منطق القوة أم قوة المنطق
- لقد مر الإنسان عبر تأريخ طويل من الإرهاصات التي أدت إلى تطور وعيه وإدراكه منذ أن خلقه الله وإلى الآن
لقد مر الإنسان عبر تأريخ طويل من الإرهاصات التي أدت إلى تطور وعيه وإدراكه منذ أن خلقه الله وإلى الآن، كما أن اختلاف المراحل التاريخية ومقتضياتها صقلت الإنسان وما تزال بالرغم من الصعاب التي عاناها في سيره نحو الكمال والرقي،
ومن جملة تلك الأمور صراع المفاهيم ونفوذها في المجتمعات الإنسانية كصراع مفهومي (منطق القوة وقوة المنطق) فحيناً يطغى مفهوم منطق القوة أو البقاء للأقوى على فئة معينة أو مجتمع معين أو حتى مرحلة تاريخية بشكل تنعدم معه لغة الحوار والاحتكام إلى المنطق والعقل،فتنشب الحروب وتدور رحى العنف والطغيان ساحقة كل القيم والمبادئ التي تدعو إلى الحكمة والعقلانية حاملةً معها شتى معاني الظلم والاستبداد ليعيش المجتمع الإنساني وفق هذا المفهوم في جهل وعماء وأجواء ينشط فيها الإقطاع والإخضاع وإلغاء الآخر. إن السبب في تبني مثل هذه المفاهيم هو غياب المنطق والحوار وسيطرة الإرادات المتعصبة على مقدرات الشعوب وتفشي الأمية الثقافية والحضارية في الطبقات الاجتماعية ذات الأكثرية العددية،
فيطغى لفترة وسرعان ما ينتهي ويذوب كونه يفتقر إلى أساسيات التعايش ويتهاوى أمام الإرادات المقابلة الأخرى التي تنتهج المنهج ذاته
.ونستطيع أن نستدل على ذلك من خلال مراجعة سريعة لمجمل الأحداث والمراحل التأريخية المختلفة -لا سيما المراحل المتقدمة- فإننا نرى أن ثقافة منطق القوة كان رائجاً بين الحضارات والقوى الكبرى ذات النفوذ الواسع، كالحضارة الرومانية والحضارة اليونانية والحضارة الفارسية وغيرها التي جلبت الدمار والخراب لأفرادها بسبب الحروب والنزاعات التي دامت بينها لعقود ولم تنتهي إلا بسيطرة أحد طرفي النزاع على الآخر وفرض ثقافة المنتصر وحضارته وفلسفته، فكان السيف حكماً بينهم لا المنطق والكلمة الفصل، فأين هي الآن تلك الحضارات؟! لقد عفا عليها الزمن ولم تبق منها سوى الحكايا والأطلال. أما مفهوم قوة المنطق والاحتكام للعقل بعيداً عن لغة العنف ومجابهة القوة بالقوة فهو مما لا يعول عليه وحده – بالرغم من كونه أمراً ضرورياً- في واقع يسوده الجهل والعناد والعصبية القبلية، ويوضح هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته: أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا إن وضع هذه القصيدة ضمن المعلقات السبع التي كان العرب في الجاهلية يجلونها ويحترمونها دليل على تقبل المجتمع آنذاك مفاهيم ضالة ومنحرفة وشيوعها وانتشارها بين أوساط ذاك المجتمع، فأي منطق وأي عقل -مهما بلغ من الرصانة وامتلك من الحجج والبراهين- يستطيع أن يواجه تلك المفاهيم؟! إن تبني أحدالمفهومين بشكل مستقل عن المفهوم الآخر أمر خاطئ لا يُرجى فيه النجاح والفلاح، بل المطلوب تبنيهما معاً واستخدامهما كلٌّ وفق مقتضيات الحالة وظروف المرحلة، فالله تعالى يأمرنا بمواجهة القوة بالقوة، والمثل بالمثل، ومن جهة أخرى ينهانا عن استخدام القوة مع من ركن إلى السلم، وهذا ما نجده في آي الذكر الحكيم، قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ… وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ…فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) كما أنه سبحانه يأمرنا باتباع منهج قوة المنطق والمجادلة بالتي هي أحسن في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). إن من أوضح مصاديق ما تقدم نجده عند أهل البيت (عليهم السلام) وذلك في نهجهم لمعالجة المجتمع وترسيخ المفاهيم والقيم الحقة فمن مراجعتنا للأحداث التي عاصرت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكيف تعامل معها نجد ذلك واضحاً، فحين خرج الخوارج على أمير المؤمنين (عليه السلام) وأظهروا الشقاق والفرقة حاججهم بالمنطق والعقل وأرسل إليهم ذووا العقول الراجحة ليحاوروهم ويبينوا لهم ما التبس عليهم فعاد من عاد وعاند من عاند، فتركهم حتى ولغوا في الدماء البريئة وانتهكوا الحرمة وبعد هذا لا تنفع المحاججة ولا تفيد المجادلة بل هي مما يغري الطرف الآخر ويمنيه ويزيده جوراً وظلماً، فيقع حينئذ الفساد ويضيع الحق والسداد، فرفع (عليه السلام) رايته والتف حوله جنوده فلم يبق من الخوارج-الذين بلغ تعدادهم آنذاك أربعة آلاف- إلا تسعة نفر فروا، فوأد الفتنة وصان الحرمة وحفظ الدماء الأعراض . وما أشبه اليوم بالأمس