مقالات

كف الأذى من مصاديق الرحمة

مما لا شك فيه أن كفّ الإنسان أذاه عن الناس من أهم مصاديق الرحمة والرأفة بهم، وهو سرّ السلم الاجتماعي الذي ينشده الجميع ويسعى إلى تحقيقه، وهذا ما نادى به الدين الحنيف وجعله من أولويات القيم الرسالية التي حملها أولياؤه وأشاعوها بين الناس ليسود الخير ويعمّ الأمان،

ويُصان كلا الطرفين الفرد والمجتمع من الأذى والضرر والآفات الخطيرة. إن أهمية هذا السلوك الرفيع تكمن في أثره البالغ الذي يتركه على صعيد الحفاظ على الحقوق بمفهومها المادي والمعنوي،

وهذا ما جعل منه محطة للعناية والاهتمام من قبل الشريعة المقدسة، حيث وردت الكثير من النصوص القرآنية المباركة التي تدعو إلى الإحسان إلى لآخرين كقوله تبارك وتعالى:( وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ، أما الأحاديث الشريفة فقد أكدت هي الأخرى على المبدأ ذاته، حيث كان في صدارة من سلك هذا النهج نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) عندما رسم ملامح هوية المسلم وأشار بكل شفافية ووضوح إلى شرط إسلام المرء وتعلقه بكفّ أذاه عن الناس، حيث يقول (صلى الله عليه وآله) : (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) . وهكذا كانت سيرة حفيده إمامنا محمد بن علي الجواد (عليه السلام) في الدعوة إلى التأدب والتخلق بهذا الخلق الذي يتقدم جملة من الخصال الحميدة والسجايا الكريمة أراد الإمام (عليه السلام) أن يرسخها في وجدان الأمة، ويجعلها سلوكاً سائداً في حياة أبنائها، حيث يورد في إحدى وصاياه المباركة هذا المعنى فيقول:( حَسْبُ الْمَرْءِ مِنْ كَمَالِ الْمُرُوءَة أَنْ لا يلقى أَحَداً بِمَا يَكْرَهُ، وَمِنْ عَقْلِهِ حُسْنُ رِفْقِه‏، وَمِنْ حُسْنِ خُلُقِهِ كَفُّهُ أَذَاهُ..‏) ، يستهلّ الإمام (عليه السلام) وصيته القيمة هذه بذكر ما يؤهل ويرفع من مروءة الإنسان ويجعله يرتقي في هذا المجال إلى حيث الذروة والكمال، فيجملها بالحث على التلطّف والتودد إلى الآخرين بالابتعاد عن كل ما يسيئهم ويكرهون سماعه، ففي ذلك صيانة كرمتهم وحفظاً لمشاعرهم. ثم تنتقل وصية الإمام (عليه السلام) لتبين الأهمية البالغة للعقل ورجاحته وانعكاس ذلك على علاقة الإنسان بمحيطه الخارجي، فنجده (عليه السلام) يؤسس بقوله: (وَمِنْ عَقْلِهِ حُسْنُ رِفْقِه) لمبدأ أنساني غاية في الرقيّ ينسجم مع الفطرة السليمة يوظَف فيه العقل لكل أعمال البر والإحسان، فكلما كان المرء ذا عقل راجح يُميّز بين الحق والباطل والحَسن والقبيح، ويتمتع بفكر يتسع لفهم الآخرين والانفتاح عليهم، كان الرفق والعفو الرحمة السلوك الغالب على جميع حركاته وسكناته. أما الجانب الآخر الذي تضمنته وصية إمامنا الجواد (عليه السلام) وقدمنا له في هذه الوقفة فهو كف الأذى عن الناس، فقد أكّد (عليه السلام) ضرورة أنّ يتخلق الإنسان بهذا الخلق لبلوغ غايته في العيش الكريم والحياة الطيبة، ويتوسم بالحُسن والجمال الخُلقي، ودعا ليكون سجية متأصلة فيه، كما لا يخفى أن لهذا السلوك الإيماني أثراً في علاقة الإنسان، إذ يتوجب على المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويتعامل مع الآخرين بمثل ما يحب أن يعامل به من صدق ووفاء وإخلاص، وينأى بنفسه عن الأذى والإساءة إلى الآخرين بكل أشكالها المادية والمعنوية، فلو كان يكره منهم الغيبة ــ على سبيل المثال ــ فيلزم أن لا يغتاب أحداً، ولا يستمع إلى الغيبة مطلقاً، وهذا ما جسّده النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في حديثه الآنف الذكر حين شدّد على ضرورة إشاعة السلم بين الناس، والابتعاد عن أذاهم، حيث نجده (صلى الله عيه وآله) يقدم اللسان على اليد على الرغم من أن الإيذاء باللسان أسهل وأيسر، ولكنه أشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد، كما أكد على محاسبة المرء لنفسه دائماً على كلّ لفظ أو تصرف سيء يصدر منه تجاه الآخرين. من هنا يمكن أن ندرك جانباً مهماً من طبيعة الدور الرسالي الذي اضطلع به تاسع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) الإمام الجواد (عليه السلام)، الذي لم يدخر جهداً في سبيل نشر الفضيلة والخلق الحسن، وإعداد الجماعة الصالحة التي تحمل مشعل العلم والفكر والنهج الإسلامي الأصيل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى