من خصائص مفهوم الرزق
يمكن بيان مفهوم الرّزق في نطاقه الواسع، كما يلي:
1- الرزق عطاءٌ من الله تعالى ورحمةٌ منه لخلقه، وهو- مثل الرحمة – على قسمين، هما:
أ- رزقٌ عامٌّ، وهو: عطاءٌ ربّانيٌّ يشمل جميع المخلوقات في الحياة الدنيا، سواءٌ أكانوا مؤمنين أم كافرين، تُقاةً أم فجرةً، بشراً أم غير بشرٍ.
ب – رزقٌ خاصٌّ، وهو: الواقع في مجرى الحِلِّ[1].
2- الرزق: هو ما ينتفع به المرزوق، فلو جمع العبد أموالاً طائلةً، فإنّ رزقه الحقيقيّ هو ما يستهلكه من هذه الأموال، وما فضل عن ذلك ليس رزقاً له.
إذن، سعة الرزق وضيقه لا صلة لهما بكثرة المال أو قلّته، فما أكثر الذين يملكون ثرواتٍ عظيمةً، ولكنّهم لا يستهلكون منها سوى القليل، وما أكثر الذين لا يملكون سوى القليل من المال، ولكنّهم يبذلونها في معيشتهم دون ادّخار شيءٍ منها.
3- ليس لأحدٍ حقٌّ على الله تعالى، إلا ما فرضه تعالى لعباده على نفسه. وقد أشار عزّ وجلّ إلى هذا الأمر بقوله: ﴿وَما مِنْ دابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُه﴾[2]، ولا ريب في أنّ أحداً لم يفرض وجوب رزق العباد على الله تعالى، وإنّما بعزّته وجلاله كتب على نفسه رزق كلّ مخلوقٍ خَلَقَه.
لذا، فالرزق حقّ على الله تعالى، بمعنى أنّه حقٌّ مجعولٌ من قِبَله، وعطيّةٌ منه من غير استحقاقٍ للمرزوق من جهة نفسه، بل من جهة ما جعله على نفسه من الحقّ.
ومن هنا، يظهر أن ليس للإنسان المرتزق بالمحرّمات، رزق مقدّر من الحلال بنظر التّشريع، فإنّ ساحته تعالى منزّهةٌ من أن يجعل رزق إنسانٍ حقّاً ثابتاً على نفسه، ثمّ يرزقه من وجه الحرام، ثمّ ينهاه عن التصرّف فيه ويعاقبه عليه[3].
ولا ضير في أن يثبُتَ عليه تعالى حقٌّ لغيره، إذا كان تعالى هو الجاعل المُوجِب لذلك على نفسه، من غير أن يداخل فيه غيره، ولذلك نظائرُ في كلامه تعالى، كما قال: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾[4]، وقال: ﴿وَكانَ حَقَّاً عَلَيْنا نَصْرُ المْـُؤمِنِينَ﴾[5]، إلى غير ذلك من الآيات. كما أنّ العقل يؤيّد ذلك، فالرزق هو ما يُدِيم بهِ المخلوق الحيّ وجودَه، وبما أنّ وجوده من فيض جوده تعالى، فما يتوقّف عليه من الرزق يكون من قِبله، وإذ لا شريك له تعالى في إيجاده، فلا شريك له في ما يتوقّف عليه وجوده، ومنه: الرزق[6].
4- قوله تعالى: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾[7]: توصيف الرزق بكونه بغير حسابٍ، إنّما هو لكون الرّزق من الله تعالى بالنّظر إلى حال المرزوقين، بلا عوضٍ، ولا استحقاقٍ، لكون ما عندهم من استدعاءٍ، أو طلبٍ، أو غير ذلك، مملوكاً له تعالى ملكاً حقيقياً محضاً، لا يقابل عطيَّته منهم شيءٌ، فلا حساب لرزقه تعالى. وأمّا كون نفي الحساب راجعاً إلى التّقدير، بمعنى: كونه غير محدودٍ ولا مقدّرٍ، فيدفعه المفهوم من آيات القدر، كقوله تعالى: ﴿إِنّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقناهُ بِقَدَرٍ﴾[8]، فالرزق منه تعالى عطيّةٌ بلا عوضٍ، لكنّه مقدّرٌ على ما يريده تعالى[9].
5- مقدار الرزق بيد الله سبحانه وتعالى[10]: وهذا لا يعني – فقط – أنّ الرزق – في زيادته ونقصانه – بيد الله عزّ وجل، بل نستفيد من آيات أُخر أنّ الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء، وينقصه عمّن يشاء. ولكن ليس كما يعتقده بعض الناس، من عدم الكسب، والجلوس في زاوية البيت، حتّى يبعث الله لهم الرزق، بل معيار الرزق يكون على أساس المصالح التي يراها الله ضروريّةً، لابتلاء عباده ونظام معيشتهم، فما أكثر من ذهب ضحيّةً لثروته وأمواله الطائلة من دون أن يرى راحةً في حياته.
إنّ هؤلاء الذين يُعتبر تفكيرهم السَّلبي ذريعةً لمن يقول: “إنّ الدين أفيون الشّعوب”، قد غفلوا عن نقطتين أساسيّتين، هما:
أ- إنّ المشيئة الإلهيّة التي أشارت إليها الآيات القرآنيّة ليست مسألةً اعتباطيّةً وغير محسوبةٍ، بل هي غير منفصلةٍ عن حكمته جلَّ وعلا، وللاستعداد والتّوفيق دورٌ محوري فيها.
ب- إنّ المشيئة الإلهيّة لا تعني نفي الأسباب، لأنّ عالم الأسباب هو عالم الوجود، وهذه العوالم وُجِدَت بإرادة الله، وهي غير منفصلةٍ عن المشيئة التشريعيّة. وبعبارةٍ أُخرى: إنّ إرادة الله في مجال بسط الرزق وضيقه، مشروطةٌ بظروفٍ تتحكّم بحياة الناس، كالسعي، والإخلاص، والإيثار. وبعكس ذلك: الكسل، والبخل، وسوء النيّة. لذلك نرى القرآن الكريم يشير مراراً إلى أنّ الإنسان رهينٌ بسعيه، وإرادته، وعمله، وما يستفيده من حياته إنّما هو بمقدار هذا السعي والاجتهاد[11].
6- إنّ القرآن الكريم في سياق توجيهه نحو المستقبل الاقتصاديّ للمجتمع بشّر النّاس بحياةٍ هنيئةٍ ورغيدةٍ، على العكس من نظريّات بعض علماء الاقتصاد المتشائمين، فهؤلاء يعتقدون أنّ مستقبل البشريّة الاقتصاديّ مبهمٌ ولا وضوح لمعالمه، إذ بازدياد الكثافة السكّانيّة، ونقص الإمكانيّات الموجودة لدى البشر، سوف ينحدر المجتمع نحو الفقر، ومن ثمّ يضمحلّ.
ولكنّ هؤلاء غفلوا عن المفاهيم السامية التي أكّد عليها القرآن الكريم، في أنّ نِعَم الله تعالى لا حدود لها، وبركات خزائنه لا تنفد، وأنّه كرّم البشر بمصادر طبيعيّةٍ جمّةٍ تكفيهم مهما زاد عددهم. كما أنّهم غضّوا الطرف عن أنّ الله تعالى قد تكفّل برزق خَلْقِه كافّةً، سواءٌ أكانوا بشراً أم غير بشر، لذا جعل القرآن الكريم رجاءَ الرزق من الله تعالى بديلاً عن الخوف من الفقر[12].
وهذا الرزق ملحوظٌ بحيث يناسب حال الموجودات، من حيث الكمّيّة، والكيفيّة، وهو مطابقٌ تماماً لمقدار الحاجة والرغبة، فغذاء الجنين الذي في رحم أُمّه – على سبيل المثال – يتفاوت كلّ شهرٍ عن الشهر السابق في النوعيّة والكمّيّة، بل كلّ يومٍ عن اليوم السابق، على الرغم ممّا يبدو من أنّ الدّم نوعٌ واحدٌ لا أكثر[13].
7- يستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ هُو الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[14] – ولا سيما بلحاظ أنّ المقام مقام الحصر -، ما يلي:
أ- إنَّ الرزق في الحقيقة لا يُنسب إلا إلى الله تعالى، وهو الرازق لا غير، ونسبة الرزق إلى غيره، تعني نسبة عمله تعالى إلى غيره، قال تعالى: ﴿وَاللهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾[15].
ب- إنّ كلّ ما ينتفع به الإنسان انتفاعاً محرّماً، لا يكون رزقاً من الله تعالى، لأنّه تعالى نفى نسبة المعصية إليه، إذ قال: ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾،[16] وقال: ﴿يَنْهَى عَنْ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[17]، فليس من الممكن نسبة أسباب المعاصي إليه تعالى، لأنّه لم ينسبَ معاصي العباد إلى نفسه، ونفى تشريع كلّ عملٍ قبيحٍ عن ذاته المقدّسة، وحاشاه سبحانه أن ينهى عن شيءٍ، ثمّ يأمر به، أو ينهى عنه، ثمّ يحصر رزقه فيه.
ولا منافاة بين عدم كون نفعٍ محرّمٍ رزقاً بحسب التشريع، وكونه رزقاً بحسب التكوين، إذ لا تكليف في التكوين حتّى يستتبع ذلك قبحاً، وما بيّنه القرآن من عموم الرزق، إنّما هو بحسب حال التكوين، وليس البيان الإلهي بموقوفٍ على الأفهام الساذجة العامّيّة، حتّى يضرب صفحاً عن التعرّض للمعارف الحقيقيّة، وفي القرآن شفاءٌ لجميع القلوب. قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنْ القُرْآنِ ما هُو شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إِلا خَسار﴾[18].
على أنّ الآيات التي تنسب المُلْك الذي وُهِبَ لأمثال: نمرود، وفرعون، والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون، إلى إيتاء الله سبحانه، فيُراد بها: أنّ ذلك كلّه بإذن الله، بحيث آتاهم ذلك، امتحاناً منه لهم، وإتماماً للحجّة عليهم، وخذلاناً واستدراجاً لهم، ونحو ذلك.
وهذه كلّها نِسَبٌ تشريعيّةٌ، وإذا صحّت النسبة التشريعيّة – من غير محذورِ لزومِ القبح -، فصحّة النسبة التكوينيّة – التي لا مجال للحسن والقبح العقلائييّن – فيها أوضح.
إذن، جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير – وكلّه خيرٌ يُنتَفع به – هو رزق بحسب انطباق المعنى، إذ ليس الرزق إلا العطيّة التي ينتفع بها المرزوق[19].
8- تحدّثت الآيات والرّوايات عن تقدير الرزق، وهي في الواقع بمثابة الكابح للحريصين وعبّاد الدنيا الذين يَلجون كلّ بابٍ، ويرتكبون أنواع الظلم والجنايات، ويتصوّرون أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمّنوا حياتهم! غافلين عن أنّ الآيات والروايات تحذّر هذا النمط من الناس ألّا يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً، وألّا يطلبوا الرزق من طُرقٍ غير مشروعةٍ ولا معقولةٍ، بل يكفي لهم أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريقٍ مشروعٍ، والله سبحانه يضمن لهم الرزق، فالله تعالى لم يُهمِلهم حتّى في ظلمة الرحم[20].
9- خلق الله تعالى جميع المخلوقات، وأوجب على نفسه رزقها، وهذا دليلٌ على وجود صلةٍ بين الخالق ورِزق المخلوق. فلو عُدِمَ الرزق، لعُدِمَ الخَلْق، وفي الوقت نفسه لو عُدِمَ الخَلْق، لما وُجِدَ الرزق. والله تعالى هو الذي أبدع بني البشر، وأسكنهم الأرض، وجعلهم بحاجةٍ إلى الرزق، وهذا الرزق ليس محض المأكل والمشرب، وما يُحتَاج إليه من أمور مادّيّةٍ، بل يشمل الفِكْر، والتعقّل، والقدرة على العمل، وطلب العلم، والشعور بالمسؤوليّة.
إذن، رازقيّة الله تعالى لا تعني مجرّد السعي والتفكير في كسب الرزق، والدفاع عن الحقوق الشخصيّة. فالمخلوق، ورزقه، وقدرته على كسبه، وتعقّله في ذلك، وتديّنه بشريعةٍ تسدّده إلى الحلال من الرزق، كلّها أمورٌ تعكس رازقيّة الله تعالى.
لذا، يجب على الإنسان أن يسلك أفضل طُرُق كسب الرزق وأنقاها، وأن يتوكّل على الله عزّ وجلّ الذي سدّده لسلوك هذا الطريق الأمثل[21].
فن التدبير في المعيشة – رؤية قرآنية روائية – ، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص140.
[2] هود: 6.
[3] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص140.
[4] الأنعام: 12.
[5] الروم: 47.
[6] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج10، ص149.
[7] آل عمران: 27.
[8] القمر: 49.
[9] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص141.
[10] الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج7، ص398.
[11] انظر: الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج7، ص402.
[12] رجائي، محمد كاظم، وآخرون: المعجم الموضوعيّ للآيات الاقتصاديّة في القرآن(معجم موضوعى آيات اقتصادى قرآن)، ط1، قم المقدّسة، 1382هـ..ش، ص71.
[13] الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج6، ص463-464.
[14] الذاريات: 58.
[15] الجمعة: 11.
[16] الأعراف: 28.
[17] النحل: 90.
[18] الإسراء: 82.
[19] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج3، ص139.
[20] الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، م.س، ج6، ص468.
[21] مطهّري، مرتضى: عشرون كلمة(بيست كفتار)، ط5، لام، منشورات صدرا، 1358هـ.ش، ص136.