مقالات

تفسير سورة الهمزة

قال تعالى : {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } [الهمزة : 1 – 9]

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) 

{ويل لكل همزة لمزة} هذا وعيد من الله سبحانه لكل مغتاب غياب مشاء بالنميمة مفرق بين الأحبة عن ابن عباس وعنه أيضا قال : الهمزة الطعان واللمزة المغتاب وقيل الهمزة المغتاب واللمزة الطعان عن سعيد بن جبير وقتادة وقيل الهمزة الذي يطعن في الوجه بالعيب واللمزة الذي يغتاب عند الغيبة عن الحسن وأبي العالية وعطاء بن أبي رباح وقيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه وبعينه عن ابن زيد {الذي جمع مالا وعدده} أي أحصاه عن الفراء وقيل عدده للدهور فيكون من العدة عن الزجاج يقال أعددت الشيء وعددته إذا أمسكته وقيل جمع مالا من غير حله ومنعه من حقه وأعده ذخرا لنوائب دهره عن الجبائي وقيل أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من ورائه ويطعن عليه في وجهه عن مقاتل وقيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان يلمز الناس ويغتابهم عن الكلبي .

 ثم ذكر سبحانه طول أمله فقال {يحسب أن ماله أخلده} أي يظن أن ماله الذي جمعه يخلده في الدنيا ويمنعه من الموت فأخلده في معنى يخلده لأن قوله {يحسب} يدل عليه وإنما قال ذلك وإن كان الموت معلوما عند جميع الناس لأنه يعمل عمل من يتمنى ذلك وقيل {أخلده} بمعنى أوجب إخلاده وهذا كما يقال هلك فلان إذا حدث به سبب الهلاك وإن لم يقع هلاكه بعد ثم قال سبحانه {كلا} أي لا يخلده ماله ولا يبقى له وقيل معناه ليس الأمر كما حسب وقيل معناه حقا {لينبذن في الحطمة} أي ليقذفن ويطرحن من وصفناه في الحطمة وهي اسم من أسماء جهنم قال مقاتل : وهي تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب .

 ثم قال سبحانه {وما أدراك ما الحطمة} تفخيما لأمرها ثم فسرها بقوله {نار الله الموقدة} أي المؤججة أضافها سبحانه إلى نفسه ليعلم أنها ليست كسائر النيران ثم وصفها بالإيقاد على الدوام {التي تطلع على الأفئدة} أي تشرف على القلوب فيبلغها ألمها وحريقها وقيل معناه أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر بخلاف نيران الدنيا {إنها عليهم مؤصدة} يعني أنها على أهلها مطبقة يطبق أبوابها عليهم تأكيدا للإياس عن الخروج {في عمد ممددة} وهي جمع عمود وقال أبو عبيدة : كلاهما جمع عماد قال وهي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار وقال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع إليهم غمها وحرها فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح وقال الحسن : يعني عمد السرادق في قوله وأحاط بهم سرادقها فإذا مدت تلك العمد أطبقت جهنم على أهلها نعوذ بالله منها وقال الكلبي : في عمد مثل السواري ممددة مطولة تمد عليهم وقال ابن عباس : هم في عمد أي في أغلال في أعناقهم يعذبون بها .

 وروى العياشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال أن الكفار والمشركين يعيرون أهل التوحيد في النار ويقولون ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا وما نحن وأنتم إلا سواء قال فيأنف لهم الرب تعالى فيقول للملائكة اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للنبيين اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للمؤمنين اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ويقول الله أنا أرحم الراحمين أخرجوا برحمتي كما يخرج الفراش قال ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) ثم مدت العمد وأوصدت عليهم وكان والله الخلود .

_________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص439-440 .

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) 

{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} . الويل الخزي والهوان . ويقال : رجل همزة لمزة أي عيّاب مغتاب ، وقيل : الهمز يكون بالعين والشدق واليد ، واللمز باللسان .

وسواء أكان الوصفان بمعنى أم بمعنيين فان القاسم المشترك بينهما إيذاء الناس والطعن في أعراضهم بالقول أو بالفعل . . وهذا دأب الوضيع اللئيم الذي يحقد على كل نبيل لا لشيء إلا لشعوره النقص من نفسه ، فيحاول تغطيته بالنيل من كرامة الآخرين . قال الإمام علي : أسوأ الناس من لم يثق بأحد لسوء ظنه ، ولا يثق به أحد لسوء فعله . {الَّذِي جَمَعَ مالًا وعَدَّدَهُ} . يجمع المال من حل وحرام ، ويحسبه ويعده آنا بعد آن شغفا به ، وهو الذي حمله ودفعه إلى غمز الناس ولمزهم ذاهلا انه عما قليل يفارقه وتبقى عليه تبعته وحسابه .

{يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ} . أيظن ان هذا المال الذي جمعه وعدّده يدفع عنه الموت إذا نزل بساحته ، أو ينجيه من حساب اللَّه وعذابه {كَلَّا} ان المال لا يدفع حتفه ، ولا يشفع به عند اللَّه {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} . وهي جهنم تحطم وتدمر الطغاة المتغطرسين ، والنبذ يشعر بالازدراء والاحتقار {وما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ} انها فوق التصور {نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} هي نار اللَّه لا نار الناس ، ونار الغضب لا نار الحطب {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} . المراد بتطلع هنا العلو والطلوع ، يقال :

طلع الجبل وأطلع عليه إذا علاه . وقيل : المراد العلم والمعرفة . . وهذا بعيد عن الفهم العام ، والأفئدة كناية عن ان النار تعلو وتحرق كل عضو من أعضاء المجرمين ، وخص سبحانه الأفئدة بالذكر لأنها موطن الكفر واللؤم {إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} مطبقة لا مفر لهم منها إلا إليها {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} هذا كناية عن شدة الاطباق والأحكام . وتقدم مثله في الآية 20 من سورة البلد .

_________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص608 .

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) 

وعيد شديد للمغرمين بجمع المال المستعلين به على الناس المستكبرين عليهم فيزرون بهم ويعيبونهم بما ليس بعيب ، والسورة مكية .

قوله تعالى : {ويل لكل همزة لمزة} قال في المجمع ، : الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حق العائب له بما ليس بعيب ، وأصل الهمز الكسر .

قال : واللمز العيب أيضا والهمزة واللمزة بمعنى ، وقد قيل : بينهما فرق فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب ، واللمزة الذي يعيبك في وجهك .

عن الليث .

وقيل : الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه ، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه ويشير برأسه ويومىء بعينه .

قال : وفعله بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل ويصير عادة له تقول : رجل نكحة كثير النكاح وضحكة كثير الضحك وكذا همزة ولمزة انتهى .

فالمعنى ويل لكل عياب مغتاب ، وفسر بمعان أخر على حسب اختلافهم في تفسير الهمزة واللمزة .

قوله تعالى : {الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده} بيان لهمزة لمزة وتنكير {مالا} للتحقير فإن المال وإن كثر ما كثر لا يغني عن صاحبه شيئا غير أن له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعية من أكلة تشبعه وشربة ماء ترويه ونحو ذلك و{عدده} من العد بمعنى الإحصاء أي أنه لحبه المال وشغفه بجمعه يجمع المال ويعده عدا بعد عد التذاذا بتكثره .

وقيل : المعنى جعله عدة وذخرا لنوائب الدهر .

وقوله : {يحسب أن ماله أخلده} أي يخلده في الدنيا ويدفع عنه الموت والفناء فالماضي أريد به المستقبل بقرينة قوله : {يحسب} .

فهذا الإنسان لإخلاده إلى الأرض وانغماره في طول الأمل لا يقنع من المال بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة وضروريات أيامه المعدودة بل كلما زاد مالا زاد حرصا إلى ما لا نهاية له فظاهر حاله أنه يرى أن المال يخلده ، ولحبه الغريزي للبقاء يهتم بجمعه وتعديده ، ودغاه ما جمعه وعدده من المال وما شاهده من الاستغناء إلى الطغيان والاستعلاء على غيره من الناس كما قال تعالى : {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى{ : العلق 7 ، ويورثه هذا الاستكبار والتعدي الهمز واللمز .

ومن هنا يظهر أن قوله : {يحسب أن ماله أخلده} بمنزلة التعليل لقوله : {الذي جمع مالا وعدده} ، وقوله : {الذي جمع} إلخ بمنزلة التعليل لقوله : {ويل لكل همزة لمزة{ .

قوله تعالى : {كلا لينبذن في الحطمة} ردع عن حسبانه الخلود بالمال ، واللام في {لينبذن} للقسم ، والنبذ القذف والطرح ، والحطمة مبالغة من الحطم وهو الكسر وجاء بمعنى الأكل ، وهي من أسماء جهنم على ما يفسرها قوله الآتي : {نار الله الموقدة} .

والمعنى ليس مخلدا بالمال كما يحسب أقسم ليموتن ويقذفن في الحطمة .

قوله تعالى : {وما أدراك ما الحطمة} تفخيم وتهويل .

قوله تعالى : {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة} إيقاد النار إشعالها والاطلاع والطلوع على الشيء الإشراف والظهور ، والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب ، والمراد به في القرآن مبدأ الشعور والفكر من الإنسان وهو النفس الإنسانية .

وكان المراد من اطلاعها على الأفئدة أنها تحرق باطن الإنسان كما تحرق ظاهره بخلاف النار الدنيوية التي إنما تحرق الظاهر فقط قال تعالى : {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة : 24] .

قوله تعالى : {إنها عليهم مؤصدة} أي مطبقة لا مخرج لهم منها ولا منجا .

قوله تعالى : {في عمد ممددة} العمد بفتحتين جمع عمود والتمديد مبالغة في المد قيل : هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار ، وقيل : عمد ممددة يوثقون فيها مثل المقاطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص وغيرهم ، وقيل غير ذلك .

___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص331-332 .

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) 

الويل للهمّازين واللمّازين :

تبدأ هذه السّورة بتهديد قارع وتقول :

{ويل لكلّ همزة لمزة} . . . لكلّ من يستهزيء بالآخرين ، ويعيبهم ، ويغتابهم ، ويطعن بهم ، بلسانه وحركاته وبيده ، وعينه وحاجبه .

«الهمزة» و«اللمزة» صيغتا مبالغة ، الاُولى من الهمز ، وهي في الأصل الكسر . العائبون المغتابون يكسرون شخصية الآخرين ، ولذلك اُطلق عليهم اسم (الهمزة) .

و«اللمزة» من اللمز ، وهو اغتياب الآخرين ، والصاق العيوب بهم .

للمفسّرين آراء متعددة في معاني هاتين الكلمتين ، هل معناهما واحد ، وهو المغتابون النّاس العائبون عليهم ، أو إنّ معناهما مختلف . قال بعضهم إنّ معناهما واحد ، وذكرهما معاً للتأكيد .

وقيل : الهمزة هو المغتاب ، واللمزة : العائب .

وقيل : الهمزة هم العائبون بإشارة اليد والرأس . واللمزة من يعيب بلسانه .

وقيل : الاُولى إشارة إلى العائب في حضور الشخص ، والثّانية للعائب في الغيبة .

وقيل : الاُولى تعني العائب في العلن ، والثّانية للعائب في الخفاء ، وبإشارة العين والحاجب .

وقيل : إنّ الإثنتين بمعنى الذي ينبز النّاس بالقاب قبيحة مستهجنة .

وعن ابن عباس في تفسير الكلمتين قال : «هم المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الناعتون للناس بالعيب» (2) .

يبدو أن ابن عباس استلهم هذا التّفسير من كلام لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول : «ألا اُنبئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى يارسول اللّه . قال : المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبّة ، الباغون للبرآء المعايب» (3) .

من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنّهما بمعنى واحد . ولهما مفهوم واسع يشمل كلّ ألوان إلصاق العيوب بالنّاس وغيبتهم والطعن والاستهزاء بهم ، باللسان والإشارة والنميمة والذم .

التعبير بكلمة (ويل) يحمل تهديداً شديداً لهذه الفئة . والقرآن يتشدّد تجاه هؤلاء الأفراد ويذكرهم بعبارات لا نظير لها في ذكر سائر المذنبين . فحين يذكر المنافقين الذين يسخرون من المؤمنين يتهددهم بعذاب أليم ويقول : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة : 80] .

مثل ذلك ذكره القرآن بشأن المنافقين المستهزئين بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (5) من سورة (المنافقون) .

الإسلام ، أساساً ، ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته باحترام بالغ ، ويعدّ أيّ عمل يؤدّي إلى إهانة الآخرين ذنباً كبيراً ، وورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «أذل النّاس من أهان النّاس» (4) .

في هذا المجال ذكرنا شرحاً أوفى في تفسير الآيتين (11 و12 من سورة الحجرات .

ثمّ تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد ، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد ، وتقول : (الذي جمع مالاً وعدّده) بطريق مشروع أو غير مشروع .

فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلاً دائماً بعدّ المال والإلتذاذ ببريق الدرهم والدينار .

تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين . ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والإستهزاء مع المؤمنين الفقراء .

«عدده» من (عدّ) بمعنى حَسَب . وقيل من (العُدّة) بمعنى تجهيز الأموال ليوم الشدّة .

وقيل : أنّها تعني أمسكه وحفظه .

والمعنى الأوّل أظهر .

على أي حال ، هذه الآية تقصد الذين يدخّرون الأموال ولا ينظرون إليها باعتبارها وسيلة بل هدفاً ، ولا يحدهم قيد أو شرط في جمعها ، حتى ولوكان من طريق الحرام والإعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كلّ دنيئة ورذيلة ، ويعتبرون ذلك دليلاً على عظمتهم وشخصيتهم .

هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية ، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم . وإلاّ فإن المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم ، بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللّه» حيث يقول تعالى : {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة : 10] .

وفي موضع آخر يسميه خيراً ، كقوله سبحانه : {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية} .

مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان ، ولا وسيلة تفاخر ، ولا دافع سخرية بالآخرين . لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً ، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون» إلى الطغيان ، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللّه والخلود في النّار .

ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلاّ بالسقوط في أوحال الحرام . لذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال : «لا يجتمع المال إلاّ بخمس خصال : بخل شديد ، وأمل طويل ، وحرص غالب ، وقطيعة رحم ، وإيثار الدنيا على الآخرة» (5) .

لأنّ الأفراد الأسخياء البعيدين عن الآمال الوهمية الطويلة يهتمون بحلال أموالهم وحرامها ، ويساعدون الأقربين ، ولا تتراكم الثروة عندهم غالباً ، وإن زادت عائداتهم .

في الآية التالية يقول سبحانه :

(يحسب أنّ ماله أخلده) (6) .

«أخلده» جاء في الآية بصيغة الماضي ، ويعني أن هذا الهمزة اللمزة يحسب أنّ ماله قد صيّر منه موجوداً خالداً ، لا يستطيع الموت أن يصل إليه ، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه ، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كلّ مشكلة ، وهو يملك هذا المفتاح .

ما أتفه هذا التفكير!! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها ، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } [القصص : 81] .

الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة : {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان : 25 – 27] ، تحولت في ساعة إلى غيرهم :

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان : 28] .

لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم ، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول : {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة : 28 ، 29] .

الإنسان ـ أساساً ـ يهرب من الفناء والعدم ويميل إلى الخلود ، وهذه الرغبة الداخلية هي من أدلة المعاد وأنّ الإنسان مخلوق للخلود ، وإلاّ ما كانت فيه غريزة حبّ الخلود .

لكنّ الإنسان المغرور الأناني الدنيوي يخال خلوده كامناً في أشياء هي ذاتها عامل فنائه وانعدامه . على سبيل المثال : المال والمقام اللذان هما غالباً من أعداء بقائه يحسبهما وسيلة لخلوده .

من هنا يتبيّن أنّ الظنّ بقدرة المال على الإخلاد ، هو الذي يدفع إلى جمع المال ، وجمع المال أيضاً عامل على الإستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين .

القرآن الكريم يردّ على هؤلاء ويقول :

{كلاّ لينبذنّ في الحطمة} كلاّ ، ليس الأمر كما يتصور ، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلّة في نار محطّمة {وما أدراك ما الحطمة ، نار اللّه الموقدة ، التي تطّلع على الأفئدة} .

«لينبذنّ» من نبذ ، أي ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ رمي الشيء لتفاهة قيمته .

أي إنّ اللّه سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنّم كموجودات تافهة لا قيمة لها ، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم .

«الحطمة» صيغة مبالغة من «حطّم» أي هشّم . وهذا يعني أنّ نار جهنّم تهشّم أعضاء هؤلاء . ويستفاد من بعض الرّوايات أن «الحطمة» ليست كلّ نار جهنّم ، بل هي طبقة رهيبة في حرارتها .(7)

مفهوم تهشّم الأعضاء بدل احتراقها في نار جهنّم ، ربّما صعب فهمه في الماضي . ولكن المسألة اليوم ليست بعجيبة بعد أن إتضحت شدّة تأثير أمواج الإنفجار ، وتبيّن أن الأمواج الناتجة عن انفجار كبير قادرة على تهشيم الإنسان ، بل تهشيم العمارات الضخمة باعمدتها الحديدية المستحكمة .

عبارة «نار اللّه» دليل على عظمة هذه النّار ، و«الموقدة» تعني استعارها المستمر .

والعجيب أنّ هذه النّار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أوّلاً ثمّ تنفذ إلى الداخل ، بل هي تبعث بلهبها أوّلاً إلى القلب ، وتحرق الداخل وتبدأ أوّلاً بالقلب ثمّ بما يحيطه ، ثمّ تنفذ إلى الخارج .

ما هذه النّار التي تبعث بشررها إلى قلب الإنسان أوّلاً؟! ما هذه النّار التي تحرق الداخل قبل الخارج؟! كلّ شيء في القيامة عجيب ، ومختلف كثيراً عن هذا العالم ، حتّى إحراق نارها .

لماذا لا تكون كذلك ، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور ، وبؤرة حبّ الدنيا والثروة والمال؟!

لماذا لا تسيطر نار الغضب الإلهي على قلوب هؤلاء قبل أي شيء آخر وهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم .

الآيات الأخيرة من السّورة تقول :

{إنّها عليهم مؤصدة ، في عمد ممددّة} .

و«مؤصدة» من الإيصاد ، بمعنى الأحكام في غلق الباب . ولذلك تسمى الغرف الكائنة في داخل الجبال المخصصة لجمع الأموال «الوصيد» .

هؤلاء في الحقيقة يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها ، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة .

و«العمد» جمع عمود و«ممددة» تعني طويلة .

جمع من المفسّرين قال إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنّم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً ، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول : {إنّها عليهم مؤصدة} .

وقيل إنّها إشارة إلى نوع من وسائل التعذيب والجزاء تشبه تلك التي يُغَلّ بها الشخص في رجله فيفقد قدرة الحركة وهذا جزاء ما كانوا يمارسونه من تعذيب للناس الأبرياء في هذه الدنيا .

وبعضهم أضاف تفسيراً ثالثاً استمده من الإكتشافات العلمية ، وهو أن شعلة من نيران جهنّم تسلّط على هؤلاء مثل أعمدة طويلة . يقولون : إنّ الاكتشافات الأخيرة أثبتت أنّ أشعة اكس الخاصّة (اشعة رونتجن) تختلف عن سائر الأشعة الاُخرى التي تنتشر بشكل مخروطي ، وذلك أنّها تنتشر بشكل عمودي ، وقادرة على النفوذ في جميع الأجزاء الداخلية للإنسان بما في ذلك القلب . ولذلك يستفاد منها في تصوير الأعضاء الداخلية . والأشعة التي تخرج من نار جهنّم شبيهة بالأشعة المذكورة(8) .

ومن بين هذه التفاسير ، التّفسير الأوّل أنسب . (واستناداً إلى بعض التفاسير عبارة (في عمد ممددة) تبيّن حالة جهنّم ، وبعضها الآخر يرى أنّها بيان لحالة أهل جهنّم) .

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص518-524 .

2 ـ تفسير الفخر الرازي ، ج32 ، ص92 .

3 ـ اُصول الكافي ، ج2 ، باب النميمة ، الحديث 1 .

4 ـ بحار الأنوار ، ج75 ، ص142 .

5 ـ نور الثقلين ، ج5 ، ص668 ، الحديث 7 .

6 ـ «ماله» يمكن أن تكون مكونة من (مال) مضاف إلى ضمير الغائب . ويمكن أن تكون (ما) موصولة ، وبعدها صلتها . جملة (أخلده) فعل ماض يتحمل معنى المضارع ، أو بمعنى موجبات الخلود .

7 ـ نور الثقلين ، ج3 ، ص17 و19 ، الحديث 60 و64 .

8 ـ نور الثقلين ، ج5 ، ص667 ، الحديث5 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى