مقالات

التعلق بالدنيا وسوء العاقبة

يقول تعالى في سورة آل عمران: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّـهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾([1]).

إشارات:

‏- “قَناطير” جمع “قِنطار” وهو العقدة الکبيرة من المال، و”المُقَنطرة” اسم مفعول وهي جمع الجمع، وتعني المضعّفة، واستتباعها لکلمة قناطير هو لغرض التأکيد، کما في قولنا مثلاً: آلاف مؤلّفة.
‏«الْخَيْلِ» اسم جمع للفرس لا واحد له من لفظه کالقوم والرهط والنساء والإبل ونحوها، وتطلق علی الفرسان أيضاً، و«الْمُسَوَّمَةِ» بمعنی المعلّمة، من السيما وهي العلامة. و«الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ» هي الخيول الأصيلة التي تمتاز بجمالها أو ترويضها فتکون ذات مفاتن وعضلات خاصة.

‏- تزيين الدنيا في نظر الإنسان يحصل تارةً عبر التحليق في آفاق الخيال، وتارةً أخری بواسطة الشيطان، وثالثة، من خلال وساوس الشيطان أو المتزلّفين المحيطين بالإنسان. فعن طريق الخيال الشخصي کما في الآية: «يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»([2])، و«فَرَاَهُ حَسَنًا»([3])، وبواسطة الشيطان طبقاً لـ: «زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ»([4])، وأخيراً من خلال المتزلّفين المحيطين بالإنسان کما في: «زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ»([5]).

‏- لقد أخذت أمثلة التزيّن الدنيوي المذکورة في الآية الکريمة، بعين الاعتبار ظروف وشروط عصر النزول، لذلک يمکن أن يکون لأيّ عصر أمثلته ومصاديقه الخاصّة به في التزيّن. فالذهب والفضة کناية عن اکتناز الثروة، والخيل رمز للمرکب ووسيلة النقل.

‏- سؤال: إذا کان الله تعالی هو الذي زيّن لبني البشر حبّ المال والأولاد؛ «الْمَالُ والْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»([6])، فلماذا إذن تلبّست هذه الآية بلهجة التقريع والتوبيخ؟
‏الجواب هو: أنّ زينة الشيء تختلف عن عملية التعلّق به. ففي هذه الآية توبيخ للإفراط والوله الشديد بالأشياء والتي عبّرت عنها بجملة «حُبُّ الشَّهَوَاتِ«.

‏- و”البَنين” تشمل البنات أيضاً، کقولنا علی سبيل المثال: علی السابلة أن يمشوا علی الرصيف، وهنا کلمة السابلة تشمل النساء أيضاً.

‏- يقول الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق عليه السلام: “ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أکثر لهم من لذّة النساء، وهو قول الله عزّ وجلّ «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ» إلی آخر الآية، ثمّ قال: “وإنّ أهل الجنّة ما يتلذّذون بشيءٍ في الجنّة أشهی عندهم من النکاح لا طعام ولا شراب”([7]).

‏- وبهذا يتبيّن لنا الحکمة وراء تقدّم کلمة “النّساء” علی سائر ما ذکر في الآية.

التعاليم:
‏١ـ إنّ النزوع الطبيعي للّذائذ المادية مغروس في فطرة کل إنسان، لکنّ الخطورة تکمن في الانغماس الذي قد تجرّه هذه اللذائذ والزينة وبالتالي عدم کبح الشهوات، «زُيِّنَ لِلنَّاسِ…».
‏٢ـ زينة الدنيا تسلب لبّ الناس العاديين لا الحکماء، «زُيِّنَ لِلنَّاسِ»؛ فامرأة فرعون حکيمة التاريخ زهدت في القصور والذهب والجواهر، «نَجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ»([8]) .
‏٣ـ الإفراط في الوله بالمرأة والأولاد مدعاة لتعلّق الإنسان بحبائل الدنيا، «حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ«.
‏٤ـ حذارِ، فزينة الدنيا مقدّمة للغفلة عن الآخرة، «زُيِّنَ لِلنَّاسِ… واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ«.
‏٥ ـ أحد عوامل سوء العاقبة التعلّق الشديد بالدنيا؛ لأنّ حسن العاقبة من عند الله، «زُيِّنَ لِلنَّاسِ… واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ«.
‏٦ـ أحد الأساليب في إعداد النفس وتهذيبها هو التقليل من شأن اللذائذ الماديّة وتعظيم شأن القيم المعنوية، «ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ«.
‏٧ـ أفضل طريق لکبح الأهواء الجامحة الطاغية، مقارنتها بالألطاف الإلهية الأبدية، «واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ«.

تفسير النور، سماحة الشيخ محسن قراءتي


([1]) سورة آل عمران: 14.
([2]) سورةالكهف، الآية ١٠٤.
([3]) سورةفاطر، الآية ٨.
([4]) سورةالأنفال، الآية ٤٨.
([5]) سورة غافر، الآية ٣٧.
([6]) سورةالكهف، الآية ٤٦.
([7]) الكافي، ج ٥، ص٣٢١.
([8]) سورةالتحريم، الآية ١١

المصدر : شبكة المعارف الإسلامية .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى