مقالات

الإمامة بين التنصيص والاستبداد

تعتبر الإمامة منصبا إلهيا خاصّا, وشكلا من أشكال الولاية الإلهية كما النبوة, وهي ما جسّدته الدعوة النبوية لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) , مع وجود فارق أساسي بينهما, يتجلّى في الوحي الإلهي,

فالإمامة درجة تتلو النبوة وتشترك معها في جهات كثيرة غير الوحي, لأن الوحي مختص بالنبوة فقط, وعليه فإن النبوة تأسيس للرسالة السماوية,

والإمامة حافظة لمبادئها ومعطياتها من الدجل والدسيسة, ومن كلّ ما يشينها من الخرافات والتخرّصات بنيابتها وامتدادها الطبيعي, كما أنها من ضرورات حياة المجتمع الإنساني الملحّة, وذلك لأمرين, الأول: لأنها تلبّي نداء الفطرة السليمة في حاجتها إلى قيادة نزيهة عن الخطأ والخطيئة, لتقود المجتمع في مسيره التكاملي, حيث يكون الإمام أسوة ومثلا أعلى من جميع الجهات لاسيّما العبادية والروحية, الثاني: تطبيق القوانين السماوية والتشريعات الإلهية الكاملة والتي تجاوزت مراحل التجربة وما يستتبعها من النقصان والزيادة, لتسمو بالمجتمع إلى حيث سعادته ورضاه وتضمن له العيش برغد وكرامة, وعليه فإن الإمامة وبما تتمتع به من مفردات وعناوين مختلفة أهمّها القيادة لا بدّ لها من النزاهة قولا وعملا, والابتعاد عما يشينها من كل رجس وذنب, فلا يمكن للإمام العاصي والخطّاء مثلا إنقاذ الأمة من براثن الفتن والضلالة وهو منغمس فيها, فالإمام الذي يغلبه هواه ويصرعه مطمعه وتتجاذبه الأهواء كيفما شاءت أنّى له قيادة أمة برمّتها وأمرها بالمعروف ونهيها عن الغيّ والمنكر, وسوق الأمة إلى شاطئ البرّ والأمان, ومما مرّ نخلص إلى القول بلزوم العصمة وأنها من مقومات الإمامة الأساسية, كما ذكرها علماؤنا الأعلام في كتبهم العقائدية بإسهاب, فلا غنى للإمام (عليه السلام) عنها بحالٍ من الأحوال, وإلا فما معنى أن يتلبّس الإمام والعياذ بالله بالمنكر الذي يأمر الناسَ بتركه, ويترك المعروف حيث يأمر الأمة بفعله وممارسته, ثم إن الله تعالى علاّم الغيوب وهو الخبير العليم, فيعلم الأفضل من خلقه والأصلح لهم ومن يمتلك مقومات وأهليّة الإمامة والعلم والعصمة, فانتخاب الإمام بناء عليه لمن يمتلك تلك المقومات حيث يراه تعالى أهلا لها, لذا فالله هو من ينصُّ عليه بالإمامة والخلافة من بين الناس أجمع, فيُوحي إلى نبيه المكرم بأسماء خلفائه الأطهار(عليهم السلام), ثم تستمر عملية التنصيص من إمام لآخر والإعلان عنه للمسلمين, وكذلك ذكرُ مواصفاته ودلائل إمامته, ليثبت للجميع أهليته للإمامة واستحقاقه لها, وهذا هو معنى التنصيص من الله ورسوله, كما فعل أخو الإمام الكاظم (عليه السلام) الفقيه (علي بن جعفر) مع الإمام الجواد (عليه السلام) من التبجيل والاحترام, فقد روي أنه كان في مسجد الرسول إذ دخل الإمام الجواد (عليه السلام), فقام علي بن جعفر مستقبلا للإمام بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه, فالتفت إليه الإمام قائلا: اجلس يا عم رحمك الله, فأجابه: كيف أجلس وأنت قائم, وحينما انصرف الإمام أقبل الحاضرون عليه يلومونه على كل ذلك التبجيل معلّلين بأنه عمّ أبيه مضافا إلى أنه صغير السن, فأجابهم قائلا:(إن الله تعالى لم يُؤهّل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى, ووضعه حيث وضعه, نعوذ بالله ممّا تقولون, بل أنا له عبد) , تدلّنا هذه الحادثة على أهمية موضوع الإمامة حيث أكد الإمام الرضا (عليه السلام) على إمامة ابنه الإمام الجواد مُشيدا بفضائله مُعلنا ذلك لعامة المسلمين, وتبعه على هذا الموقف الشيعة وعلماؤهم ومن جملتهم الراوي كما في الحديث السابق, وقد يُشكل بعضُ المخالفين على موضوع التنصيص بأنّه مخالف لرأي الأكثرية وانتخاب الأغلبية, وأن هذا النوع من الحكم من أنواع الاستبداد وأشكاله, حيث يُفرض على الأمة, ولا ينسجم مع أصول الحرية, وقد سبق للأمم تجربته فذاقت منه ألوان الظلم والاضطهاد والويلات؟, وللجواب عنه مضافا إلى ما مرّ من أن الإمام معصوم عن الذنب وكل ظلمٍ وتجاوزٍ على الحقوق الخاصة والعامة, وأنها منحة إلهية وعطيّة سماوية لا يتمتع بها إلا من نصّ عليه الرحمان, وعليه فلا استبداد حيث لا ترجيحَ لهوى النفس على المصلحة العامة, نقول أيضا: ما دام الله هو الحاكم (لأن الإمام لا يتجاوز الأحكام الإلهية إلى غيرها, وهو مُؤيّد ومُسدّد من قبله سبحانه) فلن يكون في الأمة أيّ استبداد وظلم, حيث إنه تعالى أعلم بمصالح الناس وأعلم بأسرارهم وأحرص عليهم من جميع البشر وهو أرحم الراحمين, ولا يألُ عن إيصال النفع للناس ودفع الضرر عنهم, وقد ثبت أنه الناخب للإمام بالنص والتعيين ومتفرد بها, فما معنى الاستبداد هنا وكيف يُتصور؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى