما بإبليس وبأنه وبمجرد أن يعلم أن الله نهى آدم عن أكل الشجرة هذه سيسعى وبكل ما أوتي من قوة إلى جعل آدم يقع في المحظور ويخالف أمر ربه.

ما كان كل هذا إلا بتدبير من الله يريد من خلاله أن يعلم آدم بعدوه وبوسائله وبوسائل النجاة من مكره قبل أن ينزل إلى الأرض.

 وأما طلب آدم المغفرة من ربه فليس دليلا على أنه ارتكابه ذنبا مما ينفي عنه العصمة فطلب آدم الغفران ما كان إلا لإحساس آدم أنه اقترف ما لا يليق به وما لا يليق بمقامه الذي خصه الله به بعد أقربه منه وأمر الملائكة بالسجود له وعلمه وجعله معلما للملائكة وأذن له بالعيش في الجنة وأباح له كل ما فيها مع نهييه فقط عن الاقتراب من تلك الشجرة فكانت قائمة المباحات كبيرة جدا وكانت مساحة اللذات واسعة فيما بالمقابل لم يكن ثم محظور عليه إلا شجرة واحدة شجرة واحدة فقط.

واستغفار آدم هذا ليس بدعا فالأنبياء جميعا وفي مقدمتهم محمد و أوصياءه صلوات الله عليهم أجمعين أيضا يستغفرون الله كما ورد في الأحاديث الشريفة؛ فهل يعني هذا أنهم مذنبون!

 قطعا لا.

والملائكة ـ أيضا ـ يستغفرون مع أنهم ليسوا بمذنبين.

لماذا لم ينزل الله آدم إلى الأرض وقد خلقه للأرض أصلا مباشرة وأبقاه في الجنة زمنا  ؟؟

ليتعرف على موطنه الأصلي وليكون دائم الحنين إليه فتهون عليه مشاق ومصاعب الدنيا في سبيل العودة إلى ذلك النعيم الذي حرم منه بسبب سماعه لإبليس.

ليعرف عدوه الحقيقي تمام المعرفة و ليدرك أن إبليس سيبقى مستمرا في محاولاته بعدم عودة آدم وذريته إلى الجنة ليشاركوه في الشقاء الأزلي المحتّم عليه حقدا منه عليهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى