من هم أولو الامر
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
لقد كثر الكلام والنقاش حول المراد من أولي الأمر ، وما يعتبر فيهم من صفات ، كما تشبث بها الحكام الأدعياء على وجوب إطاعتهم ، أو السكوت عنهم –
على الأقل – وأيضا استدل بها جماعة من الفقهاء على أن مصادر الشريعة وأصولها تنحصر بأربعة ، وهي : كتاب اللَّه لقوله تعالى : {أَطِيعُوا اللَّهَ} . والسنة النبوية لقوله : {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. والإجماع لقوله : {وأولي الأمر منكم} . والقياس لقوله :
{فان تنازعتم في شيء فردوه إلى اللَّه والرسول} ، حيث زعموا ان المعنى قيسوا ما لا نص فيه على نظيره الذي فيه نص من الكتاب والسنة ، ويأتي البيان عن ذلك ، ولا خلاف في ان الكتاب والسنة هما الأصلان الأساسيان للتشريع ، أما الإجماع والقياس فقد اختلفوا في حجيتهما ، وفي دلالة الآية عليهما . وفيما يلي نعرض الجهات التي تضمنتها الآية ، والآراء التي قبلت حولها .
1 – لا يختلف اثنان من المسلمين في أن إطاعة اللَّه والرسول انما تكون بالعمل بكتاب اللَّه وسنة نبيه ، وانهما وسيلتان للتعبير عن شيء واحد ، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم: 3، 4]. ومن هنا اتفق المسلمون قولا واحدا على رفض كل ما ينسب إلى النبي « صلى الله عليه واله » إذا تنافى مع مبدأ من مبادئ القرآن وحكم من أحكامه .
وتسأل : لما ذا كرر لفظ الإطاعة عند ذكر الرسول ، ولم يكررها عند ذكر أولي الأمر ؟ .
الجواب : للتنبيه على ان إطاعة الرسول أصل بذاته ، تماما كإطاعة اللَّه ، ومن هنا كان قول كل منهما مصدرا من مصادر الشريعة ، وليس كذلك إطاعة أولي الأمر . . انها فرع وتبع لإطاعة اللَّه والرسول ، ان اولي الأمر رواة عن الرسول .
2 – ان لفظ منكم يدل بوضوح على ان حاكم المسلمين يجب أن يكون منهم ، ولا يجوز إطلاقا ان يكون من غيرهم ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
3 – اختلفوا في المراد من أولي الأمر بعد اتفاقهم على شرط الإسلام ، فمن قائل : انهم الخلفاء الراشدون . وقائل : انهم قادة الجيش . وقال ثالث : هم علماء الدين . وقال الشيخ محمد عبده : هم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند ، وسائر الزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح ، فإذا اتفق هؤلاء على أمر وجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا أمناء وألا يخالفوا أمر اللَّه ، ولا سنة رسوله ، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه .
وقال الشيعة الإمامية : ان اللَّه سبحانه عطف بالواو إطاعة أولي الأمر على إطاعة الرسول بدون قيد ، والعطف بالواو يقتضي الجمع والمشاركة في الحكم ، ومعنى هذا ان إطاعة أولي الأمر هي إطاعة الرسول ، وان أمرهم هو أمره . .
وليس من شك ان هذه المرتبة السامية لا تكون الا لمن اتصف بما يؤهله لهذا الطاعة ، ولا شيء يؤهله لها الا العصمة عن الخطأ والمعصية ، فهي وحدها التي تجعل طاعته وطاعة الرسول سواء ، وقد اعترف الرازي بفكرة العصمة صراحة ، وقال : ان أولي الأمر الذين تجب إطاعتهم لا بد أن يكونوا معصومين ، والرازي – كما هو معروف – من كبار علماء السنة وفلاسفتهم ومفسريهم ، وهذا ما قاله بالحرف :
« اعلم ان قوله ( أولي الأمر ) يدل عندنا على ان اجماع الأمة حجة ، والدليل على ذلك ان اللَّه تعالى أمر بالطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللَّه بطاعته لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ ، كان بتقدير اقدامه على الخطأ مع ان اللَّه قد أمر بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل الخطأ ، مع العلم بأن متابعة المخطئ منهي عنها . .
فثبت ان المقصود من أولي الأمر المذكورين في الآية لا بد أن يكون معصوما » .
وهذا عين ما قاله الشيعة في تفسير هذه الآية ، والخلاف بينهم وبين السنة في التطبيق وتعيين المعصوم ، فالسنة يقولون : العصمة للأمة ، وفسروا الأمة بأهل الحل والعقد ، وقال كثير منهم : يكفي بعض أهل الحل والعقد . . وقال الشيعة : ان المراد بأولي الأمر أهل البيت ، وهم المعصومون والمطهرون من الرجس والدنس ، ففكرة العصمة – إذن – ليست خاصة بالشيعة ، ولم يتفردوا بالقول بها ، بل هي عند السنة ، كما هي عند الشيعة ، والفرق انما هو في التطبيق وتعيين المعصوم ، كما قلنا ، فالحملة على الشيعة من أجل القول بالعصمة ، دون غيرهم ، لا مبرر لها الا التعصب ، وبث روح الشقاق والتفرقة .
واستدل الشيعة على عصمة أهل البيت بأن العصمة منحة إلهية يختص اللَّه بها
من ارتضى من عباده ، ومحال أن تحصل العصمة بالاكتساب ، مهما اجتهد الإنسان ، وجاهد ، كما هو شأن سائر الصفات ، كالعدالة والايمان ، وما إليهما . وعليه ينحصر الطريق إلى معرفة العصمة بالوحي فقط ، وقد ثبت النص كتابا وسنة على عصمة أهل البيت ( عليه السلام ) ، من ذلك قوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33].
ومن ذلك قول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) : « من أطاعني فقد أطاع اللَّه ، ومن عصاني فقد عصى اللَّه ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني » . رواه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح ، وصححه أيضا الذهبي في تلخيص المستدرك ، وفي الكتاب المذكور قال النبي « صلى الله عليه واله » : علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لن يفترقا ، حتى يردا علي الحوض . وروى الترمذي في مسنده والحاكم في مستدركه وابن حجر في صواعقه عن الرسول الأعظم « صلى الله عليه واله » انه قال : اللهم أدر الحق مع علي كيف دار . وأيضا روى الإمام ابن حنبل والترمذي والحاكم وابن حجر قوله « صلى الله عليه واله » : اني قد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي الثقلين : كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ، واشتهر عن النبي « صلى الله عليه واله »: انما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا .
إلى عشرات الأحاديث ، وكلها مدوّنة في كتب السنة وصحاحهم ، ومروية بأسانيدهم ، وقد جمعها ووضع لها علماء الشيعة مؤلفات خاصة في القديم والحديث ، فمن القديم كتاب الشافي للشريف المرتضى ، وتلخيصه للشيخ الطوسي ، ونهج الحق للعلامة الحلي ، ومن الحديث المجلد الثالث من أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ودلائل الصدق للشيخ المظفر ، والمراجعات لشرف الدين .
وبالإجمال ان الشيعة والسنة يؤمنون معا بالعصمة كمبدأ (1) وأيضا يتفق الشيعة
وأكثر السنة ، أو الكثير منهم على ان أولي المذكورين في الآية معصومون ، وأيضا يتفقون على ان الدليل على عصمتهم ان اللَّه أوجب إطاعتهم ، تماما كما أوجب إطاعة اللَّه والرسول ، ولكن السنة والشيعة يختلفون في المراد من أولي الأمر المعصومين : هل هم أهل الحل والعقد ، أو هم أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟ .
قال السنة : هم أهل الحل والعقد . وقال الشيعة : هم أهل البيت ، لأن العصمة منحة إلهية لا تعرف الا بالنص من اللَّه والرسول ، وقد ثبت النص عنهما على عصمة أهل البيت ، إذن يكون المراد بأولي الأمر أهل البيت دون غيرهم ، وبتعبير ثان ان أولي الأمر في الآية معصومون لوجوب إطاعتهم ، لأن من وجبت إطاعته فهو معصوم . . وأيضا ثبتت عصمة أهل البيت بالنص ، ولم تثبت عصمة غيرهم ، ومن ثبتت عصمته فهو واجب الطاعة ، فالنتيجة الحتمية ان أولي الأمر هم أهل البيت ، وان أهل البيت هم أولو الأمر دون غيرهم . . ومثل ذلك أن يقول لك قائل : استمع للناصح الأمين ، ولا ناصح أمين الا زيد ، فالنتيجة استمع لزيد .
ومما استدل به الشيعة على عدم جواز الرجوع إلى أهل الحل والعقد في الأمور الدينية – قوله تعالى : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
وقوله : {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. وقوله : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78] . ومعنى هذا ان الحق لا يعرف بالناس قلَّوا أو كثروا ، وانما تعرف الناس بالحق الذي يؤخذ من كتاب اللَّه ، وسنة نبيه ، وحكم العقل البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان .
– على الهامش – أرسم هذه الكلمات في شهر آذار سنة 1968 والانتخابات لمجلس النواب بلبنان
قائمة على قدم وساق ، والأكثرية تزدحم على صناديق الاقتراع ، لتنتخب من دفع لها سلفا ثمن الأصوات بعد المزايدة ، أو وعد أصحابها بتلبية أغراضهم وأهوائهم . وسلام على من وصف بعض الانتخابات بقوله : « فصغى رجل لضغنه – أي مال مع حقده – ومال آخر لصهره ، مع هن وهن » كناية عن أشياء يكره ذكرها . وقال في مناسبة ثانية : « همج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق » .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ان فكرة العصمة لا تختص بالشيعة ولا بالسنة ، فالمسيحيون قالوا بعصمة البابا ، والشيوعيون بعصمة ماركس ولينين ، والصينيون بعصمة ماوتسي تونغ ، والاخوان المسلمون بعصمة حسن البنا ، والقوميون السوريون بعصمة أنطون سعادة ، وهكذا كل حزب يقول بعصمة رئيسه ومؤسسه وواضع مبادئه .
وقد تكلمنا عن العصمة مفصلا عند تفسير الآية 124 من سورة البقرة ، فقرة الإمامة وفكرة العصمة ، ص 196 من المجلد الأول .