مقالات

الإعجاز، أوّل دليل على النبوّة

قال تعالى : {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف : 106 – 108]

(الأعراف/ 106- 108)

– {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 49]

ان لفظة ال «معجزة» لم ترد في القرآن بالمعنى المصطلح عليه اليوم أبداً، بل إنّ ألفاظاً أخرى من قبيل‏ «آية» و «بيّنة» و «برهان» قد حلّت محلّها، وعلى الرغم من إطلاق هذه الألفاظ الثلاثة في القرآن على معاني أخرى أيضاً، فانّ «المعجزة» أحد معانيها.

الآيات المختارة المذكورة هي من أجلى الآيات التي تتحدّث عن المعجزة بالاستفادة من هذه الألفاظ الثلاثة، بالإضافة إلى‏ بعض الآيات الأخرى التي تعكس مفهوم ضعف الإنسان وعجزه عن مقابلة بعض ما يقوم به الأنبياء من بعض الممارسات الخارقة للنواميس الطبيعية بالمثل، بالرغم من خلوّها من كلّ واحدة من هذه الألفاظ الثلاثة، وبالنتيجة فهي تثبت استعانة الأنبياء ب «الإعجاز» للتدليل على حقّانيتهم من جهة، ومطالبة الناس ب «المعجزة» من جهة أخرى.

ورد في الآية الاولى‏ : {قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِي ثُعْبَانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِي بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.

إذ نرى هنا أنّ فرعون قد اعتبر المطالبة ب «آية» أي‏ «معجزة» حقّاً مشروعاً له، ومن المعلوم أنّ موسى قد وافق بدوره على هذا الطلب برحابة صدر، وجاء بنموذجين من معجزاته. وبهذا فهذه الآيات تعتبر الأمور الخارقة للعادة (المشروطة) تمثل الطريق لمعرفة الأنبياء عليهم السلام.

هذه الآيات لم تقل أبداً أنّ هذا الشي‏ء قد تجسّم أمام أنظار فرعون، بل تحكي عن حقيقة متحقّقة ألا وهي استبدال العصا بثعبان رهيب، وبياض يد موسى حينما أخرجها من جيبه، كما أنّ التعبير بال «مبين» إشارة إلى‏ نفس هذا الشي‏ء أيضاً.

يحتمل أن يكون السبب وراء اختيار هاتين المعجزتين يعود إلى‏ امتلاك إحداهما ميزة الإرهاب للمستكبرين والمعاندين وتهديدهم، والأخرى ميزة الترغيب لإيمان المؤمنين، على أمل أن يمتزج «اللين» ب «الشدّة» ليقدما معاً دواءً شافياً للعباد.

و في الآية الثانية تمّت الإشارة بقوّة إلى‏ معجزات السيّد المسيح، وتمّ التعبير عنها بال «آية»، وكان ذلك في وقت بشّرت فيه مريم عليها السلام بولادة المسيح عليه السلام، إذ قال تعالى : {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ}.

وقد تمّ في هذه الآية ذكر مجموعة من معجزات السيّد المسيح : خلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص الذي يستحيل علاجه، وإحياء الموتى، والتي تمّت كلّها بإذن اللَّه بالإضافة إلى‏ الإطّلاع على الأمور الخفيّة وأسرار الغيب.

لم تكن معجزة المسيح لتنحصر بهذه المعاجز الأربع فحسب، إذ إنّ هناك خوارق أخرى للعادات قد نقلت عنه في القرآن الكريم، من جملتها تكلّمه في المهد، ونزول مائدة من السماء على الحوارين بدعائه.

والمعروف هو أنّ اختيار اللَّه لقسم من هذه المعجزات للمسيح عليه السلام، إنّما كان بسبب انتشار العلوم الطبيّة وتطوّرها في ذلك الزمان، وحاجة الناس الماسة إلى‏ مهنة الطبابة نظراً لشيوع الأمراض آنذاك، فوضع اللَّه هذه المعجزات الخاصّة تحت تصرّف المسيح، ليتعرّف به العالم وغيره ويستسلم له ولتتجلّى عظمة إعجازه بشكل أكبر «1».

هذه الملاحظة أيضاً جديرة بالاعتبار وهي وجود نوع من التنسيق بين هذه المعجزات الماديّة، وبين البرامج المعنوية والتربوية للسيّد المسيح : فلقد ربى بدعوته هذه أناساً متفتّحين على أفكار ومعارف جديدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، شفاء المرضى الذين يستحيل علاجهم على يديه، وإحياء ضحايا وادي الضلال وهداهم، ومسح بأسرار الغيب وأنوار المعرفة على القلوب، وبهذا كانت تلك المعجزات الماديّة متناسبة مع هذه الأهداف المعنوية.

صحيح أنّ «المعجزة» يجب أن تكون عملًا خارقاً للعادة بحيث يعجز الكلّ عن الإتيان بمثله، لكن اللَّه الحكيم الذي يتصرّف بحكمة، قد اختار المعجزات طبقاً لبرنامج مدروس.

هذه الملاحظة أيضاً جديرة بالتأمّل والتفحّص وهي أنّ التعبير ب «إذن اللَّه» قد تكرّر مرّتين في هذه الآية، لئلّا يضل الجهّال في وادي الشرك أو يبالغوا في درجة النبي إلى‏ مرتبة الغلو، خصوصاً وأنّ كيفية خلق عيسى كانت بشكل يساعد على تهيئة الأرضية المناسبة للغلو في أفكار قصيري النظر، ولذا فقد تمّ التأكيد مراراً على إذن اللَّه وأمره لئلّا يذهب بهم خيالهم إلى‏ اتّصافه واقعاً بصفات الربوبية، وكون هذه الأعمال صادرة منه بنفسه، بل ليعلموا أنّها جميعاً من عند اللَّه.

_________________________
(1) وردت هذه الملاحظة في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام (بحار الأنوار، ج 11، ص 70).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى