هل يوجد في الجنّة تكامل
نعم إنّ التكامل موجود هناك قطعاً ولا يبقى أهل الجنّة يراوحون في أماكنهم، بل هم يقتربون- بفضل اللَّه ولطفه ورحمته- نحو ساحة قدسه يوماً بعد يوم، ويواصلون سيرهم في التقدم صوب القرب إلى اللَّه.
وليس مفهوم هذا الكلام وجود العبادات والطاعات والأعمال هناك، لأنّ الجنّة ليست دار التكليف، فالمقوّمات الأوّلية للتكليف معدومة هناك، بل هم يواصلون مسيرتهم التكاملية في ظل أعمالهم المنجزة في الدنيا، تماماً كالأشجار المثمرة التي يغرسها الإنسان مَرّة واحدة، فتمتد جذورها وتخرج منها فروع وأغصان هنا وهناك حتّى تعم السهول والصحارى، أو كسفينة الفضاء التي تحتاج في بداية انطلاقها وخروجها عن مجال جاذبية الأرض إلى طاقة عظيمة، ولكنها بعد الخروج من هذا المجال تواصل حركتها- إذا لم تصطدم بمانع- من غير حاجة إلى أي وقود جديد.
وهناك آيات قرآنية تشير إلى هذه القضية، وتتحدث عن أصحاب الجنّة كما هو في قوله تعالى : {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكرَةً وَعَشِيّاً} (مريم/ 62).
ويتضح جلياً من خلال الآيات السابقة لهذه الآية أنّ هذا الوصف ينطبق على جنّة الآخرة التي عبّرت عنها بكلمة «جنّات عدن» لا على جنّة البرزخ، وهنا يتبادر سؤال إلى الأذهان وهو إذا كانت الآيات الشريفة تشير إلى أنّ أهل الجنّة لهم فيها ما يشتهون في أي وقت وزمان، فما هي هذه العطايا والفضائل التي تُمنح لهم في كل بكرة وعشيّ؟
من المؤكد أنّها فضائل وأرزاق مادّية ومعنوية تقدّم لهم في هذه الأوقات، إضافة إلى رفعهم نحو درجات أسمى وأعلى.
وورد حديث عن النبي صلى الله عليه و آله يُلقي الضوء على هذا الموضوع يقول فيه : «وتأتيهم طُرف الهدايا من اللَّه تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلّون فيها في الدنيا، تسلّم عليهم الملائكة» «1»، وهنا يثار سؤال آخر تُفرزه تعابير الآية، فحينما لا وجود لليلٍ ولا نهارٍ في الجنّة فكيف تكون هناك بكرة وعشّياً؟
ويمكن الإجابة عن هذا السؤال كما يأتي :
إنّ الجنّة وإن كانت مضيئة بالنور دائماً إلّاأنّ ذلك ليس على وتيرة واحدة على الدوام بل هو في حالة توهّج وخفوت يتيح لأهل الجنّة تحديد الليل من النهار تماماً مثل المناطق القطبية التي تمر عليها ستّة أشهر كاملة والوقت فيها نهار، إلّا أنّه يمكن تحديد الليل والنهار من خلال زيادة ونقصان درجة النور.
وبالنظر لاستعصاء هاتين القضيتين (قضية الرزق الجديد وقضية البكرة والعشي) على الكثير من المفسرين، فقد طرحوا بشأنها آراءً وتبريرات متعددة تتعارض في الغالب مع ظاهر الآية ككونها كناية عن دوام النعمة، حيث كان من المتعارف بين العرب أنّ من يملك طعام الصباح والمساء (البكرة والعشي) يُعتبر غنيّاً، أو أنّ النعم الإلهيّة تأتيهم متوالية وبفواصل زمنية تعادل الليل والنهار في هذه الدنيا.
ومن الواضح أنّ جميع هذه الآراء تخالف ظاهر الآية، أليس من الأفضل القول بوجود نوع من الليل والنهار الحاصلين من خلال اشتداد وانخفاض درجة الضياء ووجود نوع من الرزق مُستمد من فضل اللَّه وألطافه ومبشّر بطيّ مسيرة التكامل، بحيث ينطبق مع ظاهر الآية أو لا يتعارض معه كثيراً!؟
وهناك حديث نُقل عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال : «والذي أنزل الكتاب على محمد إنّ أهل الجنّة ليزدادون جمالًا وحُسناً كما يزدادون في الدنيا قباحةً وهرماً» «2».
وهذا الحديث يُظهر بوضوح التكامل التدريجي لأصحاب الجنّة وإن كانت فيه إشارة إلى الجوانب الجسمانية فقط، لكن من البديهي أنّه يتضمن أيضاً الأبعاد الروحية من باب أَولى.
_________________________
(1). تفسير روح المعاني، ج 16، ص 103؛ وتفسير القرطبي، ج 6، ص 4166، ذيل، الآية مورد البحث.
(2) علم اليقين، ص 103، (استناداً على ما نقله في المعاد، كلام فلسفي).