نظرية العلاقة بين النصّ والسياق في ميدان النقد والبلاغة
لاحظ البلاغيّون منذ القديم ظاهرة السياق من خلال مقولتهم الدقيقة ” لكلّ مقام مقال ” ، فانطلقوا في مباحثهم من فكرة ربط الصياغة بالسياق ، وأصبح مقياس الكلام في باب الحسن والقبول بحسب مناسبة الكلام لما يليق به ، أي (مقتضى الحال) .” فإن كان مقتضى الحال إطلاق الحكم فحسن الكلام تجريده من مؤكّدات الحكم ، وإن كان مقتضى الحال بخلاف ذلك فحسن الحكم تحلّيه بشيء من ذلك بحسب المقتضى ضعفا وقوّة ، وإن كان مقتضى الحال طيّ ذكر المسند إليه فحسن الكلام تركه ، وإن كان المقتضى إثباته على وجه من الوجوه ، فحسن الكلام وروده عاريا عن ذكره ، وإن كان المقتضى إثباته مخصّصا بشيء من التخصيصات فحسن الكلام نظمه على الوجوه المناسبة ، من الاعتبارات المقدّم ذكرها ، وكذا إن كان المقتضى عند انتظام الجملة مع أخرى فصلها أووصلها ، أوالإيجاز معها أوالإطناب فحسن الكلام تأليفه مطابقا لذلك” «1».
إنّ السكّاكي قد جمع في هذه العبارات مقتضيات الأحوال أوالسياقات التي ترد فيها أنواع الصياغة بما تحويه من خواص تركيبيّة في الجملة. وقريب من هذا ما قاله القزويني في الإيضاح ؛ ” بلاغة الكلام هي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ، ومقتضى الحال مختلف ، ومقامات الكلام متفاوتة ، فمقام التنكير مباين لمقام التعريف ، ومقام الإطلاق مباين لمقام التقييد ، ومقام التقديم مباين لمقام التأخير ، ومقام الذكر مباين لمقام الحذف ، ومقام الوصل لمقام الفصل … وكذا خطاب الذكيّ مباين لخطاب الغبيّ “ «2».
ويكشف نصّ القزويني عن علاقة النصّ بسياق الظرف وطبيعة الأحداث المرافقة للحدث الكلامي ، وكذلك علاقة السياق بطرائق الكلام ، وأسلوب الحديث ، كما يكشف عن علاقة المستوى العقلي للمتكلّم بطبيعة الخطاب ، ومستواه العقلي كذلك. وفكرتا الحال والمقام في مفهوم البلاغيّين مرتبطتان بالبعد الزماني والمكاني للكلام ، وذلك أنّ الأمر الذي يدعوالمتكلّم إلى تقديم صياغته على وجه معيّن ، إمّا أن يتّصل بزمن هذه الصياغة فيسمّى (الحال) وإما أن يتّصل بمحلّها فيسمّى (المقام) ، ومن هنا ارتبطت فكرة الحال والمقام بالمقال ، واختلاف صور هذا المقال يعود بالضرورة إلى اختلاف الحال والمقام ، وتمتدّ فكرة المقام إلى علاقة المجاورة التي تكون بين كلمتين متتابعتين فقالوا :
(إنّ لكل كلمة مع صاحبتها مقاما) ، ويمكن ملاحظة تقارب مفهوم المقام عند البلاغيّين مع مفهوم العلاقات السياقيّة عند (دي سوسير) «3» ، من خلال ما ذكره ابن الأثير في باب الصناعة اللفظيّة ، متدرّجا من هذا الإطار الضيّق للعلاقات السياقيّة إلى الإطار الواسع لمفهوم السياق المتّصل بالمقام ؛ فصاحب الصناعة اللفظيّة يحتاج في تأليفه إلى ثلاثة أشياء ؛ أوّلها : ” اختيار الألفاظ المفردة ، وحكم ذلك حكم اللآلئ المبدّدة فإنّها تتخيّر وتنتقى قبل النظم وثانيها : نظم كلّ كلمة مع أختها المشاكلة لها لئلّا يجيء الكلام قلقا نافرا عن مواضعه ، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كلّ لؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها.
والثالث : الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه ، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم ، فتارة يجعل إكليلا على الرأس ، وتارة يجعل قلادة في العنق ، وتارة يجعل شنفا في الأذن ، ولكلّ موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصّه” «4».
وهذا نصّ يؤكد إدراك هذا البلاغي لمفهوم الامتداد الخطّي لسلسلة الكلام وأهميّة التوافق الذي يجب أن يتوافر بين عناصره ، ومن ثمّ التوافق مع السياق المحيط به والذي أسماه (الموضع) أو(الغرض)؛ فتشكيلة الكلام تتّفق مع الحدث الذي أنتج هذا الكلام. كما أنكر ابن الأثير ما كان ذهب إليه الجمهور من أهل النظر البلاغي من أنّ البيت الشعري يجب أن يكون مستقلا عن غيره من الأبيات ، وأنكر عدم جواز ما يعرف بالتضمين في البيت الشعري. ورأى أنّ علاقة البيت بالبيت كعلاقة الفقرة بالفقرة ، ويشبّه القصيدة بأنّها كالسبيكة الواحدة «5». إنّ هذه الوحدة العضويّة تعين القارئ على التفاعل مع النصّ ، وهذا التفاعل يعينه على الوقوف على مزايا النصّ ، وتنظيمه الداخلي.
ويمكن تدقيق الرؤية العربيّة القديمة لمفهوم العلاقات السياقيّة بنقلها من مستوى اللّغة إلى مستوى الأداء الفنيّ من خلال دراسة ابن سنان الخفاجي للحروف والأصوات ، وربطها بالنواحي الدلاليّة والبلاغيّة ، حيث يذكر في مقدّمة كتابه (سرّ الفصاحة) نبذا من أحكام الأصوات وحقيقتها ، وتقطيع هذه الأصوات بحيث تصير حروفا متميّزة ، وأحوال مخارجها وكيفيّة تحوّلها إلى كلام منتظم «6». كما يذكر الخفاجي أنّ كلّ صناعة كمالها بخمسة أشياء. الموضوع وهوالخشب في صناعة النّجارة ، والصانع وهوالنّجار ، والصورة وهي التربيع المخصوص ، والآلة مثل المنشار والقدوم وما يجري مجراهما ، والغرض وهوأن يقصد على هذا المثال الجلوس فوق ما يصنعه- إن كان كرسيّا- وإذا كان الأمر على هذا ، ولا يمكن المنازعة فيه ، وكان تأليف الكلام المخصوص صناعة وجب أن نعتبر فيها هذه الأقسام” «7».
والموضوع عنده في صناعة الكلام هوالكلام المؤلّف من الأصوات ، والصانع هوالكاتب الذي ينظم الكلام ، وأمّا الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر ، وأمّا الآلة فهي طبع الناظم والعلوم التي اكتسبها ، وأمّا الغرض فبحسب الكلام المؤلّف إن كان مدحا ، وإن كان هجوا.
إنّ دراسة ابن سنان هذه تقدّم لنا صورة عن طبيعة العمليّة الإبداعية ، وأنّها ليست عفويّة ، بل إنّها اختيار منظّم يرتبط بالسّياق اللغوي الداخلي للنصّ ، ويتدرّج معه حتّى ينتظم ضمن سياق عام أومقام ، كما أنّ الأسلوب عند ابن سنان يرتبط بهذا السياق ، فالسياق هوالذي يحدّد الأسلوب ، ويستحسن هذا الأسلوب بقدر ما يتّفق مع السياق” فإنّ لكلّ مقام مقالا ، ولكلّ غرض فنا ، وأسلوبا” «8» ، كما يقول ابن سنان.
وعناصر السّياق التي يتعرّض لها البلاغيّون والنقّاد هي الغرض أوالهدف ، وطبيعة الموضوع ، والمخاطب؛ فطبيعة الرسالة اللغويّة تتغيّر بتغيّر هذه العناصر ، بما فيها الرسالة الإبداعيّة. ويعبّر ابن قتيبة عن هذا بقوله : ” فالخطيب من العرب إذا ارتجل كلاما في نكاح ، أوحمالة ، أوتخصيص ، أوصلح ، أوما أشبه ذلك لم يأت به من واد واحد ، بل يفتنّ فيختصر تارة إرادة التخفيف ، ويطيل تارة إرادة الإفهام ، ويكرّر تارة إرادة التوكيد ، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين ، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين ، ويشير إلى الشيء ويكنّى عنه ، وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال وكثرة الحشد وجلالة المقام “ «9». وممّا لفتني حقا أنّه أتبع هذه العبارة الجامعة قولة تضيء بعض ما نحن بصدده من تحليل سورة البقرة ، وهي أنّ ” من فهم مذاهب العرب في ذلك ، وكثر نظره في افتنانها في الأساليب ، عرف فضل القرآن “ «10».
أي أنّ اتّساق الكلام مع غرضه ، ومع حال المتكلّم وحال السامع وعنايته بالأسلوب من أجل إيصال الرسالة اللّغويّة قول ينطبق على كلّ رسالة لغويّة ، ومن هذا الوجه يعرف فضل (القرآن الكريم) باعتباره يمثّل الذروة في الاتّساق والإبلاغ والبيان ، والمخاطب هومحور عملية الإبلاغ في هذه الرسالة الإلهيّة ولذلك فقد توافر لهذا النّص القرآني كل عناصر الاتساق التي تؤدّي إلى تمام الإبلاغ.
وأمّا (السياق الحالي) فقد كان له حظّ وافر في دراسات البلاغيّين العرب القدامى ، فقد تنبّهوا إلى أثره في جعل الوحدات الكلاميّة أكثر غنى ، وثراء ووضوحا ، لدى السامع ، ولعلّ الجاحظ أوّل من حاول تصنيف صور الدلالة فجعلها خمسا لا تزيد ولا تنقص ، وهي اللّفظ والإشارة ، والعقد (الحساب) والخطّ ، ثمّ الحال التي سمّاها نصبة ، والنصبة هي الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف ، ولا تقصّر عن تلك الدلالات ، ويقصد الجاحظ بالإشارة عمل اليد والرأس ، والعين ، والحاجب ، والمنكب وغير ذلك ممّا يصحب الكلام من حركات ، ولولا هذه الإشارة في رأيه لما تفهّم النّاس معنى خاص الخاصّ «11».
وقد جمع الجاحظ في هذا عددا من القوى الكلاميّة وعدّها دلالات ناطقة ، فهي جزء لا يتجزّأ من الحدث الكلامي ، ودورها معروف في الإبانة عن دلالته وتقويته ، وأما النصبة وهي الحال الناطقة من غير لفظ ، والمشيرة بغير يد ، فالأشياء هنا تقوم مقام الكلمات في الإبانة عن ذواتها ، وهوتعبير دقيق لسياق الحال بكلّ تفاصيله وأثره في تدقيق الوصف للحدث الكلامي ، ولنا أن نتخيّل مثلا مسرحا لمعركة دامية بكلّ تفاصيلها ، إنّ آلاف المجلّدات لا يمكن أن تعدل بضعة مشاهد حيّة لهذا المسرح ، أومكانا قد أتت عليه الزلازل ، أوحادث تصادم بين عدد كبير من الحافلات .. وغيرها. ويتنبّه الجاحظ إلى الأثر السلبي الذي يتركه انتزاع الكلم من سياقه ، وبخاصّة إذا كان الأمر في النوادر من كلام الأعراب ، ” فأي تغيير يجريه الناقل في الإعراب أوفي مخارج الألفاظ يفسدها ويبدّد ما كان فيها من المؤانسة والإمتاع” «12».
ويقف السكّاكي عند أثر (المقام) في صياغة الحدث الكلامي حين يثير موضوع (الزيادة)؛ فالزيادة كما يقول لها مقامات تستمدّ قوامها من مناسباتها ، بحيث تصادف موقعها المحمود ، فزيادة (لك) في قول الخضر لموسى عليه السلام في الكرّة الثانية (أ لم اقل لك) لاقتضاء المقام مزيد تقرير لما كان قد قدّم له من {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} «13».
وكذلك قول موسى عليه السلام {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} «14». بزيادة (لي) “لاكتساء الكلام معها من تأكيد الطلب لانشراح الصدر ما لا يكون بدونه “ «15». وإنّما يقصد السكّاكي في هذا الموضع أنّ كلّ تغيير في العالم الخارجي يجد صداه في الحدث الكلامي المتّصل به ، ولعلّ هذا يذكّرنا بقولة (برتراند رسل) : ” إنّ علينا أن ننظر إلى كلامنا على أنّه أحداث في العالم الملموس” «16».
وتبدوكتب إعجاز القرآن «17» ميدانا فسيحا تتجلّى فيه نظريّة السّياق بأوضح صورة وأعمقها. وهذه النظريّة تتناول جميع جوانب العلاقة بين النصّ والسياق. فهذا الخطّابي يرسم صورة الائتلاف بين النصّ والسياق من جهة ، وبين أجزاء النصّ نفسه في مستوياته المختلفة من جهة أخرى ، يقول : ” وأمّا رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنّها لجام الألفاظ وزمام المعاني ، وبه تنتظم أجزاء الكلام ، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان “ «18».
فالعالم الخارجي يتشكّل صورة في النفس ، ثمّ تترتّب هذه المعاني ألفاظا متّسقة متآلفة منتظمة ، يمسك بعضها ببعض ، وهذه هي رؤية الخطّابي لطبيعة التكامل بين الواقع (سياق الحال) وسياق اللّغة.
وأمّا الباقلّاني فهو أكثر وضوحا في تحديد أثر السياق المحيط بالنصّ على اختيار ألفاظ ذلك النصّ وأسلوبه ، يقول : ” إنّ اختيار اللّفظ ، وإحلاله في الموقع المناسب في السياق هوأساس البلاغة ، والإحسان في البيان ، فإنّ إحدى اللفظتين قد تنفرد في موضع ، وتزلّ عن مكان لا تزلّ عنه اللفظة الأخرى ، بل تتمكن فيه ، وتضرب بحرانها ، وتراها في مظانّها ، وتجدها غير منازعة إلى أوطانها ، وتجد الأخرى لووضعت موضعها في محل نفار ، ومرمى شراد ، ونابية عن استقرار” «19».
فالمقامات تحدّد اختيار الألفاظ ثمّ تترتّب هذه الألفاظ وفق تسلسل سياقيّ لغويّ داخل النص ، وأوضح الباقلّاني مسألة الاتساق الداخلي في النصّ من خلال وصفه لأسلوب القرآن بأنه قائم على الترابط والتناسب سواء فيما بين المحتوى أوتسلسل الألفاظ واطّرادها في قوالب منظومة ، تتّصل مقدماتها مع نتائجها وتتناغم موضوعاتها وتترتّب عناصرها ، وتتّصل بطريقة قائمة على التناسب في نظم الفصل والوصل «20».
ومن الجدير بالذكر أنّ علماء الإعجاز غالبا ما يبدءون الحديث عن إعجاز القرآن بالحديث عن بلاغة العرب ، وتمكّنهم من فنّ القول وكأنّه يشار بذلك إلى سياق الثقافة ، فقد كانت معجزة القرآن في جنس ما يمهرون ليكون التحدي أكبر وأظهر. ثم إنّهم يشيرون إلى الوقائع التاريخيّة التي نزل القرآن في سياقها ، وبعد ذلك يبدءون بالحديث عن ألوان الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم مركّزين على المخاطب ، وعلى تشكّل الآية في صورة مثلى تؤدّي إلى إبلاغ (توصيل) أسرع وأعمق وأكثر تأثيرا.
وحين نظر البلاغيّون والنّقاد إلى ” مراعاة القول لمقتضى الحال ” باعتباره شرطا أساسيّا في التعبير ، فإنّهم بنوا هذا التصوّر على فهم اجتماعي لوظيفة الأدب ، يؤول إلى افتراض المتلقّي وحضوره ، وقد عدل به القدماء عن مناسبة القول الشعري للحال التي فيها الشاعر ، إلى مناسبته للحال التي فيها القول (السياق الحالي) عدولا محكوما بطبيعة الشعر العربي أحيانا وتقسيمه إلى أغراض ومناسبات ، وهذا ما نراه في ارتباط فكرة السياق في كتب النقد والبلاغة بالحديث عن سقوط المطالع ، وضعف التخلّص ، وتنافر الأشطار ، وافتقاد التناسب بين العبارة الشعريّة ومقتضى الحال ، وهوتفسير جعل القدماء يطلقون أحكاما لا تتعلّق في أكثر الأحيان بالجانب الفني من التعبير بقدر ما يتعلّق باللّياقة والمراسم الاجتماعيّة ، وإذا كان الاهتمام بالجانب الاجتماعي أمرا ضروريا فإنّ من السذاجة إغفال مسألة أنّ النص الأدبي قابل للقراءة في سياقات عديدة بحكم تكوينه الجمالي الذي يقترب به إلى العالميّة من خلال تراكيبه وقوى الكلمات المشعّة فيه وصوره ، وعمق التجربة الكامنة فيه ، فالسياق له قدرة على النمووالتغيّر من خلال القارئ الذكيّ المتفتّح.
والتماسك النّصّي مظهر بارز من مظاهر الاتّساق الداخلي ، وأعاره المحدثون أهميّة بالغة وخاصّة في لسانيّات النصّ ، وقد عالجه النّقاد القدامى معالجة ذكيّة وعبّروا عنه من خلال استخدام مصطلحات متعدّدة مثل: التلاحم ، النّظم ، تناسب الأجزاء ، الانسجام ، المشاكلة ، وأبرز من تناول هذا المظهر الجاحظ ، وابن طباطبا ، والحاتمي ، وحازم القرطاجنيّ . فالجاحظ يصرّح بأنّ أجود الشعر” ما رأيته متلاحم الأجزاء ، سهل المخارج ؛ فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا” «21».
وفي موضع آخر يصف بيتا يقول فيه : ” فتفقّد النصف الأخير من هذا البيت ، فإنّك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض “ «22».
ويضيف في موضع آخر أنّ الشعر الجيّد ” تجد أجزاء البيت فيه متّفقة ، حتّى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة. وكأنّ الكلمة بأسرها حرف واحد ” «23» ؛ فتلاحم الأجزاء عند الجاحظ يتمثّل في تلاحم الأبيات المشكّلة للقصيدة ، وتلاحم الأجزاء المشكّلة للبيت ، وتلاحم الأجزاء المشكلة للّفظ (الحروف والأصوات) ، وأبرز العناصر التي انصبّ اهتمام الجاحظ عليها هي الاتّساق الصوتي.
وأمّا ابن طباطبا فله في (عيار الشعر) إشارات متفرّقة هنا وهناك تنمّ على وعي بضرورة توافر شروط التماسك في الخطاب ، ومن ذلك قوله:” إنّ للشعر فصولا كفصول الرسائل ، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه ، على تصرّفه في فنونه ، صلة لطيفة فيتخلّص من الغزل إلى المديح ، ومن المديح إلى الشكوى ، بألطف تخلّص وأحسن حكاية بلا انفصال للمعنى الثاني عمّا قبله “ «24».
وفي موضع آخر يصف أحسن الشعر بأنّه ما ينتظم القول فيه انتظاما يتّسق به أوّله مع آخره “. وأنّ القصيدة يجب أن يكون فيها ” كلّ كلمة تقتضي ما بعدها ويكون ما بعدها متعلّقا بها مفتقرا إليها” «25» ، ولديه إشارات عديدة عن أهميّة المخاطب ، وهذه الاقتباسات توضح طبيعة الاتّساق الداخلي الذي يريده ابن طباطبا ، فالاتّصال والترابط بين أجزاء النصّ ، والعلاقات المنطقيّة بين الأجزاء ، وأهميّة المخاطب في صنع هذا الاتّساق ، ونجد عنده مصطلح التشاكل بمعناه المعاصر يقول :
” وينبغي للشاعر أن يتأمّل شعره وينسّق أبياته ، ويقف على حسن تجاورها أوقبحه ، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها ، ويتّصل كلامه فيها (..) ويتّفق كلّ مصراع ، هل يشاكل ما قبله ؟ ” «26». وفي نقد يتّصل كثيرا بتكامل الاتّساقين الداخلي والخارجيّ يورد ابن طباطبا بيتين لابن هرمة ، وبيتين للفرزدق ، ويذكر فيهما شيئا عن (تماثل الألفاظ) مع موضوع القصيدة ، ويتحدّث عن اتّساق القصيدة وموضوعها مع مقصد الشاعر ، وأنّ كلّ تشبيه منسجم مع الموقف الذي يعبّر عنه «27».
ويتميّز حازم القرطاجنيّ عن البلاغيّين بنظرة أشمل للنصّ ، فهويقسّم القصيدة إلى فصول (والفصل بيتان من الشعر إلى حدود أربعة أبيات تتضافر لأجل إيصال معنى معيّن) ، ووضع لهذه الفصول أحكاما في البناء تضمن تماسك الفصل ، وتماسك الفصول يؤدّي إلى تماسك النص فهويصف مواد الفصل (الموضوع والألفاظ) بأنّها يجب أن تكون ” متناسبة المسموعات والمفهومات ، حسنة الاطّراد ، غير متخاذلة النسج ، غير متحيّز بعضها عن بعض التميّز الذي يجعل كلّ بيت كأنّه منحاز بنفسه “ «28».
ففي هذه المواصفات حديث دقيق عن الترابط والنسج والاتّصال والتناسب وهذه كلّها من مظاهر الاتّساق الداخلي ، ومن جهة أخرى فهويشترط أن يكون نمط نظم الفصل مناسبا للغرض تعتمد فيه الجزالة في الفخر ، والعذوبة في النسيب وهذا مرتبط بالمبدأ البلاغي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، فالغرض من الخطاب يؤثّر في الأسلوب أويؤثر في اختيار الألفاظ ، ويجب أن تكون العلاقة بين الغرض (الهدف) و(الموضوع) والتعبير علاقة انسجام ، وهذه العلاقة يحكمها مبدأ تداولي ساهمت في صياغته تقاليد اجتماعيّة وأعراف سنّتها أجيال واحتفظت بها أخرى.
ولا ريب أنّ لثقافة الشاعر وفكره الدور الأكبر في الجمع بين أطراف هذه المعادلة جميعا : المقام ، الموضوع ، الأسلوب ، التعبير …. وهوما أطلق عليه القرطاجنيّ (بالقوّة الحافظة والقوّة المائزة) وهما قوّتان يستطيع من خلالهما الكاتب أن يميّز ما يلائم الموضع والنظم والأسلوب والغرض ممّا لا يلائم ذلك ، وما يصحّ وما لا يصحّ «29».
وصناعة القصيدة عنده غالبا ما تخضع لاعتبارات تداوليّة ؛ ومنها رغبات القارئ ؛ فالشاعر يجب أن يقدّم في الفصول ما يكون ” للنفس به عناية إذا سيق وفق الغرض المقصود بالكلام ، ويتلوه الأهمّ فالأهمّ والنفوس تتغيّر وما يكون لنفس به عناية يختلف عما به عناية لنفس أخرى “ «30». إنّ قوله ” الأهمّ فالأهمّ ” مبدأ يتّصل مباشرة بطبيعة العرف والعادة ، والسائد بين الناس ، ويختلف باختلاف المقامات وكلّ ذلك يرتبط بغرض الخطاب.
وقد نظر البلاغيّون العرب إلى الدلالة على أنّها نتاج للتداخل الطبيعي بين مستويات اللّغة. فالنّص هوجماع البنية الصوتيّة والبنية المعجميّة ، والبنية التركيبيّة (الجملة التي تتحقّق بتأليف الكلمات في نظام نحوي يقرن عناصر الجملة في سياق داخلي يتأسس من معنى جديد للكلمات غير معناها الاصطلاحي) ، والبنية الدلاليّة وهي ناتج ما يفرزه السياق من معاني عناصر الجملة مجتمعة في نظام محدّد. ويعبّر الجرجاني عن هذا المعنى حين يشير إلى أنّ الأوصاف اللاحقة للجمل من حيث هي جمل لا يصحّ ردّها إلى اللغة ، ولا وجه لنسبتها إلى واضعها “ «31». وقصده من ذلك أنّ الدلالات التي تتولّد عن نظام السّياق في الجملة هي تشكّل ناتج عن الجملة وليس معنى سابقا عليها.
وحديث الجرجاني المعروف عن النظم يفضي بنا إلى السياق ” فاللّفظة قد تروق لك في موضع ، وتثقل عليك في موضع آخر” «32» ، والموضع ليس هوإلّا المقام الذي يجب أن يتناسب مع المقال ، ويذكر الجرجاني ثلاثة أنواع من الدلالة هي: الدلالة اللّغويّة ، والدلالة العقلية التي تنتج عن التفكير بعلاقات السياق في الجملة ، والدلالة التأويليّة (المجازيّة). والمفردة الواحدة قد تتعدّد معانيها باختلاف الموضع ، ويقرّر الجرجاني مفهوم إشاريّة اللّغة ، ممّا يجعل الألفاظ إشارات «33» ، ومن شأن الإشارة أن تكوّن علاقة حرّة واعتباطيّة ، ويتحقّق معناها من موقعها في الجملة مع سائر الإشارات المتضامنة معها فيتشكّل السياق من هذا التضامّ ، ويعود إلى عناصره المكوّنة ليمنحها دلالتها؛ فالسياق ناتج عن تآلف الإشارات كما أنّ معاني هذه الإشارات هي من صنع السياق ، فهويقيم ألفة بين المتباعدات ويصنع من ذلك سياقا مؤتلفا ، والكتابة أوالنّص هوالذي يعطي لهذه المتباعدات معنى واحدا هوالمعنى السياقي.
ويربط الجرجاني (النظم) بالتصرّف بمعاني النحو ، وليس معنى التصرّف بمعاني النحومطابقة الكلم للقواعد ، والتحرّز من اللحن ، أوزيغ الإعراب ، وإنّما يلجأ الناظم أوالناثر للتقديم والتأخير والتعريف والتنكير أوالاستئناف ، وما شابه ذلك بطريقة ناتجة عن إعمال الرويّة والفكر لتلائم هذه الأساليب ، وهذا المعنى ، وهنا قد يلتبس الأمر على الناس فيظنّون أنّ المزيّة في الألفاظ أوالاستعارات أو.. ، وإنّما تكون المزيّة في السياق الذي وضعت فيه ، فعناصر اللّغة كلّها عند الجرجاني بما فيها من مفردات أوقواعد ، أونحوأومجاز واستعارة لا قيمة لها في ذاتها ، وإنّما تستمدّ قيمتها من السياق.
_________________________________
(1) السكّاكي : مفتاح العلوم ، بيروت ، دار الكتب العلميّة ، د. ت ، ص 73.
(2) الخطيب القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة ، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ، ط 5 ، دار الكتاب اللبناني/ بيروت/ 1980 ، ص 12.
(3) يرى سوسير أنّ هناك علاقات تقوم بين الكلمات في تسلسلها تعتمد على خاصيّة اللغة الزمنيّة ، فهي تجري كخط مستقيم يستبعد فيه إمكانيّة النطق بعنصرين في وقت واحد ، وتتآلف العناصر في سلسلة الكلام ، وهذا التآلف الذي يعتمد على الامتداد يطلق عليه (العلاقات السياقية). والتركيب بهذا الاعتبار يتألّف دائما من عنصرين أوأكثر مثل: (الطقس جميل) ، وعند ما تدخل الكلمة في تركيب ما فإنّها تكتسب قيمتها فحسب من مقابلتها لما يسبقها أويلحقها من كلمات. ومن ناحية أخرى فإنّنا لوأخذنا أيّ كلمة من السلسلة السياقية لوجدنا أنّها تثير كلمات أخرى بالتداعي والإيحاء. فكلمة” تعليم” مثلا تثير معها في الذهن كلمات أخرى مثل: تربية ، معلّم ، وعلم ، ومدرسة. وهذه تجمعها علاقة تسمّى العلاقات الإيحائيّة وهي تختلف عن العلاقات السياقيّة. انظر صلاح فضل/ نظريّة البنائيّة في النقد العربي ، ط 1 ، ص (35- 36).
(4) ابن الأثير ، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبّانة ، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، 1 ، 1972/ 398.
(5) ابن الأثير ، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبّانة ، مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، ج 1/ ص 211.
(6) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة ط 1 ، مطبعة صبيح/ القاهرة/ 1953 ، ص (4- 5).
(7) نفسه ، ص : 102.
(8) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة ط 1 ، مطبعة صبيح/ القاهرة/ 1953 ، ص 156.
(9) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن ، تحقيق أحمد صقر ، ط 1 ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1954 ، ص 13.
(10) نفسه.
(11) الجاحظ : عمروبن بحر (ت 255 هـ) ، البيان والتبيين ، ط 1 ، تحقيق عبد السلام هارون ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، 1950 ، 1/ 16.
(12) نفسه ، 1/ 267.
(13) سورة الكهف ، آية (75).
(14) سورة طه ، آية (25).
(15) السكّاكي ، مفتاح العلوم ، ص 123.
(16) جون لاينز ، اللّغة والمعنى والسياق ، ص 227.
(17) لم ندرج كتب إعجاز القرآن ضمن ميدان علوم القرآن ، لأنّها تناولت معجزة القرآن البيانيّة بشكل أساسي ممّا يجعلها أقرب إلى ميدان البلاغة ، إن لم نقل إنها في مركز الدراسات البلاغيّة.
(18) بيان إعجاز القرآن/ ضمن ثلاث مسائل في إعجاز القرآن الكريم للرمّاني والخطّابي والجرجاني ، تحقيق محمد خلف اللّه أحمد ومحمد زغلول سلام ، ط3 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1986 ، ص 36.
(19) أبوبكر الباقلّاني ، إعجاز القرآن الكريم ، تحقيق أحمد صقر ، ط 3 ، دار المعارف ، مصر ، 1971 ، ص 220.
(20) نفسه ، ص 220.
(21) الجاحظ ، البيان والتبيين/ ج 1/ ص 89.
(22) نفسه ، ج 1/ ص (87- 88).
(23) نفسه ، ج 1/ ص 91.
(24) ابن طباطبا ، عيار الشعر ، ص 12.
(25) نفسه ، ص 16.
(26) نفسه ، ص 129.
(27) نفسه ، ص 133.
(28) حازم القرطاجنيّ ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة. تونس/ دار الكتب الشرقيّة / 1966 ، ص 63.
(29) نفسه ، ص : 29.
(30) منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، ص 33.
(31) عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة ، ص : 376.
(32) نفسه ، ص 42.
(33) يقول الجرجاني : ” لأنّ اللّغة تجري مجرى العلامات والسّمات ولا معنى للعلامة والسّمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافة ” انظر أسرار البلاغة ص : 347.