مقالات

القرآن وعصمة النبي في مجال تلقي الوحي

إنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الهدف من بعث الأنبياء هو تزكية نفوس الناس وتصفيتهم من الرذائل وغرس الفضائل فيها قال سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة : 129] وقال سبحانه : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران : 164].

والمراد من التزكية هو تطهير القلوب من الرذائل وإنماء الفضائل ، وهذا هو ما يسمى في علم الأخلاق ب‍ « التريبة ».

ولا شك أنّ تأثير التربية في النفوس يتوقف على إذعان من يراد تربيته بصدق المربي وإيمانه بتعاليمه ، وهذا يعرف من خلال عمل المربي بما يقوله ويعلمه وإلاّ فلو كان هناك انفكاك بين القول والعمل ، لزال الوثوق بصدق قوله وبالتالي تفقد التربية أثرها ، ولا تتحقق حينئذ الغاية من البعث.

وإن شئت قلت : إنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل ، هو العامل الوحيد لكسب ثقة الآخرين بتعاليم المصلح والمربي ، ولو كان هناك انفكاك بينهما لانفض الناس من حوله قائلين بأنّه لو كان مذعناً بصحة دعوته لما خالف قوله في مقام العمل.

سؤال وجواب

نعم يمكن أن يقال : يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة وهي الكذب فالبرهان المذكور على تماميته لا يثبت إلاّ مصونيته عن خصوص الكذب لا مطلقاً.

أقول : الإجابة عن هذا السؤال سهلة ، لأنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصح أن تقع أساساً للتربية العامة لما فيها من الإشكالات.

أمّا أوّلاً : فانّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة فإن تم وجودها أو وجود بعضها تحصل المصونية المطلقة للإنسان ، وإلاّ فلا يمكن التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي بأن يجتنب الإنسان عن الكذب طيلة عمره ويرتكب سائر المعاصي ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى ارتكابها تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب واجتياح التهمة.

وأمّا ثانياً : فلو صح التفكيك بينهما في عالم الثبوت لا يمكن إثباته ( الداعي لا يكذب أبداً وان كان يركب سائر المعاصي ) في حق الداعي ومدعي النبوة ، إذ كيف يمكن الإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم ، لا يكذب أصلاً عندما اضطر إليه حتى ولو صرح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.

وعلى الجملة : انّ الهدف من بعث الرسل وإنزال الكتب هو دعوة الناس إلى الهداية الإلهية التي يقوم بأعبائها الأنبياء والرسل ، ولا يتحقق ذلك الهدف إلاّ بعد اعتماد الناس على حامل الدعوة والقائم بالهداية ، فاقتراف المعاصي ومخالفة ما يدعو إليه من القيم والخلق ، يزيل من النفوس الثقة به والاعتماد عليه.

وبهذا البيان تظهر الإجابة عن سؤال لا يقصر في الضآلة عن السؤال الماضي. وهو ما ربما يقال : إنّ أقصى ما يثبته هذا البرهان هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في المجتمع ، وهذا لا يخالف أن يكون عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات ، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

والجواب عن هذا السؤال واضح تمام الوضوح ، فإنّ مثل هذا التصور عن النبي والقول بأنّه يرتكب المعاصي في السر دون العلن يهدم الثقة به ، إذ ما الذي يمنعه ـ عندئذ ـ من أن يكذب ويتستر على كذبه ، وبذلك تزول الثقة بكل ما يقول ويعمل.

أضف إلى ذلك أنّه يمكن خداع الناس بتزيين الظاهر مدة قليلة لا مدة طويلة ولا ينقضي زمان إلاّ وقد تظهر البواطن ويرتفع الستار عن حقيقته فتكشف سوأته ، ويظهر عيبه.

إلى هنا ظهر أنّ ثقة الناس بالأنبياء إنّما هي في ضوء الاعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهو فرع كونهم مصونين عن الخلاف والعصيان في الملأ والخلأ والسر والعلن من غير فرق بين معصية دون أُخرى.

تقرير المرتضى لهذا البرهان

إنّ السيد المرتضى قد قرر هذا البرهان ببيان آخر نأتي به.

قال ما هذا حاصله : إنّ تجويز الكبائر يقدح في ما هو الغرض من بعث الرسل ، وهو قبول قولهم وامتثال أوامرهم ولا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئاً من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا :

إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول والمرجع فيما ينفر وما لا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالأدلة والمقاييس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وانّه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فإنّ حظ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.

فإن قيل : أليس قد جوّز كثير من الناس على الأنبياء : الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرائع ، وهذا ينقض قولكم : إنّ الكبائر منفّرة.

قلنا : هذا سؤال من لم يفهم ما أوردناه ، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة ، وانّما أردنا ما فسرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه وانّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول ، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول ، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.

ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفراً ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ، ولا يخرجه من أن يكون مقرباً ، فدل على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.

فإن قيل : فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير ؟

قلنا : الطريقة في الأمرين واحدة ، لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه ، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارناً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وان وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً ومؤثراً ، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير ( ولأجل ذلك ) وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه ، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة ، وإنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضاً ، وان فارق الأوّل في قوة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفراً في نفسه.

فإن قيل : فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء : في حال النبوة وقبلها ؟

قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل ، لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه ، فكذلك نعلم انّ من نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء (عليهم السلام) أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوته أو قبلها وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها (1).

إجابة عن سؤال آخر

ربما يقال : إنّ العقلاء يكتفون في تبليغ برامجهم التعليمية والتربوية بما يغلب صدقه على كذبه ، ويكفي في ذلك كون الرسول رجلاً صدوقاً عدلاً ، ومن المعلوم انّ الصدوق العادل ليس بمعصوم وليس صادقاً مائة بالمائة ، وفي نهاية الكمال ، ولأجل ذلك لا مانع من أن يكتفي سبحانه في تبليغ شرائع الأنبياء بأفراد صالحين يغلب حسنهم على قبحهم وثباتهم على زللهم.

هذا هو السؤال ، وأمّا الجواب : فإنّ اكتفاء العقلاء بهذه الدرجة من الصلاح والاستقامة ، لأجل وجهين :

إمّا لعدم تمكنهم من أفراد كاملين ، وإمّا لاكتفائهم في تحقق أهدافهم على الحد الخاص من الواقعية وكلا الأمرين لا يناسب ساحته سبحانه ، إذ في وسع المولى سبحانه بعث رجال معصومين ، وتحقيق أهدافه على الوجه الأكمل.

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : إنّ الناس يتسبّبون في أنواع تبليغاتهم وأغراضهم الاجتماعية بالتبليغ بمن لا يخلو من قصور وتقصير في التبليغ لكن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز في ما نحن فيه ، لمكان المسامحة منهم في الوصول إلى الأهداف ، فإنّ مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من المطلوب والحصول على اليسير والغض عن الكثير ، وهذا لا يليق بساحته تعالى (2).

_____________________

(1) تنزيه الأنبياء : 4 ـ 6.

(2) الميزان : 2 / 141.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى