مقالات

العلماء  ورثة  الأنبياء

اقرأ في هذا المقال
  • العلماء  ورثة  الأنبياء،  كيف  ولماذا؟[1]
  • والعلماء ورثة الأنبياء فيحقّ لهم ذلک ، فإنّهم تخلّقوا بأخلاق الله سبحانه

العلماء  ورثة  الأنبياء،  كيف  ولماذا؟[1]
عن الإمام الصادق ، عن آبائه :، قال : «من سلک طريقآ يطلب فيه علمآ سلک الله به طريقآ إلى الجنّة ، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً به ، وإنّه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتّى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارآ ولا درهمآ، ولكن ورّثوا العلم ، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر»[2] .

المقصود من إيراد هذا الخبر الشريف أن نسلّط الأضواء على الفقرة الأخيرة من قوله 7: «العلماء ورثة الأنبياء»، فإنّ كلام الإمام إمام الكلام ، فيه نور، وله أشعّة وهّاجة ، وتحمل بطونآ من المعاني السامية كالقرآن الكريم ، إذ العترة الطاهرة الثقل الثاني وعدل القرآن الكريم ، الذي خلّفه الرسول الأكرم 9، لا سيّما والحديث حديثه .

فلا يخفى أنّ الوراثة ـوراثة العلماء للأنبياءـ لها أبعاد مختلفة وجوانب عديدة نذكر بعضها على نحو الإجمال والإشارة ، ليكون معالم رئيسيّة ، لمن أراد السير العميق في طريق هذا الخبر الشريف ، وفوق كلّ ذي علمٍ عليم .

من أبعاد الوراثة :

الوراثة الماليّة : العلماء لا يرثون الأنبياء في أموالهم ، إنّما يرث النبيّ من كان من أرحامه ، يرثه على كتاب الله، كما ورث سليمان داود ويوسف يعقوب ، فالعالم لا يرث النبي في ماله ومناله الدنيوي بنصٍّ منه في قوله : «إنّ الأنبياء لم يورّثوا ـأي للعلماء لتناسب الحكم والموضوع ـ «دينارآ ولا درهمآ»، وفي رواية اُخرى : الأصفر والأبيض ، كناية عن الذهب والفضّة ، أو الدينار الذهبي والدرهم الفضّي الذي كان في صدر الإسلام .

2 ـ الوراثة العلميّة :

فإنّ العلماء يرثون الأنبياء في علومهم كما ورد في النصّ : «ولكن ورّثوا العلم »، والمراد من العلم هو العلم النافع الذي ينفع من علمه ويضرّ من جهله ، أي علم الدين في اُصوله وفروعه وأخلاقه (علم الفقه والعقائد والأخلاق )، كما ورد ذلک في الروايات الشريفة ، ففي قول النبيّ الأكرم 9: «إنّما العلم ثلاث : آيةٌ محكمة ، وسنّة قائمة ، وفريضة عادلة ».

3 ـ الوراثة الخُلقيّة : فإنّ العالم يرث النبي في أخلاقه السامية وسلوكه الرفيع ، من التواضع وحبّ المساكين وحسن الخلق والحلم والصبر على المصائب والمتاعب وتحمّل المشاكل
من أجل أداء الرسالة ، وكان النبيّ الأكرم 9 خلقه القرآن ، وإنّه لعلى خُلقٍ عظيم ،

فالعالم الرسالي لا بدّ أن يتّصف بفضائل الأخلاق ومكارم الصفات اُسوة بنبيّه ، فإنّه وريثه في أخلاقه الحسنة ، وإنّ الكلام إذا خرج من القلب الصالح المتّقي الخلوق دخل في القلوب ، وإذا خرج من اللسان فإنّه لا يتجاوز الآذان ، العالم لا بدّ أن يجسّد في وجوده ـباطنآ وظاهرآـ أنوار النبوّة وتجلّيات الولاية .

4 ـ الوراثة في الهداية وتبليغ الرسالة : وتعليم الناس وتزكيتهم وإنذارهم وتبشيرهم ، ودعوتهم إلى عبادة الله والإخلاص في العمل والخوف من يوم المعاد كما كان يفعل الأنبياء في اُممهم (وَجَعَلـْناهُمْ أئِمَّـةً يَهْدونَ بِأمْرِنا)[3] ، (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى المُؤْمِنينَ إذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسولا مِنْ أنْفُسِهِمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ )[4] ، (فَإنَّما عَلَيْکَ البَلاغُ )[5] ، (الَّذينَ يُبَلِّغونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أحَدآ إلّا اللهَ)[6] ، (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فَرْقَةٍ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِروا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرونَ )[7] ، فالنبيّ كان طبيبآ دوّارآ يعالج أمراض الناس والمجتمع بكتابه الكريم : (وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلـْمُؤْمِنينَ )[8] ، (هُدىً لِلنَّاسِ )[9] ، (هُدىً لُلـْمُتَّقينَ )[10] ، فالعلماء وكذلک الحوزات العلمية لا يحقّ لهم أن يكتفوابتدريس الفقه ، فإنّ ذلک كتدريس الطبّ ، والمدرّس غير الطبيب ، فالعالم الفقيه من يدرّس الفقه ، وينزل إلى الساحة لتربية الناس وهدايتهم وتعليمهم وتزكيتهم ، ولازم تبليغ الرسالة كما هو واضح ، تحمّل كلّ الأذى والمصائب من جميع شرائح المجتمع ، فيداويهم بالتي هي أحسن «اُمرت بمداراة الناس »، وكان الأنبياء ينشرون بالمناشير، ويسحب البساط من تحت أقدام الأئمة ، ولكلّ نبيّ فرعون ، وإنّ الناس أعداء ما جهلوا، وعلى العالم أن يراعي أحساسيس الناس ومشاعرهم ويداويهم بكلّ ودّ وإخلاص ، فإنّه الطبيب الدوّار، يعالج المجتمع كلّ حسب حاله ومرضه ، وله حالات مع الجهّال ، فمنهم : (إذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلامآ)[11] ، ومنهم : (خُذِ العَفْوَ وَأمُرْ بِالمَعْروفِ وَأعْرِضْ عَنِ الجاهِلينَ )[12] ، ومنهم : (فَلِذلِکَ فَادْعُ وَآسْتَقِمْ كَما اُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ )[13] ، ومنهم : (وَآصْبِرْ عَلى ما يَقولونَ وَآهْجُرْهُمْ هَجْرآ

جَميلا)[14] .

5 ـ الوراثة في الاصطفاء : فإنّ الله يصطفي من بين خلقه الأنبياء والمرسلين (وَآصْطَفى رَبُّکَ آدَمَ ) وعصمهم بعصمة ذاتيّة من الذنوب والآثام والسهو والنسيان ، فكذلک الله يصطفي ويجتبي من خلقه العلماء، إلّا أنّه عليهم أن يعتصموا بالتقوى وبالعصمة في الأفعال ، ويترّفعوا عن الذنوب والمعاصي والمكروهات ، وإلّا يبتلون بعقوبات إلهية ، أدناها يسلب منهم حلاوة المناجاة ـكما ورد في الروايات الشريفة ـ.

6 ـ الوراثة في البركة : فإنّ النبيّ مبارک في حياته الفردية والاجتماعية ، ومظهر لبركة الله كما قال روح الله عيسى بن مريم 7 (وَجَعَلَني مُبارَكآ)[15] ، فالأنبياء منشأ البركات ، والبركة الخير الكثير المستمرّ والمستقرّ ـكما في اللغة ـ والعالم وريث الأنبياء في بركاتهم ، فهو مبارک في حياته بقلمه وقدمه وبيانه ووجاهته ، إذ هو كالشمعة تحرق نفسها من أجل إضاءة المجتمع ، العالم لا بدّ أن يكون منشأ الخيرات والبركات في تأسيس وإدارة مشاريع دينية وثقافية وخيرية كبناء المدارس والمستشفيات الأهلية والجوامع والحسينيات ونشر المعارف الحقّة بكلّ أشكالها وغير ذلک .

7 ـ الوراثة الجهادية : إنّ لكلّ نبيّ عدوّآ، فإنّ الله أرسله لهداية الناس وليقوموا بالقسط ، ومن ثمّ يحارب الطغاة وأتباع الشيطان وأولياءه الذين يوحي إليهم الشيطان ، فالنبيّ منذ بداية دعوته وحتّى رحلته إلى ربّه في جهاد ونضال مستمرّ ودؤوب ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولا تثني عزيمته عداوة المستكبرين وعراقيلهم ، فكذلک العالم فإنّه في خندقين ، خندق الهداية هداية الناس إلى الصراط المستقيم ، وخندق الجهاد والنضال ومحاربة الجبابرة والطغاة ، ومن يريد أن يستعبد الناس ويستثمرهم ويلهيهم عن عبادة الله والتقرّب إليه ، وقد فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرآ
عظيمآ، العلماء كالأنبياء يجاهدون في سبيل الله أعداء الله وأعداء دينه .

8 ـ الوراثة في ثقل العقوبة :

فإنّ النبيّ بتركه الأولى يخرج من الجنّة ـكآدم 7ـ وتخرج النبوّة من صلبه ـكيوسف 7ـ ويبكي وينوح طيلة حياته حتّى سمّي نوحآ. كذلک العلماء، فإنّه تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنبآ، قبل أن يغفر للعالم ذنبآ واحدآ، وإذا كانت حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ـكما وردـ فكذلک حسنات الجهّال سيّئات العلماء، وأدنى ما يصنع بالعالم المذنب أن يسلب منه حلاوة المناجاة ، وكم من عالم سلب منه نعمة العلم ، وخرج من زيّ العلماء، حينما لم يعمل بعلمه ، وتخلّى عن مسؤولياته الثقيلة من هداية الاُمّة وإرشاد الناس ، وعيش آلامهم وأحاسيسهم من قريب . وقد ورد في الخبر الشريف : العالم الذي لا يعمل بعلمه ، ويعصي ربّه ، يُبتلى بواحد من ثلاث : إمّا أن يموت شابآ، أو يخدم السلطان ـكوعّاظ السلاطين ـ أو يكون في الرساتيق .

9 ـ الوراثة في الحكومة : النبوّة رئاسة عامّة في الدين والدنيا بنصّ من الله سبحانه ، فالنبيّ قائد الناس في دينهم ودنياهم ، وإنّ الدين نظام يقود المجتمع إلى الخير والصلاح ، وإنّ الأرض سيرثها عباد الله الصالحون بنصّ من القرآن الكريم ، وإنّ الغلبة لله ولرسله (لأغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلي )[16] والعلماء هم الذين يخشون الله (إنَّما يَخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ)[17] والعلم يدعو إلى الصلاح ، كما أنّ الصلاح لازم العلم ، والعباد الصالحون الذين يرثون الأرض هم العلماء الصلحاء الأخيار، فإنّهم قادة وهداة ، وبيدهم زمام الاُمور، ومقاليد الحكم ، وسياسة البلاد، وبإشرافهم إدارة الحكومات ، فإنّهم ورثة الأنبياء.

10 ـ الوراثة في الطبقات : قال الشيخ الصدوق عليه الرحمة في كتابه «التوحيد»: إنّ الأنبياء طبقات ، فمنهم من هو نبيّ نفسه ، ومنهم نبي اُسرته ، ومنهم نبيّ محلّته ، ومنهم نبيّ بلده ، ومنهم نبيّ العالم أجمع وهم اُولو العزم ، وأصحاب الرسالات العالمية في زمانهم ، وحتّى ختم النبوّة بمحمّد 9 فرسالته إلى الناس كافّة ، وإنّه رحمة للعالمين ، وحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة . والعلماء ورثة الأنبياء، فمنهم من يكون في مقام نجاة نفسه ، واُخرى : (قوا أنْفُسَكُمْ وَأهْليكُمْ نارآ)[18] ، وثالثة : يقود سياسة محلّته ، ويكون إمام جماعة

المسجد فيحلّ مشاكل الناس ويعيش آلامهم ، واُخرى يسوق البلد إلى شاطئ السعادة والخير، وربما تكون رسالته عالمية ، وينتفع من علمه المبارک كلّ العالم ، كمراجع التقليد ـجزاهم الله خيرآـ والعلم إنّما يقذفه الله في قلب من يشاء، والقلوب أوعية خيرها أوعاها، وعلى كلّ عالم إسلامي أن ينظر إلى أقصى القوم ، ويوسّع في تفكيره وعزمه ونشاطه وسياسته ، ويخطّط لكلّ الأجيال ، ويهتمّ باُمور كلّ المسلمين ، فإنّ من أصبح ولم يهتمّ باُمور المسلمين فليس بمسلم ، فكيف بالعلماء وهم القادة والرعاة .

هذا ومن افتخار العلماء الأعلام أنّهم ورثوا كلّ الأنبياء، حتّى قيل في حقّهم :
«علماء اُمّتي كأنبياء بني إسرائيل »، وفي رواية اُخرى : «أفضل من أنبياء بني إسرائيل ».

كما عاصروا أربعة عشر معصومآ ـالرسول الأكرم وفاطمة الزهراء وأمير المؤمنين وأولادهم المعصومين الأحد عشر :ـ إذ بين أيديهم كلمات أئمّتهم ، فكأنّهم في عصرهم ومحافلهم يتلقّون العلم والأدب منهم ، وهذا يعني المعاصرة لهم ، فورثوهم في علومهم وأخلاقهم وكلامهم وجهادهم وبركاتهم وقدسيّاتهم وقيادتهم وسياستهم ، فإنّهم ساسة العباد وأركان البلاد.

هذا عرض موجز لبعض أبعاد الوراثة النبويّة ، وهناک العشرات ، كما يتفرّع من كلّ بُعد المئات ، وما اُوتيتم من العلم إلّا قليلا.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الوراثة العظمى بأبعادها المختلفة لا تحصل لكلّ من حمل العلم ، بل لا تكون إلّا بشرطها وشروطها، كما ورد حقيقة ذلک في الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، فإنّها تصنّف العلماء إلى صنفين أساسيّين : علماء الخير والصلاح ، وعلماء الشرّ والسوء، ولكلّ من الصنفين مواصفات خاصّة ، ومن أبرز الصفات للأوّل : الخشية من الله والورع والتقوى .

(إنَّما يَخْشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ إنَّ اللهَ عَزيزٌ غَفورٌ)[19] .

(أوَ مَنْ كانَ مَيِّتآ فَأحْيَيْناهُ وَجَعَلـْنا لَهُ نورآ يَمْشي بِهِ في النَّاسِ )[20] .

(يُؤْتي الحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتيَ خَيْرآ كَثيرآ وَما يَذَّكَّرُ إلّا اُولو الألـْبابِ )[21] .

ولقد عرفنا ـولو بنظرة سريعة ـ كيف أنّ العلماء يرثون الأنبياء، ولماذا وما هي مسؤولياتهم .

فإنّهم شموع دروب الحياة ومشاعل طرق الأحرار، والنبيّ الأكرم محمد 9 يصفهم ويمثّلهم بقوله : إنّ مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر، فإذا انطمست أوشک أن تضلّ الهداة[22] . وعن الإمام العسكري 7: قال محمد بن علي الباقر 7: العالم كمن معه شمعة تضيء للناس ، فكلّ من أبصر شمعته دعا له بخير، كذلک العالم مع شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة[23] .

وما أكثر النصوص الدينية من الآيات الكريمة والروايات الشريفة التي تحثّ على طلب العلم وتذكر فضائل العالم ، فإنّ النبيّ الأكرم يقول : فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر[24] . وقال 9: ألا إنّ الله يحبّ بغاة العلم .

(قُلْ هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمونَ إنَّما يَتَذَكَّرُ اُولو الألـْبابِ )[25] .

يقول أمير المؤمنين علي 7: ركعتان من عالم خيرٌ من سبعين ركعة من جاهل ؛ لأنّ العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه ، وتأتي الجاهل فتنسفه نسفآ[26] .

وقال 7 لكميل بن زياد: يا كميل بن زياد، إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها  أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لک : الناس ثلاثة : فعالم ربّاني ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق .

يا كميل ، العلم خير من المال ، العلم يحرسک وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ، وصنيع المال يزول بزواله .

يا كميل ، معرفة العلم دين يدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته ، وجميل الاُحدوثة بعد وفاته ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه .

يا كميل ، هلک خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة[27] .

وقال الإمام الصادق 7، عن رسول الله 9: أكثر الناس قيمة أكثرهم علمآ، وأقلّ الناس قيمة أقلّهم علمآ[28] .

وقال الإمام الكاظم 7: تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة ، وتمام العبادة ، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب ، ومن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملا[29] .

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ اُوتوا العِلـْمَ دِرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلونَ خَبيرٌ)[30] .

أجل ، من مثل هذه النصوص يعرف قيمة العلم النافع والعلماء الصلحاء، يكفيک أنّ النظر إلى وجه العالم عبادة ، ذلک العالم الذي يصدق قوله فعله وفعله قوله ، فإنّ رؤيته تذكّر الله، وبها يتعبّد الإنسان ، ويمهّد الطريق للوصول إلى الله سبحانه ، وبذلک يكون النظر إليه عبادة ، كما لمن نظر إلى الكعبة المشرّفة التي تذكّر الإنسان بربّه .

يقول النبي الأكرم 9: النظر إلى وجه العالم خيرٌ لک من عتق ألف رقبة[31] .

وقال أمير المؤمنين 7: من وقّر عالمآ فقد وقّر ربّه[32] .

وقال الإمام السجّاد 7 في رسالته في الحقوق : أمّا حقّ سائسک بالعلم فالتعظيم له والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسک ، فيما لا غنى بک عنه من العلم ، بأن تفرّغ له عقلک وتحضره فهمک ، وتزكّي له قلبک وتجلّي له بَصَرک بترک اللذات ونقص الشهوات[33] .

وإذا كان لزيارة العلماء هذا الفضل والثواب ، فما للعالم نفسه من مقام شامخ عند الله سبحانه ، فإنّ العالم يتجلّى فيه أبرز صفة من صفات الله الذاتيّة ، التي ترجع إليه جميع الصفات ، وهو صفة العلم ، فزيارة العالم تعدّ من زيارة الله سبحانه ، والنبيّ الأكرم يقول : زيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافآ حول البيت ، وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة مقبولة ، ورفع الله تعالى له سبعين درجة ، وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنّ الجنّة وجبت له[34] .

هذا لمن زاره ، وأمّا من جلس عنده ليتعلّم منه ، فقد قال النبيّ في حقّه : ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلّا ناداه ربّه عزّ وجلّ : جلست إلى حبيبي ، وعزّتي وجلالي لاُسكننّک الجنّة معه ، ولا اُبالي[35] .

وقال 9: يا أبا ذرّ، الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم ، أحبّ إلى الله من قيام ألف ليلة ، يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة ، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من ألف غزوة ، وقراءة القرآن كلّه[36] .

وعلى من يجلس عند العالم ، أن يراعي آداب الحضور، فقد قال الإمام الصادق 7: كان أمير المؤمنين 7 يقول : إنّ من حقّ العالم أن لا يكثر عليه السؤال ، ولا تأخذ بثوبه ، وإذا دخلت عليه وعنده قوم ، فسلّم عليهم جميعآ، وخصّه بالتحيّة دونهم ، واجلس بين يديه ، ولا تجلس خلفه ، ولا تغمز بعينک ، ولا تشِر بيدک ، ولا تكثر من القول : قال فلان وقال فلان خلافآ لقوله ، ولا تضجَر بطول صحبته ، فإنّما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتّى يسقط عليک منها شيء[37] .

وقال الإمام الباقر 7: إذا جلست إلى عالم فكن على أن تسمع أحرص منک على أن تقول ، وتعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن القول ، ولا تقطع على أحدٍ حديثه[38] .

ثمّ بعد المجالسة فالمفروض هو الاتّباع ، فإنّ طاعته مكسبةٌ للحسنات ، ممحاة للسيّئات ، وذخيرهٌ للمؤمنين ورفعةٌ في حياتهم[39] .

ومن المعلوم الذي لا ريب فيه ، أنّ هذه المقامات الجليلة والدرجات الرفيعة ، ليس لكلّ واحد من العلماء، فإنّ فيهم من هو عين الفساد وجرثومة الضلال كعلماء السوء ووعّاظ سلاطين الجور، واُولئک الذين لا يعملون بعلمهم .

(يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفْعَلونَ كَبُرَ مَقْتآ عِنْدَ اللهَ أنْ تَقولوا ما لا تَفْعَلونَ )[40] .

يقول الإمام الكاظم 7، عن المسيح 7: بحقّ أقول لكم : إنّ الناس في الحكمة رجلان : فرجل أتقنها بقوله وصدقها بفعله ، ورجلٌ أتقنها بقوله وضيّعها بسـوء فعـله ، فشتّان بينـهما، فطوبى للعلماء بالفعل ، وويلٌ للعلماء بالقول[41] .

وقال الإمام الصادق 7: تعلّموا ما شئتم أن تعملوا، فلن ينفعكم الله بالعلم حتّى تعملوا به[42] .

وقال 7: فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسک حقيقة العبودية ، واطلب العلم باستعماله ، واستفهم الله يُفهّمک[43] .وفي الأحاديث الشريفة : آفة العلم ترک العمل به ، والعلم وحشي إن تركته يمشي ، والعلم يهتف بالعمل فإن وجده بقي ، وإلّا ارتحل .

ويقول رسول الله 9: نعوذ بالله من علمٍ لا ينفع ، وهو العلم الذي يضادّ العمل بالإخلاص ، واعلم أنّ قليل العلم يحتاج إلى كثير العمل ، لأنّ علم ساعة يلزم صاحبه استعماله طول عمره[44] .

وأمّا من لم يعمل بعلمه فإنّه لا يرى خير العلم وآثاره في حياته ، ولا بركاته في الآخرة ، بل كما قال النبيّ الأكرم 9: من ازداد في العلم رشدآ، فلم يزدد في الدنيا زهدآ، لم يزدد من الله إلّا بعدآ.

وقال : من ازداد علمآ ولم يزدد هدىً لم يزدد من الله إلّا بعدآ.

وعن الإمام السجّاد 7: مكتوب في الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولمّـا تعملوا بما علمتم ، فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفرآ، ولم يزدد من الله إلّا بعدآ[45] .

وقال 9: إنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارک لعلمه ، وإنّ أشدّ أهل النار ندامةً وحسرة رجل دعا عبدآ إلى الله فاستجاب له وقبل منه ، فأطاع الله فأدخله الجنّة ، وادخل الداعي النار بتركه علمه واتّباعه الهوى[46] .

وقال الإمام الصادق 7: أشدّ الناس عذابآ عالم لا ينتفع من علمه بشيء، والعالم بلا عمل جاهل ، فقد قال أمير المؤمنين 7: كفى بالعالم جهلا أن ينافي علمه عمله .

وقال الإمام الصادق 7: من لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم[47] .

وقال الأمير 7: فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق ، بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله ألزم .

هذا من الآثار السيّئة لمن لم يعمل بعلمه ولم يزدد به رشدآ وهدىً ، وذلک في عين الله سبحانه ، فإنّه لم يزدد إلّا بعدآ وكفرآ، وأمّا من آثار السوء لمن لم يعمل بعلمه عند الناس وفي أعينهم ، فإنّه يهان ويهون ، ولا يقدّر ولا يحترم ، بل تفرّ الناس منه ، فعن أمير المؤمنين علي 7، قال : لو أنّ حَمَلة العلم حملوه بحقّه لأحبّهم الله وملائكته وأهل طاعته من خلقه ، ولكنّهم حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله، وهانوا على الناس[48] .

وهذا هو من أهمّ الأسباب في ابتعاد الناس عن أهل العلم ، وهناک أسباب اُخرى ترجع إلى الناس أنفسهم ، فإنّهم لشقاوتهم هجروا العلماء وتركوا العلم وأهله .

قال أمير المؤمنين 7: إنّما زهّد الناس في طلب العلم كثرة ما يرون من قلّة من عمل بما علم[49] .

قال النبيّ 9: يا أبا ذرّ، مثل الذي يدعو بغير عمل ، كمثل الذي يرمي بغير وتر.

وعن الإمام الصادق 7، قال : إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه ، زلّت موعظته
عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا[50] .

وعن النبيّ 9، قال : رأيت ليلة اُسري بي إلى السماء، قومآ تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، ثمّ تُرمى ، فقلت : يا جبرئيل ، من هؤلاء؟ فقال : خطباء اُمّتک يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون[51] .

وقال 9: مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به ، مثل السراج يضيء للناس ويحترق نفسه[52] .

وقال أمير المؤمنين علي 7: علمٌ بلا عمل ، كشجرٍ بلا ثمر[53] .

وقال 7: وانهوا غيركم عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنّما اُمرتم بالنهي بعد التناهي[54] .

ومثل هؤلاء العلماء ـعلماء السوءـ لا بدّ من نصيحتهم أوّلا، وإلّا فقطيعتهم وإنكارهم ، وكشف القناع عن وجوههم المكفهرّة .

قال حارث بن المغيرة : لقيني أبو عبد الله 7 في بعض طرق المدينة ليلا فقال لي : يا حارث ، فقلت : نعم . قال : أما ليُحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم ، ثمّ مضى ، قال الحارث : ثمّ أتيته فاستأذنت عليه فقلت : جعلت فداک ، لِمَ قلت : ليُحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم ، فقد دخلني من ذلک أمرٌ عظيم ! فقال لي :
نعم ، ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهونه ـممّـا يدخل به علينا الأذى والعيب عند الناس ـ أن تأتوه فتؤنّبوه وتعظوه وتقولوا له قولا بليغآ، فقلت له : إذا لا يقبل منّـا ولا يطيعنا، فقال : فإذآ فاهجروه عند ذلک ، واجتنبوا مجالسته[55] .

أجل إذا أردت أن تعرف خطر علماء السوء على الاُمّة ، وأنّهم ثعالب وسرّاق دين الله من الناس ، فاقرأ معي هذا الخبر المرويّ عن الإمام العسكري 7 : قيل لأمير المؤمنين 7: ومن شرّ خلق الله بعد إبليس وفرعون و…؟ قال : العلماء إذا فسدوا[56] .

وقيل للنبيّ 9: أيّ الناس شرّ؟ قال : العلماء إذا فسدوا[57] .

فالعالم العامل المخلص المتّقي هو الناجح الموفّق في حياته العلمية والعملية ، ومثل هذا يكون وريثآ للأنبياء، وتشمله الرحمة الإلهية والنبويّة ، كما قال النبيّ 9 :

«رحم الله خلفائي ، فقيل : يا رسول الله، ومن خلفاؤک ؟ قال : الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها عبادَ الله[58] .

عن الإمام الرضا 7، عن آبائه :، قال رسول الله 9: اللّهم ارحم خلفائي ـثلاث مرّات ـ قيل : يا رسول الله، ومن خلفاؤک ؟ قال : الذين يأتون
من بعدي ويروون أحاديثي وسنّتي ، فيسلّمونها الناس من بعدي[59] .

وقال الإمام الحسين 7: مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الاُمناء على حلاله وحرامه[60] .

وما أخطر اُولئک العلماء الذين دخلوا في سلک خدمة الدول الظالمة ، والحكومات الجائرة ، وارتزقوا من أموال الطغاة والظَلَمة .

اُنظر إلى ما يقوله الإمام السجّاد 7 في كتابه المعروف إلى محمّد بن مسلم الزهري من فقهاء المدينة : … فانظر أيّ رجلٍ تكون غدآ، إذا وقفت بين يدي الله… ولا تحسبنّ الله قابلا منک بالتعذير، ولا راضيآ منک بالتقصير، هيهات ! هيهات ! ليس كذلک ، أخذ الله على العلماء في كتابه إذا قال : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمونَهُ ) واعلم أنّ أدنى ما كتمت وأخفّ ما احتملت أن آنستَ وحشة الظالم ، وسهّلت له طريق الغيّ، بدنوّک منه حين دنوت ، وإجابتک له حين دعيت ، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمک غدآ مع الخونة ، أو أن تسأل عمّـا أخذت بإعانتک على ظلم الظَلَمة ، إنّک أخذت ما ليس لک ممّن أعطاک ، ودنوت ممّن لم يَرّدّ على أحدٍ حقّآ، ولم تردّ باطلا حين أدناک ، وأحببت من حادّ الله، أوَ ليس بدعائه إيّاک ـحين دعاک ـ جعلوک قطبآ أداروا بک رحى مظالمهم ، وجسرآ يعبرون عليک إلى بلاياهم وسلّمآ إلى ضلالتهم ، داعيآ إلى غيّهم ، سالكآ سبيلهم !! يدخلون بک الشکّ على العلماء، ويقتادون بک قلوب الجهّال إليهم ، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ولا أقوى أعوانهم ، ألا دون ما بلغتَ من إصلاح فسادهم ، واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم ،
فما أقلّ ما أعطوک في قدر ما أخذوا منک ؟ وما أيسر ما عمروا لک ، فكيف ما خرّبوا عليک ؟ فانظر لنفسک ! فإنّه لا ينظر لها غيرک ، وحاسبها حساب رجل مسؤول ، فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلَفٌ وَرِثوا الكِتابَ يَأخُذونَ عَرَضَ هذا الأدْنى وَيَقولونَ سَيغْفرْ لَنا) أغفلت ذكر من مضى من أسنانک وأقرانک ، وبقيت بعدهم كقرنٍ أعضب ، اُنظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت ، أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ، أم هل تراهم ذكرت خيرآ أهملوه ، وعلمت شيئآ جهلوه ، بل حظيت بما حلّ حالک في صدور العامّة ، وكلّفهم بک ، إذ صاروا يقتدون برأيک ويعرفون بأمرک ، إن أحللت أحلّوا وإن حرّمت حرّموا، وليس ذلک عندک ولكن أظهرهم عليک رغبتهم فيما لديک ، وذهاب علمائهم وغلبة الجهل عليک وعليهم ، وحبّ الرئاسة ، وطلب الدنيا منک ومنهم .

أمّا بعد فأعرض عن كلّ ما أنت فيه ! حتّى تلحق بالصالحين ، الذين دفنوا في أسمائهم لاصقةً بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ولا يفتنون بها، فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلک هذا المبلغ مع كبر سنّک ، ورسوخ علمک ، وحضور أجلک ، فكيف يسلم الحدث في سنّه ، الجاهل في علمه ، المأفون في رأيه ، المدخول في عقله ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! على مَن المعوّل ؟ وعند من المستعتب ؟ نشكو إلى الله بثّنا وما نرى فيک ، ونحتسب عند الله مصيبتنا بک …[61] .

فمن المصائب العظمى دخول العالم في متاهات السلاطين والحكومات الجائرة .

قال أمير المؤمنين علي 7: وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظة ظالم ، ولا سغب مظلوم[62] .

قال الإمام الصادق 7: إيّاكم وأبواب السلطان وحواشيها، فإنّ أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله تعالى ، ومن آثر السلطان على الله عزّ وجلّ أذهب الله عند الورع وجعله حيرانآ.

وقال 7: قال رسول الله 9: الفقهاء اُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل : يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال : اتّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلک فاحذروهم على دينكم[63] .

وقال الإمام الحسين 7: اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه ، من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول : (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبارُ عَنْ قَوْلِهُمُ الإثْمَ )، وقال : (لُعِنَ الَّذينَ كَفَروا مِنْ بَني إسْرائيلَ ) إلى قوله : (لَبِئْسَ ما كانوا يَفْعَلونَ )، وإنّما عاب الله ذلک عليهم ، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلک ، رغبة فيما كانوا ينالون منهم ، ورهبة ممّـا يحذرون ، والله يقول : (فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَآخْشَوْنِ )[64] .

وقال 7: لو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت اُمور الله عليكم ، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع ، ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم وأستسلمتم اُمور الله في أيديهم ، يعملون بالشبهات ، ويسيرون في الشهوات ،
سلّطهم على ذلک فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم[65] .

وقال 7: والعمى والبكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون ، ولا في منزلتكم تعملون ، ولا من عمل فيها تعينون ، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون ، كلّ ذلک ممّـا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون ، وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء ولو كنتم تشعرون …

فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمن بين مستعبدٍ مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب ، والناس لهم خول لا يدفعون يدَ لامسٍ ، فمن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد، فيا عجبآ، ومالي لا أعجب ؟ والأرض من غاشٍ غشوم ، ومتصدّق ظلوم ، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم .

وقال 7: فقد علمتم أنّ رسول الله 9 قد قال في حياته : «من رأى سلطانآ جائرآ مستحلا لحرم الله، ناكثآ لعهد الله، مخالفآ لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، ثمّ لم يغيّر بقولٍ ولا فعل ، كان حقيقآ على الله أن يدخله مدخله[66] .

وقال النبيّ 9: من تولّى خصومة ظالم أو أعان عليها، ثمّ نزل به ملک الموت ، قال له : أبشر لعنة الله ونار جهنّم وبئس المصير، وقال : من دلّ جائرآ على جور، كان قرين هامان في جهنّم[67] .

وقال : ما قرب عبد من سلطان إلّا تباعد من الله تعالى[68] .

وقال : من نكث بيعة أو رفع لواء ضلالةٍ أو كتم علمآ، أو اعتقل مالا ظلمآ أو أعان ظالمآ على ظلمه ، وهو يعلم أنّه ظالم ، فقد بُرئ من الإسلام[69] .

وقال : أفضل التابعين من اُمّتي من لا يقرب أبواب السلطان[70] .

وقال : من أرضى سلطانآ بما أسخط الله تعالى خرج من دين الإسلام[71] .

وقال : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الظَلَمة وأعوان الظلمة ، من لاق لهم دواة أو ربط لهم كيسآ، أو مدّة لهم مدّةً ، اُحشروه معهم[72] .

وقال الإمام الصادق 7: كان أمير المؤمنين 7 يقول : يا طالب العلم ، إنّ للعالم ثلاث علامات : العلم والحلم والصمت ، وللمتكلّف ثلاث علامات ، ينازع من فوقه بالمعصية ويظلم من دونه بالغلبة ويظاهر الظلمة[73] .

وقال 7: من دخل على إمامٍ جائر فقرأ عليه القرآن ، يريد بذلک عرضآ من عرض الدنيا، لعن القارئ بكلّ حرفٍ عشر لعنات ، ولعن المستمع بكلّ حرفٍ لعنة[74] .

وقال الإمام العسكري 7: سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة ، وقلوبهم مظلمة منكدرة ، السنّة فيهم بدعة ، والبدعة فيهم سنّة ، المؤمن بينهم محقّر، والمنافق بينهم موقّر، اُمراؤهم جاهلون جائرون ، وعلماؤهم
في أبواب الظلمة[75] .

فمن أبرز صفات علماء السوء أن يكونوا على أبواب الظالمين ، وهذا من آفات العلم وهلاک المجتمع ، كما هناک آفات اُخرى ، كما قال أمير المؤمنين علي 7 : آفة العلم العالم الفاجر[76] .

وقال الإمام الصادق ، عن آبائه :، عن أمير المؤمنين 7، إنّ في جهنّم رحىً تطحن خمسآ أفلا تسألوني ما طحنها، فقيل له : وما طحنها يا أمير المؤمنين ؟ قال : العلماء الفجرة والقرّاء الفسقة والجبابرة الظلمة والوزراء الخونة والعرفاء الكذبة[77] .

وقال 7: … ها إن هنا لعلمآ جمّآ (وأشار بيده إلى صدره الشريف ) لو أصبتُ حملةً ، بلى أصبت لِقنآ غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرآ بنعم الله على عباده ، وبحججه على أوليائه ، أو منقادآ لحملة الحقّ لا بصيرة له في أحنائه ينقدح الشکّ في قلبه لأوّل عارض من شبهة ، ألا لا ذا ولا ذاک ، أو منهومآ باللذّة سلس القياد للشهوة ، أو مغرمآ بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شيء شبهآ بهما الأنعام السائمة ، كذلک يموت العلم بموت حامليه[78] .

وقال 7: قد سمّـاه أشباه الناس عالمآ وليس به ، بكّر فاستكثر من
جمعٍ ، ما قلّ منه خيرٌ ممّـا كثر، حتّى إذا ارتوى من ماءٍ أجن ، واكتنز من غير طائل[79] .

وقال 7: لم يعضّ على العلم بضرس قاطع ، يُذري الروايات إذراء الريـح الهشـيم ، لا ملي ـوالله‌ـ بإصـدار مـا ورد عليـه ، ولا هو أهل لما فوّض إليه .

قال الإمام الصادق 7 في تفسير هذه الآية : (الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوونَ ) هم قوم تعلّموا وتفقّهوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا[80] .

وقال الأمير 7: زلّة العالم كانكسار السفينة تَغرق وتُغرق[81] .

نستنتج من أمثال هذه الروايات الشريفة : أنّ العالم لا بدّ أن يكون عاملا بعلمه ، فإنّ له المقام والمنزلة العظيمة عند الله وعند الناس ، وعلى الناس إطاعة العلماء الصلحاء وتوقيرهم وإكبارهم وزيارتهم والجلوس عندهم للاستضاءة بنورهم وتقواهم ، ومراعاة حقوقهم فإنّهم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسول واُمناؤه وحكّام على الناس وعلى الملوک ، ومراجع الاُمّة في التحاكم والقضاء ومراجعهم في العمل والإفتاء.

كما على العلماء أن يواجهوا المنكرات والظلم والجبابرة والمستبدّين ، وعليهم إرشاد الناس وتوعيتهم وتثقيفهم وتنبيههم ، وعليهم نفي البدع ، وإيقاظ الأفكار، ونشر الوعي الإسلامي واليقظة الاجتماعية ، وبثّ روح الإنسانية
وطرد اليأس ، ومراعاة حقوق المحرومين والبؤساء المادية والمعنوية ، وصيانة أموال الناس ورفع الظلم عنهم ، ومعرفة الزمان وأهله ، فإنّ العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس .

كما واجبهم الديني النهوض والقيام لله مثنىً وفرادى ، وإنّ سكوتهم عن الحقّ والعدالة مبغوض عند الله تعالى ، وأنّ الساكت عن الحقّ شيطانٌ أخرس ، ولا يقبل منهم الفرار من الموت ، وتسليم اُمور الدنيا والدين بيد الظالمين ، بل عليهم بذل الدماء لإنقاذ الاُمم ، فإنّ المصيبة الكبرى إهمالهم واجباتهم السياسية والاجتماعية ، ودخولهم فلک السلاطين ، فإنّ واجبهم الجهاد ومحاربة الظلم والفساد، واستلام زمام الاُمور بأيديهم ، فإنّهم ورثة الأنبياء في مسؤولياتهم ومقاماتهم ، إن عقلوا الدين الإسلامي كما هو، والمسؤولية الإلهية التي وقعت على عاتقهم ، أعني القيادة بشؤونها وأعبائها وأهميّتها البالغة ، فإنّ كلّ دين ونظام وكلّ جمهور واُمّة ، لا يرجى لها البقاء والسعادة إلّا بقيادة صالحة ، تعرف وظائفها، وتؤمن برسالتها الخالدة .

وتربية هؤلاء الأعلام من العلماء الصالحين الأتقياء إنّما يكون في المدارس والحوزات الدينية ، فإنّها تحفظ رسالات الأنبياء التي تعني صنع الإنسان ، والعالم اليوم متعطّش إلى الروحانيين وعلماء الدين ، فإنّ البشرية منذ اليوم الأوّل وحتّى عصرنا الراهن وغدآ، تبحث عن الحقيقة وسرّ الحياة ، وتريد كشف العلائق والارتباطات بين الإنسان ونفسه ، ومع ربّه ، ومع الآخرين ، وقد اختلفت الآراء والعقائد والمذاهب في ذلک ، ولا يزال الناس لم يتمكّنوا من معرفة الوجود وما دور الإنسان فيه ؟! ولا زالت الأسئلة الرئيسية التي تطرحها البشرية غامضة الجواب .

فلا زال الإنسان يسأل :

1 ـ من أنا؟

2 ـ من أين أتيت ؟ من أوجدني ؟ من صنعني ؟

3 ـ وإلى أين أذهب ؟

4 ـ ومع من أكون ؟

5 ـ وماذا يراد منّي ؟

6 ـ وما هو المصير؟

فجواب هذه الأسئلة إنّما هو عند الأنبياء وفي نطاق الوحي الإلهي ، فإنّه سبحانه أعرف بخلقه ، وإنّهم أشرفوا على الطبيعة ، وما فيها من الحقائق والأسرار لارتباطهم بالوحي ، ومن حقّهم حينئذٍ أن يقولوا: هكذا كونوا أيّها الناس ، وهذه فلسفة الحياة وسرّ الخليقة …

والعلماء ورثة الأنبياء فيحقّ لهم ذلک ، فإنّهم تخلّقوا بأخلاق الله سبحانه ، حتّى صاروا مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فعرفوا حكمة الخلق وأجوبة المسائل ، فإنّ الدين هو الوحيد الذي يجيب عن تلک الأسئلة ، إلّا أنّ البشر صمّ لا يسمع ، وأعمى لا يرى ، فلا بدّ أن نسعى ونصنع شيئآ ليكون الإنسان ذا سمع وبصر، يرى الحقّ ويسمع نغماته ، ويصلح سريرته وطبيعته ، ويهذّب فطرته ونفسه ، حتّى يعرف كيف يعيش وكيف يموت ، وما فيه خيره وصلاحه ؟ وإلّا فأيّ شيء يقع بيد الإنسان الجاهل ، لو حكمت أنانيّته وحبّ الذات في وجوده ، فإنّه يحرّف موارد استعماله الصحيح ، فيخرّب بدلا من العمران ، ويهدّم عوضآ عن البناء، ويجعل دنياه جهنّمآ، بعد أن كان بإمكانه أن يجعلها مزرعة آخرته ، وتكون جنّته التي يعيش فيها، حياة طيّبة بعيش سعيد ورغيد.

والدين والمذهب الصحيح بيد العلماء الصلحاء، فهم يأخذون بيد الإنسان ليصعـد القمّـة ، ويحلّق بمـا وراء الطبيعـة ، ويفنى في مطـلق الكمـال والكمال المطلق .

وإنّما فعلوا ذلک بعد طيّهم مراحل الكمال وإيمانهم بما فعلوا، فإنّهم إنّما أمروا بعد الائتمار، ونهوا بعد التناهي ، فبدأوا بأنفسهم أوّلا، وطبّقوا القوانين الإلهية في سيرتهم وسريرتهم ، واطمأنّوا بذكر الله سبحانه ، بعد جهادهم النفس وغلبتهم الهوى بالعلم والتقوى ، ولولا ذلک لأنكر البشر نفسه ، ووقع في حضيض الجهالة والتعاسة .

وزبدة الكلام في هذا المقام : إنّ هداية البشر إنّما كانت على يد الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ العلماء، في أدوار ثلاثة .

فإنّ الله سبحانه لمّا تعلّقت حكمته بخلق آدم ليجعله خليفة في الأرض يحمل علمه سبحانه وتعالى ، فأهبطه إلى الأرض ، وجعل يهيّئ له أسباب السعادة ويهديه إلى طرق التكامل ، وما فيه الخير والصلاح ، حتّى يعيش حياة طيّبة وعيشة سعيدة ، ويتمكّن من العود إلى مقام القرب ومنازل الكرامة والدرجات الرفيعة في مقعد صدق عند مليک مقتدر، فبعث لهذا المقصد في بنيه (بني آدم ) رسله وأنبياءه ، وأنزل فيهم كتبه ، فقامت الأنبياء بتربية الناس وتعليمهم وإقامة الحقّ والعدالة ، يدعون إلى رسالة الله وحكومته في الأرض بكلّ ما في وسعهم ببذل النفس والنفيس ليقوم الناس بالقسط ، فحاربوا النفس الأمّارة بالسوء، والطغاة والجبابرة ونفوذهم واخطبوطهم ، ليحـكم العلم والعـدل والإحسان على الأرض في كلّ ربوعه وأقطاره .

وكان للأنبياء في مقاماتهم ورسالاتهم ، أوصياء ونقباء وأئمة ، يخلفونهم في جميع وظائفهم ومسؤولياتهم ، من أجل أن يحفظ الدين ، ويستمرّ نشر التعاليم الإلهية والرسالات السماوية ، ويستحكم اُسس العدالة الاجتماعية .

فجاءت الرسالات هكذا تترى حتّى ختمت بنبيّنا الأكرم محمد 9 فبعثه ليكون سيّد المرسلين وخاتم النبيّين ، فأكمل دينه وأتمّ عليه نعمته بالوصاية والإمامة ، لينقطع الوحي من بعده ، وتختم النبوّة ، ورضي الله الإسلام للناس دينآ إلى يوم القيامة ، ومن يبتغِ غير الإسلام دينآ فلن يُقبل منه ، فإنّ الدين عند الله الإسلام .

فبلّغ النبيّ بما اُمر واستقام على الدين ، وكان كمال الإبلاغ بنصب هادٍ للاُمّة وعلم للملّة حتّى لا يكون العمل بالدين بلا كافل ، ولا يتركون الناس بعد رسول الله سدىً بلا إمام ، ولا يكون الطريق بلا علم ، ولا يكون القرآن بلا ناطق ، ولا تكون المسائل الجديدة بلا مجيب …

فوصّى النبيّ بخليفته إمامآ للناس ، والوصاية سنّة ثابتة في الأنبياء قد تحقّقت في الماضين ، فلا بدّ أن تتحقّق في الآخرين (سُنَّة اللهِ في الَّذينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديلا)[82] ، ولا سيّما في الدين الإسلامي الحنيف ، فإنّ النبيّ الخاتم الذي ينقطع برحلته الوحي فلا نبيّ بعده ، أولى أن ينصب للاُمّة ـبنصّ ووحي من الله وأمره ـ من يليق أن يخلفه ويديم رسالته ، يكون بمنزلة نفسه وبعصمته ، حتّى لا يخلو المجتمع عن ناطق عن الله وعن رسوله ودينه ، وهذا أمر يرشد إليه العقل ويحكم به الشرع والفطرة السليمة .

«ولأجل ذلک أقام نبيّنا 9 عليآ أمير المؤمنين 7 علمآ للاُمّة وناطقآ عن الكتاب والسنّة وناشرآ للإسلام الصحيح ـوذلک في واقعة الغدير وغيرهاـ.

وعند هذه المرحلة من التأريخ ـتأريخ دين الله على الأرض ـ قد تمّ دور التشـريع والتقنين وبـدأ دور التفسير والتبيين ، وذهبت النبوّة وخلّفتها الإمامة .

وكان واجب الاُمّة حينئذٍ أن يعملوا بوصايا المشرّع الأعظم فيرتضوا عليّآ علمآ لهم ، وإمامآ ومرشدآ وهاديآ، بعد موت النبيّ 9، كما نصبه النبيّ نفسه ، غير أنّ الاُمور جرت على العكس من هذا الواجب ، فانقسم المسلمون قسمين : إمامي وغير إمامي ـ يتمثّل بالخلافة الظاهرية من قبل السقيفة ، فتكوّنت مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت :ـ يعني الذين اتّبعوا الإمام الذي نصبه النبي 9 والذين تركوه ، فبذلک بدأ دور الإمامة ـمدرسة أهل البيت :ـ من ناحية ، ودور الخلافة ـمدرسة الخلفاءـ من ناحية اُخرى . وكلّما بعد العهد عن الوحي وعن حياة النبيّ، زادت الشقّة وكثر التباعد، حتّى ظهرت في حقل الخلافات الإسلامية اُمور لا تمتّ إلى الإسلام بوشيج صلة … وحيث جرت الوقائع على تلک الأحداث ، قد صعب الأمر على خلفاء الرسول الواقعيين ، وسدنة الإسلام الصادقين ، إذ مثّل أمامهم أمران مهمّان باهظان ، وهما :

1 ـ نشر الدين فيمن لا يعلم .

2 ـ حفظ الدين فيمن لا يعمل .

وهناک قاموا بهذين الواجبين ، قيامآ شاقّآ كادّآ مستوعبآ فجرّعوا المصائب والآلام ، وكابدوا المشاقّ والمحن ، فاستمرّت حياتهم بين سجنٍ وسبي وتشريد وقتل وما إلى ذلک ، وصار الأمر كما قال ابن خلدون : «وطُلَّت دماء أهل البيت في كلّ ناحية »[83] . وكما قال الدكتور علي سامي النشّار المصري : «… وبدأ أبناء فاطمة يكتبون بدمائهم أكبر الملاحم ، ومات الحسن مسمومآ، وقُتل الحسين ابن علي وابن فاطمة مقتلةً لم يعرف الزمان لها مثيلا، وتولّى آل مروان أعناق المسلمين بالسيف … وقُتل زيد بن علي في ملحمة اُخرى قاسية وعنيفة …»[84] .

وكان كلّ ذلک حفظآ للإسلام عن التحريف ، وصيانة للعدل والإحسان عن الخذلان .

وقام الأئمة أيضآ بتربية اُناسٍ من الاُمّة ، وثلّة من الجهابذة والأفاضل ، وطائفة من كبار الثوريين والمتحمّسين ، وهم وهؤلاء، قد حفظوا تراث الدين وحقائق أحكام النبيين ، وحرسوا تعاليم القرآن في جميع أبعاده التوحيدية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والأخلاقية ، والعملية ، عن أيّ زوالٍ أو تحريف ، رغم المضايقة والإرهاب الذي كان يحيطهم .

ولمّـا انتهى عصر الإمامة ـبعد مضيّ 260 سنة من الهجرة القادسة ـ وجاءت دورة الغيبة للوصيّ الثاني عشر 7 (وذلک لسوء اختيار الناس في تركهم حماية الحقّ وأهله )، بدأ عصر العلماء، وذلک لأنّ الأئمة قد أورثوهم علوم الإسلام وتعاليمه ، وحملوا الناس على أن يرجعوا إليهم ، لأخذ تلک العلوم والتعاليم والعمل على وفقها وتطبيقها، فما جرى على وجه الأرض من اللطف الإلهي بالناس ، في تتابع رسالاته لهدايتهم وإرشادهم ، تتمثّل في ثلاثة عصور :

1 ـ عصر الأنبياء.

2 ـ عصر الأوصياء.

3 ـ عصر العلماء.

وإلى هنا قد ظهر للقارئ الكريم أنّ العالم الشيعي الاجتماعي ـالذي يتصدّى للمناصب الدينية ولا سيّما المرجعية العظمى ـ هو خليفة النبيّين ووصيّ الصدّيقين ، ووارث النبيّين .

العالم الإسلامي ، هو الممثّل للعصر الثالث من العصور الثلاثة من رسالات الله على الأرض ، فهو حجّة الله ـبالمعنى الأعمّ ـ لأنّه حجّة الإمام ـكما جاء في الحديث ـ والإمام حجّة الله تعالى ، فالعالم حجّة الله على الناس بواسطة الإمام . وعلى هذا لا يصحّ أن يتصدّى لهذا المقام إلّا من له صلة تامّة ، من حيث المواصفات ، بأصحاب العصرين السابقين ، وبذلک يتمّ لطف الله على الناس وتدوم رسالة الله على الأرض .

وهناک أهمية اُخرى لهذا المقام في الأقاليم الشيعية ، وهي ما ترجع إلى كيان الإسلام وبقائه وبسطه واعتلائه ؛ وذلک لأنّ المرجع لدى الشيعة هو الحافظ للإسلام وديمومته ، والحارس لجميع ما يتعلّق بالمجموعة الإسلامية . وهو الملاذ الوحيد لما هناک من القوادح والمخاطرات من جهة السياسة والاقتصاد والثقافة ؛ وهو المكافح أمام التيّارات المضادّة الداخلية والخارجية من ناحية أعداء الإسلام من اليهود والمسيحيين وغيرهم ؛ ومن ناحية المقتدرين والجبابرة والخونة ، والذين ظهروا في مقامات الحكّام والاُمراء والرؤساء والسلاطين المسلمين ، غير أنّهم عملاء الأجانب وخدمة أعداء الإسلام ؛ كذلک التيّارات والمضادّة من ناحية المذاهب الفكرية والاعتقادية الباطلة ، والشيوعية والماسونية
والصهيونية والاستكبار العالمي ، والقوانين الموضوعة بيد الحكومات اللاإسلامية[85] . أضف إلى ذلک كلّه ، ما يجب أن يتمتّع به ذلک العالم المرجع ، من معايشته لآلام الناس واطّلاعه على مشاكلهم ، وتحنّنه عليهم والوقوف بجانب المستضعفين واسترداده حقوقهم ، ودفاعه عن مظلومهم ، وعدم قراره على كِظة ظالم ولا سغب مظلوم[86] ، وكذلک اطّلاعه على الثقافات العصرية والمواضيع الاقتصادية الحديثة[87] والمشاكل البشرية الحاضرة (الحوادث الواقعة ).

وكلّ ما أشرنا إليه ، يدفع المسلمين إلى أن يمعنوا النظر في هذا الأمر،
وأن لا يغفلوا عمّـا له من الأهميّة الكبرى ، وأن يجعلوا رجوعهم إلى العالم على ميزانٍ دينيّ دقيق وانتباه سياسي واجتماعي ، له أثره في بقاء عزّة الدين واعتلاء الإسلام .

ولأن نلقي ضوءآ على هذا الأمر، أكثر من ذي قبل ، نقدّم هذا الموضوع إلى القارئ الكريم :

المرجعيّة ومؤهّلاتها : لقد مرّت مواصفات ينبغي أن تتوفّر لدى العالم المسلم ، وهي التي يجب أن تكون في المرجع القائد ـوهو الذي يخلف الإمام وينوب عنه في المجتمع ـ بشكلٍ أولى ؛ غير أنّنا نشير هنا إلى ميزاتٍ مهمّة لا بدّ من أن يكون المرجع الديني واجدآ لها، مستوعبآ إيّاها، حتّى تتاح له القيادة والتوجيه :

1 ـ العقليّة العملية بسعتها وعمقها المطلوب .

2 ـ الاعتداد التامّ بالاستشارة وتبنّيها أصلا، كما حثّت عليها التعاليم الإسلامية حثّآ.

3 ـ تفهّم موقف الإسلام الصحيح ، تجاه مختلف القضايا المطروحة .

4 ـ الفطنة وحدّة الفهم والبصيرة ، والقدرة على معرفة الواقع الشرعي ، بالنسبة إلى ما يكتنفه من الحقائق الزمنيّة .

5 ـ الوعي السياسي الناضج .

6 ـ الوعي الاجتماعي الشامل .

7 ـ الوعي الاقتصادي في أشكاله الحديثة ، والتصلّب في تطبيق العدالة المالية والمعيشية بين الجماهير، بأن يوضع كلّ شيء في موضعه ويصل كلّ واحد إلى حقّه .8 ـ النزاهة و«الحياة القلبية »، والتحلّي بمكارم الأخلاق .

9 ـ الشجاعة والجرأة في إحقاق الحقّ ، واسترداد حقوق المستضعفين ، حتّى يتسنّى له أن يجعل كلمة الله هي العليا.

10 ـ معايشة المشاكل التي تحيط بالجماهير، والتفكّر الموضوعي لمعالجتها على ضوء تفهّمه لروح العصر الذي يعيش فيه .

11 ـ وعي الواقع الإنساني ولمس الفقر والآلام التي تكتنف المحرومين والمضطهدين .

12 ـ مقاطعة الأغنياء التاركين لواجباتهم الدينية ومسؤولياتهم الاجتماعية ، والمترفين الذين لا يحسّون بآلام الفقراء والمجتمع المحروم ، وقطع النظر عن أموالهم ونفقاتهم في أيّ سبيل كانت (لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مالا)[88] ، حتّى يتاح له الوقوف في صفوف المظلومين والمغصوبين ، قولا وعملا معآ.

المرجعية ومنافياتها : بعد أن علمنا مؤهّلات المرجعية والميزات التي تجعلها تنوب عن دعوة الأنبياء والأوصياء، لا بدّ من أن نتحرّى الاُمور التي تنافي القيادة الدينية ، فإنّ لكلّ شيء وأمر إيجابآ وسلبآ، فلا بدّ من الإشارة إلى سلبيات المرجعية ، لكي يكون الناس على بصيرة من أمرهم ، تجاه هذا الأمر المصيري في حياة الاُمّة ، وإليک بعضآ منها :

1 ـ ضحالة الفهم السياسي والاجتماعي وعدم استيعاب العلاقات المؤثّرة
والمتأثّرة ، الفردية والاجتماعية ، بين المجتمع الإنساني[89] .

2 ـ عدم وعي الإسلام بجميع جوانبه كدين حيّ حاكم في الحياة .

3 ـ الميل إلى الحياة الدنيا وتضاؤل ملكة التقوى والورع .

4 ـ تخلّل الأهواء وانحسار حاكميّة العقل والبصيرة .

5 ـ السكوت أمام الجبابرة والمعتدين ، وترک مواجهتهم ، تجنّبآ لمكروههم .

6 ـ الإحساس بالضعف والذلّ ، والتشاؤم من العمل والتحرّک في الاُمّة ، والوقوف عند الأهداف المرحليّة الضيّقة .

7 ـ التفقّه بغير علمٍ (بمعناه الواسع الذي أشرنا إليه ).

8 ـ عدم الإخلاص في المواقف والمفاهيم والمشاعر.

وبشكلٍ عامّ ، أيّة صفة أو حالة تضادّ ما عدّدناه في المؤهّلات ولا تناسب طبيعة موقفهم ، كخلفاء لخلفاء الله في الأرض ، اُوكِل إليهم استكمال المسيرة التي اُريقت فيها دماء الأنبياء والأوصياء ـعبر القرون الطوال من صراع جند
الحقّ وجند الباطل ـ فهي منافية لهذا المقام الديني والمسؤولية الكبرى[90] .

هذا إجمال ما أردنا ذكره وبيانه ، في خصائص القائد الإسلامي ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ على الاُمّة الإسلامية في كلّ بلادها بحكومات إلهية تسلک شرائع الأنبياء، وتنهج مناهج الإسلام ، وتطبّق القرآن الكريم والسنّة الشريفة في مجتمعاتنا بقيادة صالحة ، ومرجعية رشيدة ، وقائد إسلامي ورع تقيّ فقيه حاذق ، تجتمع فيه المواصفات الإسلامية والخصائص القرآنية ، وعلى كلّ مسلم أن يمهّد الطريق ويوطّئ السبيل لظهور دولة الحقّ العالمية ، فإنّه في ليله المدلهم يسرج الشموع ليضيء ما حوله ، وإن كان منتظرآ لبزوغ الشمس وشروقها، أليس الصبح بقريب ، نصر من الله وفتحٌ قريب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .

[1] () طبع موجز هذا الموضوع في مجلّة (نور الإسلام ) الصادرة في بيروت ، العدد 41 و42،سنة 1414 ه .

[2] () سفينة البحار :3 319.

[3] () الأنبياء: 73.

[4] () آل عمران : 164. الجمعة 2.

[5] () آل عمران : 20.

[6] () الأحزاب : 39.

[7] () التوبة : 122.

[8] () الإسراء: 82.

[9] () البقرة : 185.

[10] () البقرة : 2.

[11] () الفرقان : 63.

[12] () الأعراف : 199.

[13] () الشورى : 15.

[14] () المزّمّل : 10.

[15] () مريم : 31.

[16] () المجادلة : 21.

[17] () الفاطر: 28.

[18] () التحريم : 6.

[19] () فاطر: 28.

[20] () الأنعام : 122.

[21] () البقرة : 269.

[22] () منية المريد: 12.

[23] () البحار :2 4.

[24] () الكافي :1 34.

[25] () الزمر: 9.

[26] () البحار :1 208.

[27] () نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده :3 186.

[28] () أمالي الصدوق : 19.

[29] () تحف العقول : 302.

[30] () المجادلة : 11.

[31] () البحار :1 204.

[32] () غرر الحكم : 285.

[33] () تحف العقول : 187.

[34] () عدّة الداعي : 66.

[35] () البحار :1 198، عن أمالي الصدوق .

[36] () البحار :1 203، عن جامع الأخبار.

[37] () الكافي :1 37.

[38] () البحار :1 222، عن الاختصاص .

[39] () تحف العقول : 141.

[40] () الصفّ : 2 ـ 3.

[41] () تحف العقول : 289.

[42] () عدّة الداعي : 67.

[43] () البحار :1 255.

[44] () البحار :2 32.

[45] () الكافي :1 44.

[46] () عدّة الداعي : 67.

[47] () الكافي :1 36.

[48] () البحار :2 37، عن كنز الفوائد.

[49] () غرر الحكم : 134.

[50] () الكافي :1 44.

[51] () الوسائل :11 420.

[52] () عدّة الداعي : 70.

[53] () غرر الحكم : 220.

[54] () نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده :1 202.

[55] () البحار :100 85.

[56] () البحار :2 89.

[57] () تحف العقول : 31.

[58] () منية المريد: 10.

[59] () الوسائل :18 101.

[60] () تحف العقول : 172.

[61] () تحف العقول : 198.

[62] () نهج البلاغة : 52.

[63] () الكافي :1 42.

[64] () تحف العقول : 171.

[65] () تحف العقول : 172.

[66] () المصدر.

[67] () البحار :102 293، عن أمالي الصدوق .

[68] () ـ (5) نوادر الراوندي : 4 ـ 27.

[69]

[70]

[71]

[72]

[73] () الكافي :1 37.

[74] () البحار :92 184، عن الاختصاص .

[75] () المستدرک :2 322.

[76] () غرر الحكم : 137.

[77] () الخصال :2 142.

[78] () نهج البلاغة ، شرح محمد عبده :3 187.

[79] () نهج البلاغة ، شرح محمد عبده :1 48.

[80] () البحار :2 298، عن تفسير العياشي .

[81] () غرر الحكم : 188.

[82] () الأحزاب : 62.

[83] () تأريخ ابن خلدون :4 3، طبعة بيروت .

[84] () نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام :2 و ـ ط ، طبعة مصر، دار المعارف .

[85] () جاء في تعاليم الإمام علي 7 قوله هذا: «علّموا صبيانكم ما ينفعهم الله به ، لا تغلب عليهمالمرجئة » (الخصال : 614). يدلّنا هذا الكلام على أنّ مجابهة الانحراف العقيدي والسياسيوالاقتصادي والاجتماعي وإنقاذ المجتمع منه ولا سيّما الناشئة ، لا طريق لها إلّا العلم والانتباهوالتوعية ، ولأجل ذلک فالإمام يأمر بأن نعلّم الصبيان ما ينفعهم الله به ، لكي لا تغلب عليهمالطوائف المنحرفة ، ولأن يكونوا قادرين على طرد الآراء الزائفة والأفكار المدسوسة التي تغرّالشباب وتضرّهم .هذه التعاليم تعلّمنا بوضوح ، أنّ حوزة الزعامة الدينية يجب عليها أن تكون مشرفةعلى جميع التيّارات الفكرية والعقيدية والقضايا الاقتصادية ومسائل الإنسان الحديث ،إشرافآ كاملا، وأن تقوم بنقد الزائف منها وبتّ الصحيح الناجع وأن توقف النفوس عليهاـحتّى الصبيان ـ إيقافآ يكون فيه سلامتها واستقامتها في سبيل الحقّ والفضيلة . وعليها أنلاتخاف ضجّة الغوغاء التي يقوم بإيجادها الجبابرة الاقتصاديون وأصحاب الثروات الطائلةحفظآ لكيانهم ومنافعهم .

[86] () نهج البلاغة : 52، عبده :1 32.

[87] () حتّى لا ينخدع بتمويهات الأغنياء المترفين والمتكاثرين .

[88] () هود: 29.

[89] () قالوا: إنّ الفقيه العالم الكبير، السيّد محمد الطباطبائي الفشاركي الإصفهاني (م 1316 ه ق)،لمّـا رجعوا إليه ، بعد رحلة اُستاذه الميرزا محمد حسن الشيرازي الكبير (م ـ 1312 ه ق )لتسلّم المرجعيّة والزعامة الدينية ، قال : «إنّي لست أهلا لذلک » لأنّ الرئاسة الشرعيةتحتاج إلى اُمور، غير العلم بالفقه والأحكام ، من السياسات ، ومعرفة مواقع الاُمور…»(فوائد الرضوية :2 594).وهذا العالم الزاهد اليقظ المتثبّت ، كان من أعاظم فقهائنا الربّانيين ، وكان يدرّس في حياةاُستاذه الميرزا الشيرازي ، ولقد تخرّج عليه أعلام كالميرزا محمد حسن النائيني (م 1355 ه ق)والشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (م 1355 ه ق )، ولقد وُصف في كلمات بعض الأجلّةبـ«الاُستاذ الكبير» (ريحانة الأدب :3 220).

[90] () اقتباس من كتاب «الحياة » :2 374.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى