مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 45-51)

قال تعالى : {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [آل عمران: 45 – 51].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{إذ قالت الملائكة} قال ابن عباس: يريد جبرائيل {يا مريم إن الله يبشرك} يخبرك بما يسرك {بكلمة منه} فيه قولان أحدهما: إنه المسيح سماه كلمة، عن ابن عباس وقتادة وجماعة من المفسرين. وإنما سمي بذلك لأنه كان بكلمة من الله من غير والد، وهو قوله: {كن فيكون} يدل عليه قوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه} الآية. وقيل: سمي بذلك لأن الله بشر به في الكتب السالفة، كما يقول الذي يخبرنا بالأمر إذا خرج موافقا لأمره: قد جاء كلامي. فمما جاء من البشارة به في التوراة: {أتانا الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران ” وساعير: هو الموضع الذي بعث منه المسيح. وقيل: لأن الله يهدي به، كما يهدي بكلمته والقول الثاني: إن الكلمة بمعنى البشارة، كأنه قال ببشارة منه ولد {اسمه المسيح} فالأول أقوى، ويؤيده قوله: {إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}. وإنما ذكر الضمير في {اسمه} وهو عائد إلى الكلمة، لأنه واقع على مذكر، فذهب إلى المعنى. واختلف في أنه لم سمي بالمسيح فقيل: لأنه مسح بالبركة واليمن، عن الحسن وقتادة وسعيد. وقيل: لأنه مسح بالتطهير من الذنوب. وقيل: لأنه مسح بدهن زيت بورك فيه، وكانت الأنبياء تمسح به، عن الجبائي. وقيل: لأنه مسحه جبرائيل بجناحه وقت ولادته، ليكون عوذة من الشيطان. وقيل: لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله. وقيل: لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصر، عن الكلبي. وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برئ، عن ابن عباس في رواية عطا والضحاك. وقال أبو عبيدة: هو بالسريانية {مشيحا} فعربته العرب.

{عيسى ابن مريم} نسبة إلى أمه ردا على النصارى قولهم إنه ابن الله {وجيها} ذا جاه وقدر، وشرف {في الدنيا والآخرة ومن المقربين} إلى ثواب الله وكرامته.

{ويكلم الناس في المهد} أي: صغيرا. والمهد: الموضع الذي يمهد لنوم الصبي، ويعني بكلامه {في المهد} قوله: {إني عبد الله آتاني الكتاب} الآية.

ووجه كلامه {في المهد} أنه تبرئة لأمه مما قذفت به، وجلالة له بالمعجزة التي ظهرت فيه.

{وكهلا} أي: ويكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من الله، أعلمها الله تعالى أنه يبقى إلى حال الكهولة. وفي ذلك إعجاز لكون المخبر على وفق الخبر. وقيل:

إن المراد به الرد على النصارى بما كان فيه من التقلب في الأحوال، لأن ذلك مناف لصفة الإله {ومن الصالحين} أي: ومن النبيين مثل إبراهيم وموسى. وقيل: إن المراد بالآية {ويكلمهم في المهد} دعاء إلى الله، وكهلا بعد نزوله من السماء، ليقتل الدجال، وذلك لأنه رفع إلى السماء، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وذلك قبل الكهولة، عن زيد بن أسلم.

وفي ظهور المعجزة في المهد قولان أحدهما: إنها كانت مقرونة بنبوة المسيح، لأنه تعالى أكمل عقله في تلك الحال، وجعله نبيا، وأوحى إليه بما تكلم به، عن الجبائي. وقيل: كان ذلك على التأسيس والإرهاص (2) لنبوته، عن ابن الأخشيد.

ويجوز عندنا الوجهان. ويجوز أيضا أن يكون معجزة لمريم تدل على طهارتها، وبراءة ساحتها، إذ لا مانع من ذلك، وقد دلت الأدلة الواضحة على جوازه. وإنما جحدت النصارى كلام المسيح في المهد، مع كونه آية ومعجزة، لأن في ذلك إبطالا لمذهبهم، لأنه قال: {إني عبد الله} وهذا ينافي قولهم إنه ابن الله. فاستمروا على تكذيب من أخبر أنه شاهده كذلك.

{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

{قالت} مريم يا {رب أنى يكون} أي: كيف يكون {لي ولد ولم يمسسني بشر} لم تقل ذلك استبعادا واستنكارا، بل إنما قالت استفهاما واستعظاما لقدرة الله، لأن في طبع البشر التعجب مما خرج عن المعتاد. وقيل: إنما قالت ذلك لتعلم أن الله تعالى يرزقها الولد، وهي على حالتها، لم يمسها بشر، أو يقر لها زوجا. ثم يرزقها الولد على مجرى العادة.

{قال كذلك الله يخلق ما يشاء} أي: يخلق ما يشاء مثل ذلك، وهو حكاية ما قال لها الملك أي: يرزقك الولد وأنت على هذه الحالة، لم يمسك بشر {إذا قضى أمرا} أي: خلق أمرا. وقيل: إذا قدر أمرا {فإنما يقول له كن فيكون} وقيل في معناه قولان أحدهما: إنه إخبار بسرعة حصول مراد الله في كل شئ أراد حصوله من غير مهلة، ولا معاناة، ولا تكلف سبب، ولا أداة. وإنما كنى بهذا اللفظ، لأنه لا يدخل في وهم العباد شئ أسرع من كن فيكون والآخر: إن هذه الكلمة، كلمة جعلها الله علامة للملائكة فيما يريد إحداثه وايجاده، لما فيه من المصلحة والاعتبار.

وإنما استعمل لفظة الأمر فيما ليس بأمر هنا، ليدل بذلك على أن فعله بمنزلة فعل المأمور، في أنه لا كلفة فيه على الآمر.

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

{ويعلمه الكتاب} أراد الكتابة، عن ابن جريج. قال: أعطى الله عيسى تسعة أجزاء من الخط، وسائر الناس جزء. وقيل: أراد به بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، سوى التوراة والإنجيل، مثل الزبور وغيره، عن أبي علي الجبائي، وهو أليق بالظاهر. {والحكمة} أي: الفقه، وعلم الحلال والحرام، عن ابن عباس، كما روي عن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” أنه قال: ” أوتيت القرآن ومثليه “. قالوا: أراد به السنن. وقيل: أراد بذلك جميع ما علمه من أصول الدين.

{والتوراة والإنجيل} إن قيل: لم أفردهما بالذكر مع دخولهما في الحكمة؟

قيل: تنبيها عن جلالة موقعهما، كقوله: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال}. وقطع هاهنا قصة مريم وولادتها، ويأتي تمام قصتها في سورة مريم، وابتدأ بقصة عيسى فقال: {ورسولا إلى بني إسرائيل} وقد ذكرنا تقديره ومعناه يدور عليه {أني قد جئتكم} أي: قال لهم وكلمهم لما بعث إليهم بأني قد جئتكم {بآية} أي: بدلالة وحجة {من ربكم} دالة على نبوتي. ثم حذف الباء فوصل الفعل {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} معناه: وهذه الآية أني أقدر لكم، وأصور لكم من الطين مثل صورة الطير.

{فأنفخ فيه} أي: في الطير المقدر من الطين. وقال في موضع آخر:

{فيها} أي: في الهيئة المقدرة {فيكون طيرا بإذن الله} وقدرته. وقيل: بأمر الله تعالى. وإنما وصل قوله: {بإذن الله} بقوله: {فيكون طيرا} دون ما قبله، لأن تصور الطين على هيئة الطير، والنفخ فيه، مما يدخل تحت مقدور العباد. فأما جعل الطين طيرا حتى يكون لحما ودما، وخلق الحياة فيه، فمما لا يقدر عليه غير الله، فقال: {بإذن الله} ليعلم أنه من فعله تعالى، وليس بفعل عيسى. وفي التفسير أنه صنع من الطين كهيئة الخفاش، ونفخ فيه فصار طائرا {وأبرئ الأكمه} أي: الذي ولد أعمى، عن ابن عباس وقتادة. وقيل: هو الأعمى، عن الحسن والسدي.

{والأبرص} الذي به وضح. وقال وهب: وربما اجتمع على عيسى من المرض في اليوم خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.

{وأحيي الموتى بإذن الله} إنما أضاف الإحياء إلى نفسه، على وجه المجاز والتوسع، ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه. وقيل: إنه أحيى أربعة أنفس: عازر وكان صديقا له، وكان قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، ثم قال: اللهم رب السماوات السبع، ورب الأرضين السبع، إنك أرسلتني إلى بني إسرائيل، أدعوهم إلى دينك، وأخبرهم بأني أحيي الموتى، فأحي عازر (3)! فخرج من قبره، وبقي وولد له.

وابن العجوز مر به ميتا على سريره، فدعا الله عيسى ” عليه السلام “، فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، ورجع إلى أهله، وبقي وولد له.

وابنة العاشر قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت، وبقيت، وولدت.

وسام بن نوح: دعا عليه باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، ولكني دعوتك باسم الله الأعظم. قال: ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان، لأن سام بن نوح قد عاش خمس مائة سنة، وهو شاب. ثم قال له: مت. قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل.

وقال الكلبي: كان يحيي الأموات بيا حي يا قوم، وإنما خص عيسى ” عليه السلام ” بهذه المعجزات، لأن الغالب كان في زمانه الطب، فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه، لتكون المعجزة أظهر، كما أن الغالب لما كان في زمن موسى السحر، أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله. وكان الغالب في زمان نبينا ” صلى الله عليه وآله وسلم ” البيان والبلاغة والفصاحة، فأراهم الله تعالى المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم، وغرائب البيان، ليكون أبلغ في باب الإعجاز بان يأتي كلا من أمم الأنبياء بمثل ما هم عليه، ويعجزون عن الإتيان بمثله. إذ لو أتاهم بما لا يعرفونه، لكان يجوز أن يخطر ببالهم أن ذلك مقدور للبشر، غير أنهم لا يهتدون إليه.

{وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} أي: أخبركم بالذي تأكلونه وتدخرونه، كأن يقول للرجل تغديت بكذا وكذا، ورفعت إلى الليل (4) كذا وكذا {إن في ذلك} أي: فيما ذكرت لكم {لآية} أي: حجة، ومعجزة، ودلالة {لكم إن كنتم مؤمنين) بالله إذ كان لا يصح العلم بمدلول المعجزة، إلا لمن آمن بالله، لأن العلم بالمرسل لا بد أن يكون قبل العلم بالرسول. وفي الآية دلالة على أن عيسى ” عليه السلام ” كان مبعوثا إلى جميع بني إسرائيل. وقوله: {أني أخلق لكم} يدل على أن العبد يحدث ويفعل ويخلق، خلافا لقول المجبرة، لكن الخالق على الإطلاق، هو الله تعالى.

{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }.
والثاني: إنه لا يجوز تحليل جميع المحرمات، لأنه يدخل الكذب والظلم والقتل في ذلك.

{ومصدقا لما بين يدي} أي: لما أنزل (5) قبلي {من التوراة}، وما فيه البشارة بي ومن أرسل قبلي من الأنبياء {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} هذا معطوف على معنى قوله {مصدقا} وتقديره: ولأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم، كما تقول: جئته معتذرا ولأجتلب عطفه. وقيل: إن الذي أحل لهم لحوم الإبل، والشروب (6)، وبعض الطيور والحيتان، مما كان قد حرم على بني إسرائيل، عن قتادة والربيع وابن جريج ووهب. وقيل: أحل لكم السبت، عن الكلبي. {وجئتكم بآية من ربكم} أي: بحجة تشهد بصدقي {فاتقوا الله} في مخالفتي، وتكذيبي. {وأطيعوني} كما أمركم الله به {إن الله ربي وربكم} أي:

مالكي ومالككم. وإنما قال ذلك ليكون حجة على النصارى في قولهم {المسيح ابن الله} والمعنى لا تنسبوني إليه، فأنا عبده كما أنكم عبيد له {فاعبدوه} وحده (هذا صراط مستقيم} أي: دين الله أي: عبادته دين مستقيم. وقد استوفينا الكلام في الرب، وفي الصراط المستقيم، في سورة الحمد.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص295-301.

2- الإرهاص: الخارق الذي يظهر من النبي قبل البعثة.

3- [قال: فقام عازر].

4-  وفي بعض النسخ المخطوطة: ” ودفعت إلى البيت ” مكان: ” ورفعت إلى الليل “.

5- [من].

6- وفي التبيان ” الثروب ” بالثاء المثلثة بدل الشين، وهو الظاهر. والثرب: الشحم الرقيق الذي على الكرش والأمعاء.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

الممتنع عقلا ، والممتنع عادة :

ممتنع الوجود هو الذي ليس موجودا بالفعل ، ولا يمكن وجوده في المستقبل ، وهو على نوعين :

الأول أن يمتنع وجوده ذاتا وعقلا ، لأنه يستحيل بحكم العقل أن يوجد بحال من الأحوال ، وصورة من الصور ، كاجتماع النقيضين أو الضدين ، مثل أن يكون الإنسان مؤمنا وكافرا بشيء واحد في آن واحد ، وان يكون الأعمى بما هو أعمى مبصرا والأخرس بما هو أخرس متكلما . . ويتفق على امتناع هذا النوع العقل والعادة ، لأنه إذا امتنع ذاتا وعقلا فبالأولى أن يمتنع عادة .

النوع الثاني : أن لا يمتنع وجوده ذاتا وفي نظر العقل ، بل يمكن وجوده بصورة من الصور ، وطريق من الطرق ، ولكن العادة لم تجر بوقوعه ، والأمثلة على ذلك لا تحصيها كثرة . وقد ذكر القرآن الكريم العديد من الحوادث التي تدخل في هذا النوع ، منها جلوس إبراهيم الخليل في النار ، دون أن تناله بأذى ، وتحوّل عصا موسى إلى ثعبان ، ووقوف مياه البحر كالجبال ، وإلانة الحديد كالشمع لداود ، ومعرفة منطق الطير والنمل لسليمان ، واحياء عزير بعد موته بمائة عام .

ومنها ولادة عيسى من غير أب ، وكلامه ساعة ولادته ، وإحياؤه الموتى ، وابراؤه الأعمى والأبرص من غير علاج ، وإخباره الناس بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، دون أن يشاهد ذلك ، أو يخبره به انسان ، كل هذه الحوادث ، وما إليها جائزة الوقوع ، ولكن لم تجر العادة بوقوعها ، ولو كانت محالا في ذاتها لامتنع وقوعها على يد الأنبياء وغير الأنبياء . وإذا كانت هذه الحوادث ممكنة في ذاتها ، وأخبر الوحي بوقوعها صراحة فوجب على كل مؤمن الجزم بها ، دون تردد .

وذكر جماعة من الفلاسفة والمفسرين وجوها لخلق عيسى من غير نطفة الأب ، ولكن ما قالوه لا طائل تحته . . والحق ان اللَّه تعالى قادر على كل شيء ، يوجده بكلمة ( كن ) من لا شيء ، وقد اقتضت حكمته وقوع ما أراد فتم الذي أراد .

ولسنا مكلفين بالبحث والعلم عن ماهية الحوادث التي أوجدها اللَّه خرقا للعادة ، ولا كيف وقعت . . وربما كانت عقولنا عاجزة عن إدراكها ، تماما كما عجزت عن ادراك حقيقة الروح التي هي من أمر ربي . . أجل ، نحن ندركها بآثارها ونتائجها ، لا بكنهها وحقيقتها ، وكفى بها معرفة من هذه الجهة . . وعلى هذا الأساس سنفسر الآيات الواردة في حق المسيح ( عليه السلام ) وما شابهها من الآيات الواردة في غيره .

 { إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهً يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } .

والمراد بالملائكة هنا جبريل ، لقوله تعالى في سورة مريم : { فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا } . حيث المراد بالروح هو جبريل ، وذكره بلفظ الجمع ، لأنه رئيس الملائكة ، وكلمة منه إشارة إلى قوله تعالى : « كُنْ فَيَكُونُ » .

{ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ومِنَ الْمُقَرَّبِينَ } . أما وجاهته في الدنيا فهي تقديس الناس وتعظيمهم له إلى يوم يبعثون ، أما في الآخرة فلعلو درجاته غدا عند اللَّه .

( ويُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وكَهْلًا ومِنَ الصَّالِحِينَ ) . تكلم في المهد للدلالة على براءة أمه من قذف اليهود لها بيوسف النجار ، وهم قومها ، عليهم لعائن اللَّه ، وزعم النصارى أنه لم يتكلم في المهد . . وقال ابن عباس : كان كلام عيسى لحظة قصيرة ، ولم يزد عما جاء في القرآن ، ثم لم يتكلم ، حتى بلغ أوان الكلام كغيره من الأولاد . . وهذا القول يساعد عليه الاعتبار ، لأن الغرض من كلامه أن يبرئ أمه من التهم والشبهات ، وقد حصل الغرض بما قاله أولا . . ( وكهلا ) أي يكلم الناس بالوحي ، وهو كهل ، وهذه معجزة أخرى تدل على نبوته ، لأنه إخبار بالغيب انه سيعيش إلى سن الكهولة ، وقيل : عاش في الأرض ثلاثين سنة . وقيل : أتاه الوحي ابن ثلاثين ، وعاش بعده ثلاث سنين .

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } . هذا استعظام منها لقدرة اللَّه تعالى ، لأنه خارج عن المعتاد ، ولا وجه لما جاء في بعض التفاسير من أنها سألت : هل يأتيها الولد بسبب الزواج ؟ لا وجه لهذا السؤال لأن الجواب عنه بقوله تعالى : { قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . ان هذا الجواب يدل على انها كانت على علم بأنها ستلد من غير زواج .

{ ويُعَلِّمُهُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإِنْجِيلَ } . الكتاب مصدر بمعنى الخط ، كالقتال بمعنى الضرب ، ثم كثر استعماله في اسم المفعول ، أي المكتوب ، وبصورة أخص في هذا المعلوم الذي له طرفان ، وما بينهما أبواب ومسائل ، والمراد بالكتاب هنا المعنى المصدري ، أي الخط ، لأن ذكر التوراة والإنجيل بعد ذكر الكتاب يرجح حمله على الخط والكتابة . . وقيل : بل المراد به المعنى الظاهر ، وانما ذكر التوراة والإنجيل بعد الكتاب الشامل لهما للاهتمام بهما ، تماما كقوله تعالى : حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى .

والحكمة هي وضع الشيء في موضعه ، وهذه الآية دليل قاطع على ان التوراة هي الركيزة الأولى لدين المسيح ، وان الإنجيل امتداد لها ، مع بعض التعديلات ، كتحليل بعض ما جاء فيها من المحرمات المشار إليه بقوله : { ولأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } .

{ ورَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ } . أرسل اللَّه محمدا ( صلى الله عليه واله ) للناس كافة ، كما نصت الآية 28 من سورة سبأ : « وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » . أما عيسى ( عليه السلام ) ، وهو إسرائيلي ، فإنه أرسل إلى قومه بمقتضى ظاهر هذه الآية . . وتعميم رسالته للناس كافة يحتاج إلى دليل .

{ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } . هذا خطاب من عيسى لقومه الإسرائيليين ، محتجا على صدق نبوته بأن لديه معجزة تدل على انه مرسل إليهم من اللَّه ، وهذه المعجزة هي قوله :

{ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وأُبْرِئُ الأَكْمَهً والأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .

 هذه أربع معجزات :

الأولى : إنشاء الحياة في الطين ، وجعله طيرا . الثانية : إبراء الأكمه ، وهو الذي يخلق أعمى ، والأبرص ، وهو الذي في جلده بياض منفر . . وقيل : ان الطب كان متقدما في عهد عيسى ، ولكن برغم تقدمه فقد عجز أمهر الأطباء عن هذين الداءين : العمى والبرص ، فجعل اللَّه الشفاء منهما على يد عيسى من غير علاج معجزة تدل على نبوته .

المعجزة الثالثة : رد الحياة إلى الميت . الرابعة الإخبار بالغيب عما يأكلون وما يدخرون . . وليس من شأننا البحث عن السر لهذه المعجزات وكيفية إنشاء الحياة ، أو ردها إلى الأموات ، ولا عن إزالة الأمراض المستعصية من غير علاج ، وإذا

تصدينا للبحث عن شيء من ذلك فلا ننتهي إلا إلى الشبهات والظلمات ، فلم يبق لدينا إلا التسليم لحكمة اللَّه وأمره الذي صرح به السيد المسيح ( عليه السلام ) مكررا أنه قد فعله بإذن اللَّه ، ليسد الباب على كل مقتول ومتوهم الربوبية لعيسى أو الشعوذة ، أو غيرها . . وسبقت الإشارة عند تفسير الآية 255 من سورة البقرة إلى أن نظام الكائنات يجريه اللَّه سبحانه على السنن الطبيعية إلا إذا اقتصت حكمته أن يتدخل على عكسها بإرادته التكوينية التي هي عبارة عن كلمة « كن » . . وعندها فلا يبقى مجال لأية واسطة وسنة .

أما إخبار عيسى بالغيب فقد كان بواسطة الوحي من اللَّه تعالى ، ولا يختص وحده بذلك فقد أخبر جميع الأنبياء بالغيب ، فنوح صنع السفينة قبل أن يقع الطوفان ، وشعيب أخبر عن مصير قومه في هذه الحياة ، وكذلك غيره من الأنبياء ، ومحمد ( صلى الله عليه واله ) أخبر عن انتصار الروم على الفرس ، وانتصار قومه عليهما معا . . والإمام علي أخبر عن ثورة الزنج وغيرها ، حتى قال له قائل :

لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب . فقال له الإمام : ليس هو بعلم غيب ، وانما هو تعلَّم من ذي علم . يشير إلى أن النبي ( صلى الله عليه واله ) أخبره به ، والنبي أخذه من الوحي .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص60-65.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك} “الخ”، الظاهر أن هذه البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 – 19] ، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.

وقد قيل في وجهه إن المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لأمره كما يقال : سافر فلان فركب الدواب وركب السفن، وإنما ركب دابة واحدة و سفينة واحدة، و يقال : قال له الناس كذا، وإنما قاله واحد وهكذا، و نظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة : فنادته الملائكة ثم قوله : قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية.

وربما قيل : إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.

والذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما و تأخرا من حيث مقام القرب، وأن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة، عين فعل المتقدم، و قوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول: رأته عيناي و سمعته أذناي، ورأيته و سمعته، و يقال فعلته جوارحي و كتبته يدي ورسمته أناملي و فعلته أنا وكتبته أنا، وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، و قوله قولهم من غير اختلاف، و بالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه و قولهم قوله، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ، فنسب التوفي إلى نفسه، و قال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] ، فنسبه إلى ملك الموت و قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ، فنسبه إلى جمع من الملائكة.

ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] ، و قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] ، و قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] ، و قوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } [عبس: 11 – 15].

فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة و هو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى: “إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين”: التكوير – 21، و سيأتي زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر إن شاء الله تعالى.

و يؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يخلق ما يشاء، فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 19 – 21].

وفي تكلم الملائكة و الروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } [مريم: 17] ، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، وسيجيء تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: {بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم}، قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253].

والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس و فرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى، وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما، هذا بحسب اللغة، وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الإيجاد وهو قوله تعالى لشيء أراده: كن، أو كلمة الوحي و الإلهام و نحو ذلك.

وأما المراد بالكلمة فقد قيل: إن المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أن من أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، و نظيره قوله تعالى في ظهور موسى (عليه السلام): {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [الأعراف: 137] ، وفيه أن ذلك و إن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على أن سياق قوله: {اسمه المسيح} لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى، و ظاهر قوله : {اسمه المسيح}، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.

وربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، و بيانه تحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [الزخرف: 63] ، وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.

وربما قيل: إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها، وهي الإخبار بحملها بعيسى و ولادته فمعنى قوله: {يبشرك بكلمة منه}: يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر، و فيه أن سياق الذيل أعني قوله:{ اسمه المسيح} لا يلائمه وهو ظاهر.

وربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني قوله: كن و إنما اختص عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء موجودا بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، و عمل العوامل المقارنة في ذلك، و لذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها، و لما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الأسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] ، وقوله تعالى في آخر هذه الآيات: {لَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] الآية، و هذا أحسن الوجوه.

والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى (عليه السلام) لأنه كان مسيحا باليمن و البركة أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه و كانت الأنبياء يمسحون به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنه كان يمسح رءوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم (عليهما السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله: {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم}”، و هذا اللفظ بعينه معرب “مشيحا” الواقع في كتب العهدين.

والذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه: إما الملك وإما المبارك.

وقد يظهر من كتبهم أنه (عليه السلام) إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه، و أنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم، قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه و فكرت ما هذا السلام، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله، و أنت تحبلين وتلدين ابنا و تدعين اسمه يسوع، هذا يكون عظيما و ابن العلي يدعى و يعطيه الرب له كرسي داود أبيه و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء” لوقا 1 – 34.

ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى (عليه السلام) لأنه لم ينل الملك أيام دعوته و في حيوته، و لذلك أيضا ربما وجهته النصارى و تبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري.

أقول: و ليس من البعيد أن يقال: إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك، و يؤيده قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 30، 31].

وعيسى أصله يشوع، فسروه بالمخلص و هو المنجي، و في بعض الأخبار تفسيره بيعيش و هو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين هذين النبيين.

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، ويكون معروفا بهذا النعت، و أن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 91].

قوله تعالى: {وجيها في الدنيا و الآخرة ومن المقربين}، الوجاهة هي المقبولية، و كونه (عليه السلام) مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، و كذا في الآخرة بنص القرآن.

و معنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء و المقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، و قد عرف تعالى معنى التقريب بقوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} – إلى أن قال – كُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً – إلى أن قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 1، 11] ، و الآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب و هو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق: 6] ، و قال تعالى: { أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53].

وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان و صفة الأفراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهية و المقربون من الإنسان بالعمل.

وقوله وجيها في الدنيا والآخرة، حال، وكذا ما عطف عليه من قوله: ومن المقربين، ويكلم اه، ومن الصالحين، ويكلمه اه، رسولا اه.

قوله تعالى: {ويكلم الناس في المهد وكهلا}، المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، و الكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلا تاما قويا، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربما قيل: إن الكهل من بلغ أربعا و ثلاثين.

وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة أخرى لمريم.

وفي التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث و ثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه و لذا ربما قيل: إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة، و ربما قيل: إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى (عليه السلام) عاش نحوا من أربع و ستين سنة خلافا لما يظهر من الأناجيل.

والذي يظهر من سياق قوله: {في المهد و كهلا}، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة، و إنما ينتهي إلى سن الكهولة، و على هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبا والكهولة.

والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج و يمشي و هو في السنة الثانية فما دونها غالبا، و هو سن الكلام فكلام الصبي في المهد و إن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل، و بعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا، و الكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة.

على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه و كلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة، قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 27 – 31].

قوله تعالى:{ قالت رب أنى يكون لي ولد و لم يمسسني بشر}، خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بناء على ما تقدم أن خطاب الملائكة و خطاب الروح و كلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه و إن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة و لذلك خاطبت ربها و يمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: “قال رب ارجعون”: المؤمنون – 99، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

قوله سبحانه: {قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله: { قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] ، يفيد أن يكون قوله هاهنا: كذلك كلاما تاما تقديره: الأمر كذلك و معناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له.

وأما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء و أما صعوبته و مشقته فإن العسر و الصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات و الأسباب و عزت وبعد منالها اشتد الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها، و قوله: {الله يخلق ما يشاء}، رفع العجز الذي يوهمه التعجب، و قوله: {إذا قضى}، رفع لتوهم العسر و الصعوبة.

قوله تعالى: {و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل} اللام في الكتاب و الحكمة للجنس.

وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، و الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، و على هذا فعطف التوراة و الإنجيل على الكتاب و الحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر، و ليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف: 63] ، و قد مر بيانه.

وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، و أما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من ملوك بابل و كورش من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية و إن لعبت بها يد التحريف، و دلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأما الإنجيل و معناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} [آل عمران: 3، 4] ، وأما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى و مرقس و لوقا و يوحنا فهي كتب مؤلفة بعده (عليه السلام).

ويدل أيضا على أن الأحكام إنما هي في التوراة، و أن الإنجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: {مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم }الآية، و قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 46، 47] ، و لا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام الإثباتية.

و يدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالتوراة قال، تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].

قوله تعالى: و رسولا إلى بني إسرائيل، ظاهره أنه (عليه السلام) كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى (عليه السلام)، و قد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213] ، أن عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم و هم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة.

لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول و النبي أن النبوة هي منصب البعث و التبليغ، و الرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم و القضاء بالحق بين الناس، إما بالبقاء و النعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 47].

و بعبارة أخرى النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، و الرسول هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك و قبوله البقاء و السعادة كما يؤيده بل يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح و هود و صالح و شعيب و غيرهم (عليهم السلام).

وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم، و كان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم و إلى غيرهم كموسى وعيسى (عليهما السلام).

وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون، قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] ، و إيمان السحرة لموسى و ظهور قبول إيمانهم و لم يكونوا من بني إسرائيل، قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121، 122] ، و دعوة قوم فرعون، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17] ، و نظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه السلام) قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الروم و أمم عظيمة من الغربيين كالإفرنج و النمسا و البروس و إنجلترا و أمم من الشرقيين كنجران و هم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل، و القرآن لم يخص – فيما يذكر فيه النصارى – نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.

قوله تعالى: {أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين }- إلى قوله -: {و أحيي الموتى بإذن الله}، الخلق جمع أجزاء الشيء، و فيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].

والأكمه هو الذي يولد مطموس العين، و قد يقال لمن تذهب عينه قال: كمهت عيناه حتى ابيضتا، قاله الراغب، و الأبرص من كان به برص و هو مرض جلدي معروف.

و في قوله: {و أحيي الموتى} حيث علق الإحياء بالموتى و هو جمع دلالة و لا أقل من الإشعار بالكثرة و التعدد.

و كذا قوله: {بإذن الله}، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى (عليه السلام) بشيء من ذلك، وإنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام)، و لذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله: {إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.

و ظاهر قوله: {أني أخلق لكم }”الخ” أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج و التحدي، و لو كان مجرد قول لقطع العذر و إتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة، قال:{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} – إلى أن قال -: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110].

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر، و أنه احتج على الناس بذلك، و أتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك.

قوله تعالى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم}، وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى، و من خصه من رسله بالوحي، و هو آية أخرى و إخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك و الريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله و لا فيما ادخره في بيته.

وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38] ، لأن هذه الآية عبر عنها بالإنباء وهو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق و الإحياء فإنها فعل الله بالحقيقة و لا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه.

على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير و محيي الموتى بأدنى وسوسة و مغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جائز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، و كذا الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله، و خاصة إذا ألقي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون، و لذلك ذيل الكلام بقوله: {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.

قوله تعالى: {ومصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}، عطف على قوله: {ورسولا إلى بني إسرائيل}، و كون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: {ومصدقا لما بين يدي}، متكلما و في قوله:{ ورسولا إلى بني إسرائيل}، غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله: {ورسولا إلى بني إسرائيل}، بقول عيسى: أني قد جئتكم، فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.

و تصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، و هو التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام) فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة.

قوله تعالى: ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].

والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، ولذا قيل: إن الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، و قوله: ولأحل، معطوف على قوله: بآية من ربكم، و اللام للغاية، و المعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.

قوله تعالى: {وجئتكم بآية من ربكم}، الظاهر أنه لبيان أن قوله:{ فاتقوا الله و أطيعون}، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم، و يمكن أن يكون هو مراد من قال: إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها و ما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.

قوله تعالى: {إن الله ربي و ربكم فاعبدوه}، فيه قطع لعذر من اعتقد ألوهيته لتفرسه (عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله: {فيكون طيرا}، و قوله{ و أحيي الموتى}، بقوله: {بإذن الله} لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكي قول عيسى (عليه السلام): {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] ، إن ذلك كان بأمر من ربه و وحي منه.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 167-176.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

هذه الآية تبيّن حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم بأمر من الله قائلين لها إنّ الله سوف يهب لكِ ولداً اسمه المسيح عيسى بن مريم، وسيكون له مقام مرموق في الدنيا والآخرة، وهو مقرّب عند الله.

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}(2).

ولابدّ من الإشارة هنا إلى بضع مسائل :

1 ـ في هذه الآية وفي آيتين أُخريين يوصف المسيح بأنّه «الكلمة» وهو تعبير موجود في كتب العهد الجديد أيضاً.

كلام المفسّرين كثير في بيان سبب إطلاق هذه الكلمة على المسيح. إلاّ أنّ أقربها إلى الذهن هو ولادة المسيح الخارقة للعادة والتي تقع ضمن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

أو لأنّ البشارة بولادته قد جاءت في كلمة إلى أُمّه.

كما أنّ لفظة «الكلمة» وردت في القرآن بمعنى «المخلوق» : {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف: 109].

ففي هذه الآية «كلمات ربي» هي مخلوقات الله. ولمّا كان المسيح أحد مخلوقات الله العظيمة فقد سمّي بالكلمة، وهذا يتضمّن أيضاً ردّاً على الذين يقولون بالوهيّة المسيح (عليه السلام).

2 ـ «المسيح» بمعنى الماسح أو الممسوح. وإطلاقها على عيسى إما لأنّه كان يمسح بيده على المرضى الميؤوس منهم فيشفيهم بإذن الله، إذ كانت هذه الموهبة قد خصّصت له منذ البداية، ولذلك أطلق الله عليه اسم المسيح قبل ولادته.

أو لأنّ الله قد مَسح عنه الدنس والإثم وطهّره.

3 ـ يصرّح القرآن في هذه الآية بأنّ عيسى هو ابن مريم، وهو تصريح يدحض مفتريات المفترين عن الوهيّة المسيح. إذ أنّ من يولد من امرأة وتطرأ عليه جميع التحوّلات التي تطرأ على الجنين البشري والكائن المادّي لا يمكن أن يكون إلهاً، ذلك الإله المنزّه عن كلّ أنواع التغيّرات والتحوّلات.

تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى (عليه السلام) وهي تكلّمه في المهد {ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين}. فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن أُمّه تكلّم في المهد كلاماً فصيحاً أعرب فيه عن عبودّيته لله، وعن كونه نبيّاً.

ولمّا لم يكن من الممكن أن يولد نبيّ في رحم غير طاهرة، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة أُمّه.

«المهد» هو كلّ مكان يعدّ لنوم المولود حديثاً، سواء أكان متحرّكاً أم ثابتاً والظاهر من آيات سورة مريم أنه (عليه السلام) تكلّم منذ بداية تولده ممّا يستحيل على كلّ طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة، وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة. ولكن الكلام في مرحلة الكهولة(3). امر عادي. ولعلّ ذكره في الآية اعلاه مقارناً للحديث في المهد إشارة أن كلامه في المهد مثل كلامه في الكهولة والكمال لم يجانب الصواب والحقّ والحكم.

وتشير الآية كذلك إلى أنّ المسيح لا ينطق إلاَّ بالحقّ منذ ولادته حتّى كهولته، وأنّه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة.

ولعلّ إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنّبؤ بعودة المسيح إلى الدنيا، إذ أنّنا نعلم من كتب التاريخ أنّ عيسى (عليه السلام) قد رُفِع من بين الناس إلى السماء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وهذا يتّفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة المسيح في عهد الإمام المهدي (عليه السلام) ويعيش معه بين الناس ويؤيّده.

وبعد ذكر مناقب المسيح المختلفة يضيف إليها {ومن الصالحين}. ومن هذا يتّضح أنّ الصلاح من أعظم دواعي الفخر والإعتزاز، وتنضمّ تحت لوائه القيم الإنسانية الأُخرى.

{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب، وأنّ الله قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كلّ كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل. فلِكي يولد إنسان قرّر الله أن يكون ذلك عن طريق الإتّصال الجنسي، ونفوذ الحيمن في البويضة. لذلك حقّ لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها : كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتّصال جنسي مع أيّ بشر ؟ {قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}.

فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ الله يخلق ما يشاء وكيفما يشاء، فنظام الطبيعة هذا من خلق الله وهو يأتمر بأمره، والله قادر على تغيير هذا النظام وقتما يشاء، فيخلق وفق أسباب وعوامل أُخرى غير عادية ما يشاء : {كذلك الله يخلق ما يشاء}.

ثمّ لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول {إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كُن فيكون}.

إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.

بديهيّ أن لفظة «كن» تشير في الحقيقة إلى إرادة الله الحاسمة التي لايعتورها الأخذ والرد. أي أنّه ما إن يشاء أمراً ويصدر أمره بالخلق حتّى تتحقّق مشيئته في عالم الوجود.

من الجدير بالإلتفات أنّه بشأن خلق عيسى قال : «يخلق» ولكنّه بشأن خلق يحيى قبل بضع آيات قال.: «يفعل». ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير ناشىء من إختلاف طريقة خلق هذين النبيّين، فأحدهما خُلق بطريقة طبيعية، والآخر خُلق بطريقة خارقة للطبيعة. وهناك ملاحظة اُخرى وهي أنّ هذه الآيات تذكر في بدايتها محادثة الملائكة مع مريم. وهنا محادثتها مع الله عزّوجلّ، وكأنها بلغ بها الوجد والجذبة الإلهيّة أن زالت الوسائط واتّصلت مع مبدأ العزة، فأخذت تحدثه وتسمع منه مباشرة. (وطبعاً لا إشكال في تكلّم غير الأنبياء مع الله تعالى إذا لم يكن بصورة الوحي).

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

بقية امتيازات المسيح (عليه السلام) :

بعد أن ذكرت الآيات الس ابقة أربع صفات للمسيح (عليه السلام) (وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين اُخريين من صفات هذا النبي العظيم، فالأُولى تقول : (ويُعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام، ثمّ تبيّن مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة، وهما التوراة والإنجيل.

إنّ الذين يختارهم الله لقيادة الناس وهدايتهم، لا بدّ أن يكونوا في أعلى درجة من العلم والمعرفة وأن يقدّموا أسمى التعاليم والقوانين البنّاءة، ثمّ بعد ذلك عليهم أن يظهروا أدلّة واضحة على علاقتهم بالله، لتوكيد مهمّتهم. وبهذين الوسيلتين تكتمل عملية هداية الناس، وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى هذين الأمرين. ففي الأُولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية. وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة. ثمّ تبيّن الهدف من كلّ ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين {ورسولاً إلى بني إسرائيل}(4).

من الجدير بالذكر أنّ الآية تفيد أنّ رسالة عيسى كانت موجّهة إلى بني إسرائيل فقط. وهذا لا يتنافى مع كونه من أُولي العزم، لأنّ أُولي العزم هم الأنبياء الذين جاؤوا بدين جديد، حتّى وإن لم يكن عالميّ الرسالة. وقد جاء في تفسير «نور الثقلين» حديث عن إقتصار رسالة عيسى على بني إسرائيل(5).

إلاَّ أنّ بعض المفسّرين يرون إحتمال عالمية رسالة المسيح، وأنّها لم تكن محصورة ببني إسرائيل، على الرغم من أنّ بني إسرائيل كانوا على رأس الذين اُرسل إليهم لهدايتهم. يورد المرحوم العلاّمة المجلسي في «بحار الأنوار» أخباراً عن أُولي العزم من الأنبياء تؤيّد أنّها كانت رسالات عالمية(6).

ثمّ تضيف الآية {اني قد جئتكم بآية من ربكم} وليست آية واحدة، بل آيات عديدة (لأن التنوين جاء هنا لبيان عظمة هذه الآية، لا لبيان وحدتها».

ولمّا كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية، فإنّ هذه الآية ـ عند بيان معجزات السيّد المسيح (عليه السلام) ـ تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن الله، وتقول على لسان المسيح (عليه السلام) {أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله}.

إنّ قضية إحياء الموتى التدريجي بإذن الله ليست عويصة، لأنّنا نعلم أنّ جميع الكائنات الحيّة مخلوقة من التراب والماء، إلاَّ أنّ المعجزة في أن هذا الخلق الذي تحقّق على إمتداد سنوات طويلة. فما الذي يمنع من أن يكثّف الله تلك العوامل والأسباب بحيث تتمّ مراحل الخلق بسرعة فائقة، ويتحوّل الطين إلى كائن حي ؟

بديهيّ أنّ تحقّق هذا الأمر في ذلك المحيط، وفي أي محيط آخر، سند حيّ ودليل واضح على علاقة صاحب المعجزة بعالم ما وراء الطبيعة، وعلى قدرة الله اللامتناهية.

ثمّ تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها، وتقول على لسانه : {وأُبريء الأكمه والأبرص(7) وأحيي الموتى بإذن الله}. لاشكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصّة لدى علماء الطبّ في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.

بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية، فلكلّ امرىء في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئاً عنها. فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه، أو ما ادّخروه، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي : {وأُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم} وأخيراً يقول إنّ هذه كلّها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم : {إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين}.

{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }

هذه الآية جاءت على لسان المسيح (عليه السلام) ولبيان بعض اهداف النبوّة حيث يقول : جئت أُؤكّد لكم التوراة وأُثبت أُصولها ومبادئها {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة} كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم، بالنسبة لبعض الأشياء، في دين موسى بسبب عصيانكم ـ مثل منع لحم الأباعر، وبعض شحوم الحيوانات، وبعض الطيور، والأسماك ـ {ولاُحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم}.

وسوف نجد في تفسير الآية 160 من سورة النساء أنّه بسبب عناد بعض جماعات اليهود وطغيانهم حرّم الله عليهم بعض الطيّبات من النِعم : {فَبِظُلم من الَّذينَ هَادوا حرّمنا عليهم طيّبات أُحِلَّت لهم}.

إلاَّ أنّ هذه المحظورات أُحلّت لهم مرّة أُخرى ببركة ظهور المسيح (عليه السلام) هذا النبيّ العظيم.

ثمّ مرّة أُخرى تتكرّر الجملة التي قرأنا على لسان المسيح في الآية السابقة : {وجئتكم بآية من ربّكم فاتّقوا الله وأطيعون}.

وفي الآية الثانية تؤكد على لسان السيد المسيح (عليه السلام) عبودية المسيح لرفع كلّ إبهام وريب قد ينشأ من كيفية ولادته التي قد يتشبث بها البعض لإثبات الوهيته وتقول : {ان الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} يتّضح من هذه الآية ومن آيات أُخرى أنّ السيّد المسيح، لكي يزيل كلّ إبهام وخطأ فيما يتعلّق بولادته الخارقة للعادة، ولكي لا يتّخذونها ذريعة لتأليهه، كثيراً ما يكرّر القول {إنّ الله ربّي وربّكم} و {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] ، بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل «الأب» في كلامه عن الله. إنّ القرآن يذكر «الرب» بدلاً من ذلك : {إنّ الله ربّي وربّكم}. وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي بالوهيّته. بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس {فاعبُدوه} أي اعبدوا الله ولا تعبُدوني.

ولذلك نجد أنه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيّد المسيح (عليه السلام)أن يدعي الوهيته أو أنه أحد الإلهة، وحتّى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك، إلاَّ أن التثليث باعتراف أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد (وسيأتي تفصيل ذلك في ذيل الآية 171 من سورة النساء).

____________________

1ـ الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص277-288.

2- الجدير بالذكر ان الضمير في (اسمه)يعود الى (كلمة) والحال جاء الضمير بشكل مذكر نظرا الى المعنى والمصداق هو المسيح عليه السلام .

3 ـ «الكهولة» هي متوسط العمر، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتّى الحادية والخمسين، وما قبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

4-وقعت الجملة اعلاه في تقدير فعل مثل (يجعله) وهنا احتمالات اخرى في هذا المجال ايضا .

5 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 343.

6 ـ بحار الأنوار : ج 11 ص 32 الطبعة الجديدة، واصول الكافي ،ج1 ،ص 175-224.

7 ـ «اكمه» قيل أنه يعني أعمى، وذهب بعض إلى أنه العشو الليلي، ولكن اغلب المفسّرين وأرباب اللغة ذهبوا إلى أنه يعني الأعمى منذ الولادة. وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأن المراد هو عدم وجود أصل العين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى