مقالات

الخطاب القرآني في ضوء نظرية النصّ والسياق في ميدان أصول الفقه‏

اهتمّ علماء الأصول بالخطاب ، والخطاب الشرعي عندهم إمّا خطاب اللّه ، وإما خطاب الرسول- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- وإمّا خطاب الأمّة (الإجماع). واهتمّوا بمقاصد الشريعة (أهدافها) وهي مقاصد الخطاب ، وربطوا الأحكام بمقاصدها.

وأمّا الحكم الشرعي فيعرّفونه بأنّه ” خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا”«1». فالمكلّفون (المخاطبون) ركن أساس في هذا التعريف ، ودرس الفقهاء أحوال الحكم الشرعي بحسب اختلاف المخاطبين. وقسّم علماء الأصول مقاصد الخطاب إلى نوعين : مقاصد كليّة وهي مطلقة عامة تختصّ بالخطاب الشرعي جملة ، وهو مطّرد في كل أبوابه ، ومقاصد جزئيّة تهيمن على النصّ الخاصّ ، تحدّد مضمونه ، وترسم مجال تطبيقه‏ «2». والعلاقة بين المقاصد والخطاب واضحة ؛ فالأحكام مرتبطة بالغايات ، وهذا يذكّرنا بعنصر الهدف وأثره على بنية النصّ.

ولمّا كان الحكم الشرعي يستنبط من النصوص ، فقد انكبّ الأصوليّون على هذه النصوص ودرسوا ما فيها من عامّ ، وخاصّ ، ومشترك ، وحقيقة ، ومجاز ، ونصّ ، وظاهر. وقد راعى الأصوليّون الأحناف في تقسيم الخطاب إلى هذه العناصر وغيرها اعتبارين :

1- دراسة المفرد والمركّب من الخطاب ، ويقصدون بالمفرد ما تدلّ عليه مفردات الألفاظ في حالة التركيب ، وبالمركّب ما تدلّ عليه العبارة ككلّ من خلال علاقات الألفاظ ببعضها ، لأنّ الألفاظ بمعزل عن التركيب لا يتحدّث عنها.

2- الإحاطة بالاعتبارات جميعا من أوّل وضع الواضع إلى آخر فهم السامع. «3» وهذا يعني أنّهم راعوا كلّ الأحوال التي يستند عليها أداء المعنى باللّفظ الجاري على قانون الوضع ، وهي وضع الواضع اللّفظ لمعنى معيّن ، ثمّ استعمال المتكلّم اللّفظ في معناه الذي وضع له ، أو في غير معناه ، ثمّ حمل السامع اللّفظ على المعنى الذي تبيّنه من خلال السياق والقرائن المحيطة بالخطاب. وقد بحث الأصوليّون في ألفاظ الخطاب من زاوية الوضع وقسّموها إلى عامّ وخاصّ ومشترك و… ، وبحثوا في العامّ‏ والخاصّ ، والصيغ الدالّة عليهما ، وكيف يكون عموما يراد به الخصوص ، أو خصوصا يراد به العموم ، ونظروا للسياق في تحديد هذا كلّه ، فقالوا مثلا : النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط دالّة على العموم‏ «4» ؛ مثل قوله تعالى : {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } [غافر : 17]. وإنّ النكرة في سياق الإثبات إذا وصفت بوصف عام تعمّ أيضا مثل قوله تعالى : “ {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة : 221] واهتمّ الأصوليّون بالسامع أو القارئ في عمليّة دراسة الخطاب الشرعي ، وشرحوا عمليّة استنباط الحكم بالنسبة له ، ” والقارئ أو المستمع وهو يتابع القراءة يشغله ما يريد المتكلّم أن يقول ، وذهن القارئ لا يركّز على كلمات الخطاب فقط ، بل على الخطاب جملة (…..) فإذا توالت الألفاظ والمفردات بحركاتها المخصوصة على السمع ، ارتسمت المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض في الذهن ، ومتى حصلت المفردات مع نسبها المخصوصة في الذهن حصل العلم بالمعاني المركّبة لا محالة” «5». وبذلك يقسّمون الخطاب باعتبار السامع إلى قسم واضح في معناه ، وقسم غامض أو خفيّ ، ومن حيث الوضوح يقسّم الخطاب إلى (نصّ) و(ظاهر).

ولا يكتفي الأصوليّون بالوقوف على مفهوم الخطاب الشرعي من حيث :

حقيقته ، وأقسامه ومضمونه ، وموضوعه ، وتحليله إلى عناصره اللّغويّة المكوّنة له من مختلف المستويات ، إن على مستوى الواضع للكلمات أو على مستوى المتكلّم بها ، أو على مستوى السامع لها ، بل إنّهم يدرسون العناصر السياقيّة والمقاميّة في الخطاب لأنّ الألفاظ لا تثبت على معانيها التي وضعت لها؛ إذ للمتكلّم الحقّ في أن يستعمل هذه‏ الألفاظ فيما وضعت له ، وأن يستعملها وفق أساليب اللغة وقوانينها المعروفة للسامع والمتكلّم ، إذ في ظلّها يتمّ التواصل وهنا يكون للعناصر السياقيّة والمقاميّة دورها الواضح.

ويقول الشافعي في إشارة واضحة إلى تآلف السياق اللّغوي في صنع الدلالة :

” إنّ بعض الكلام يبين أوّل ألفاظه عن آخره ، وقد يبتدئ ، ويكون آخر ألفاظه مبينا عن أوّله “. «6» ويؤكّد ابن حزم أهميّة السياق في الاستدلال بالنصّ يقول : ” والحديث والقرآن كله كلفظة واحدة فلا يحكم بآية دون أخرى ، ولا بحديث دون آخر ، بل يضمّ كلّ ذلك بعضه إلى بعض؛ إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتّباع من بعض ، ومن فعل غير هذا فقد تحكّم بلا دليل” «7». وهاتان الإشارتان واضحتان في أهميّة تآلف الخطاب جملة في صياغة الأحكام واستنباطها ، وهو تآلف السياق اللّغوي للخطاب.

وأما السياق المقامي أو القرائن بأنواعها فقد ذكرها الأصوليّون بوضوح ، وأشاروا إلى أهميّتها وطرق الاستدلال عن طريقها ، ولعلّ أبرز الأصوليّين تنبّها لهذه القضيّة وتوضيحا لها (الغزالي) ، فهو يشرح خطوات استخراج الدلالة من النصّ بأنّها معرفة اللّغة في أصل وضعها إن كان الكلام (نصّا) لا يحتمل التأويل ، وإن تطرّق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلّا بانضمام قرينة إلى اللفظ وجب التعرّف إلى تلك القرينة. والقرينة عنده إمّا لفظ مكشوف أو إحالة على دليل العقل ، وإمّا علامات هادية من خلال سياق الحال. ويضرب مثلا على السياق اللّفظي قوله تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام : 141] ، والحقّ (العشر). وأمّا الإحالة إلى دليل العقل فمثالها {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر : 67] ، وقوله عليه السلام : (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع‏ الرحمن) «8». وأمّا قرائن الأحوال (السياق الحالي) فهذه عند الغزالي ؛ كثيرة فمنها الإشارات ، والرموز ، والحركات ، والسوابق ، واللواحق ، وهي” لا تدخل تحت الحصر والتخمين ، يختصّ بدركها المشاهد لها ، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة ، أو مع قرائن من ذلك الجنس ، أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريّا لفهم المراد أو توجب ظنا ، وكل ما ليس له عبارة موصوفة في اللّغة فتتعيّن فيه القرائن” «9».

(فالخمسة) مثلا نصّ في معناه (بمصطلح الأصوليّين) لا يحتمل الستّة ولا الأربعة ، أمّا غير النصّ ، فالقرائن فيه لها الدور الأساس ، ويتجاوز معناه دلالة الألفاظ المعجميّة ، فما دام المتكلّم يملك من الحريّة ما يكفل له الانتقال باللفظ الخاصّ من الخصوص إلى العموم ، وباللّفظ العامّ من العموم إلى الخصوص ، وما دامت دلالة الألفاظ ليست كلّها قطعيّة ، فإنّ الدلالة المعجميّة للألفاظ تبقى قاصرة عن تحديد المعنى المراد.

ويمثّل الغزالي عمليّا كيفية الاستفادة من السياق بنوعيه : اللّغوي والمقامي ، في تحديد المعنى المراد من خلال الآية (10) من سورة الجمعة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا الْبَيْعَ} يقول : ” إنّما نزلت وسيقت لمقصد وهو بيان الجمعة ، وما نزلت الآية لبيان أحكام البياعات ، ما يحلّ منها وما يحرم ، فالتعرّض للبيع- لأمر يرجع إلى البيع في سياق هذا الكلام- يخبط الكلام ويخرجه عن مقصوده ، ويصرفه إلى ما ليس مقصودا به ، وإنّما يحسن التعرّض للبيع إذا كان متعلّقا بالمقصود ، وليس يتعلّق به الأمر إلّا من حيث كونه مانعا للسعي الواجب ، وغالب الأمر في العادات جريان التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع ، فإنّ وقت الجمعة يوافي الخلق ، وهم منغمسون في المعاملات فكان ذلك أمرا مقطوعا به لا يتمارى فيه ، فعقل أنّ النهي عنه لكونه مانعا من السعي الواجب فلم يقتض ذلك فسادا ، ويتعدّى التحريم إلى‏ ما عدا البيع من الأعمال والأقوال ، وكلّ شاغل عن السعي لفهم العلّة) «11». فانظر كيف خرج الغزالي من السّياق اللّغوي إلى السّياق المقامي ليستطيع استخراج دلالة النص فقرأ عادات الناس يوم الجمعة ، وهو من صلب اللّسانيّات الاجتماعيّة في العصر الحديث ، ليستطيع تفسير مجي‏ء البيع داخل آيات الصلاة ، ثمّ كيف يمكن أن يخرج من هذا التخصيص إلى عموم الدلالة (أي كلّ أمر يعوق عن العبادة مثل البيع) وما كان يمكن التعميم من غير قراءة السياق الخارجي أبدا.

وفي موضع آخر يؤكّد الغزالي دور القرائن الحاليّة في تحقيق التواصل الذي عبّر عنه بالإفادة حينا ، وبالبيان حينا آخر يقول : ” اعلم أنّ كلّ مفيد من كلام الشارع ، وفعله وسكوته ، واستبشاره ، حيث يكون دليلا ، وتنبيها بفحوى الكلام على علّة الحكم ، كلّ ذلك بيان ، وهو من حيث إنّه يفيد العلم بوجوب العمل دليل قطعا وبيان وهو كالنصّ” «12».

ولا يسوّغ لدى الغزالي تأويل نصّ الخطاب دون الاتّكاء على مثل هاتيك القرائن ، وكلّ تأويل مفتقر إليها يجب ردّه وإن كان محتملا ، لأنّ القرائن الأخرى قد تدلّ على فساد ذلك التأويل ودفعه ، ونصّ الغزالي سابق جدّا في أهميّة ما يسمّيه علماء الدلالة اليوم بالقوّة اللاكلاميّة ، وتشمل الإشارات ، وقسمات الوجه ، وحركات اليدين وغيرها ، وهي ركن أساس في الحدث الكلامي كما يذهب جون لاينز «13». ولا يقال إنّ هذه القرائن تابعة للفظ ، لأنّه لا أحد يسلّم أنّ حركة المتكلّم وأخلاقه وعاداته وأفعاله ، وتغيّر لونه ، وتقطيب وجهه وجبينه ، وحركة رأسه ، وتقليب عينيه تابع للفظه ، بل هذه أدلّة مستقلّة يفيد اقتران جملة منها علوما ضرورية” مثل فعل المتكلّم فإنّه إذا قال عن المائدة : هات الماء ، فهم أنّه يريد الماء العذب البارد دون الحارّ المالح” «14».

ومثل قصد الاستغراق من اللّفظ العام فإنّه يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلّم وتغيّرات في وجهه وأمور معلومة من عادته ومقاصده ، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ، ولا ضبطها بوصف بل” هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ، ووجل الوجل ، وجبن الجبان ، وكما يعلم قصد المتكلّم إذا قال : (السلام عليكم) أنّه يريد التحية ، أو الاستهزاء ، أو اللهو” «15». وقالت المعتزلة : ” إنّ الأمر لا يكون أمرا إلّا بثلاث : إرادة المأمور به ، وإرادة إحداث الصيغة ، وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر ، ” وإذا أردنا تفسير رأي المعتزلة وإيضاحه بكلمات ثانية ، وجب أن نأخذ بمفهوم العلامات أو العوامل السياقيّة لدى جاكبسون وفيرث ، وهي الغرض والهدف ، والرسالة ، ونوايا المتكلّم الذي صدرت عنه الكلمات” «16» ؛ فالأمر مثلا يرد لغايات متنوّعة بتنوّع السياق ، فقد يأتي للوجوب ، أو النصح ، أو الإباحة ، أو التخيير ، أو التحقير ، أو الإهانة ، أو التسوية. وكلّها معان يستدلّ عليها من خلال القرائن.

وهكذا تظهر لنا القرائن اللغويّة التي تستعمل في سياق النصّ من طرف المتكلّم كعلامات هادية إلى المعنى المراد ، لكنّ هذه القرائن إن لم تصحبها معرفة بالمتكلّم المنتج للخطاب وبالمستمع الموجه إليه الخطاب ، وبالظروف الاجتماعيّة التي تحيط بالخطاب ، وبيئة الخطاب ، يظلّ فهم المستمع قاصرا عن تحديد المعنى المراد من الخطاب ، لأنّ المعنى كلّ مركّب من مجموعة الوظائف اللّغويّة إضافة إلى سياق الحال غير اللّغوي ، ويشمل سياق الحال هذا عناصر كثيرة تتّصل بالمتكلّم والمخاطب ، أو الظروف الملابسة والبيئة. ويبيّن الإمام الشاطبي هذه الأركان وما تؤدّيه من دور في تحديد المعنى المراد بقوله : ” إنّ علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم الكلام فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ، إنّما مداره على مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة الخطاب نفسه ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع ، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه ، بحسب حاله ، وبحسب‏ المخاطبين ، وبحسب غيرذلك «17».

 ويمثّل لهذا الاختلاف في التأويل ب (الأمر والنهي) فإنّها من جهة اللّفظ على تساو في دلالة الاقتضاء ، والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب ، أو ندب ، وما هو نهي تحريم ، أو كراهة ، فهذه كلّها” لا تعلم من النّصوص ، وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم ، وما حصل لنا الفرق بينها إلّا باتّباع المعاني ، والنظر إلى المصالح ، وفي أيّ مرتبة تقع ، وبالاستقراء المعنويّ ، ولم نستند فيه لمجرّد الصيغة “ «18». وإلّا ما كان الأمر في الشريعة على أقسام متعدّدة ، والنهي كذلك أيضا” فلا بدّ من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ في كلام العرب كلّه” فما ظنّك بكلام اللّه وكلام رسوله- صلّى اللّه عليه وسلم-؟ “ «19». وعلى هذا المساق يجري التفريق بين الماء الدائم وغيره في علم الفقه.

ويرجع الشاطبي كلّ المأمورات والمنهيّات في القرآن الكريم إلى ضربين : ضرب جاءت فيه الأوامر والنواهي على العموم والإطلاق في كلّ شي‏ء ، وعلى كل حال ، ومن ثمّ فهي على وزن واحد ظاهرا ولكنّها (بحسب كلّ مقام ، وعلى ما تقتضيه شواهد الأحوال في كل موضع لا على وزن واحد ، ولا على حكم واحد” «20». مثل الإحسان في قوله تعالى : “ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل : 90] ؛ فإنّه ليس مأمورا به أمرا جازما في كلّ شي‏ء ، ولا غير جازم في كلّ شي‏ء ، بل ينقسم بحسب المناطات ، فإحسان العبادات بتمام أركانها من باب الواجب ، وإحسان تمام آدابها من باب المندوب ، كذلك يقال في إحسان القتلة في قوله عليه الصلاة والسلام : ” إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شي‏ء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) «21». وضرب” تأتي فيه الأوامر والنواهي ، في أقصى مراتبها من حيث‏ كان الحال والوقت يقتضي ذلك ، مثل قول اللّه تعالى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر : 9]. وذلك كلّه من جهة الخطاب) «22».

وأمّا من جهة المخاطب سبحانه وتعالى فقد كانت المعرفة بالذات العليّة عن طريق المعرفة بصفاتها التي تحدّث عنها القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة ، وعن طريق آثارها المتمثّلة في إعجاز النظم القرآني من جهة ، والكون ونظامه البديع من جهة أخرى أمرا ضروريّا لمعرفة المراد من خطابه تعالى ، لأنّ من شأن ذلك أن ينعكس على المجتهد في تحديد المراد من الخطاب الصادر من اللّه تعالى ، فبمعرفة حكمة اللّه وكمال أسمائه وصفاته ورحمته كان الصحابة يستدلّون على إذن اللّه تعالى في الأفعال وإباحته لها بإقراره وعدم إنكاره عليهم زمن الوحي ، يقول ابن القيّم : ” وهذا استدلال على المراد بغير لفظ ، بل ربّما عرف من موجب أسمائه وصفاته ، وأنّه لا يقرّ على باطل حتى يبيّنه) «23». ويرى الإمام الشاطبي أيضا أنّ” أصل التخلّق بصفات اللّه ، والاقتداء بأفعاله أصل من أصول الاجتهاد” «24». بعد أن يمهّد له بأنّ هناك قسما من علوم القرآن ، ” مأخوذ من عادة اللّه تعالى في إنزاله ، وخطاب الخلق به ، ومعاملتهم له بالرفق والحسنى ، من جعله عربيّا يدخل تحت نيل أفهامهم ، وكونه تنزّل لهم بالترتيب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخبرات ، وهذا نظر خارج عمّا تضمّنه القرآن من العلوم” «25».

وكانت المعرفة بشخصيّة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتباره مخاطبا ومخاطبا في آن واحد عن طريق ما جاء في القرآن الكريم الذي تحدث كثيرا عن صفاته وأخلاقه ، من الأمور اللازمة لمعرفة الخطاب الشرعي‏ «26».

وأمّا المخاطب فقد اهتمّ به علماء الأصول ، ووجدوا أنّ المخاطب يتنوّع في الخطاب ، وتتنوّع الأحكام تبعا لنوعه ، فهو أحيانا صحيح معافى ، وأحيانا مريض أو مسافر ، وأحيانا مجاهد قادر ، وأحيانا قادر على الجهاد ولكنه متبلّد ، وأحيانا منافق ، وأحيانا أمّة بكاملها وأحيانا جنس الناس وأحيانا نوع من هذا الجنس‏ { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة : 40].

وأحيانا فرد بعينه‏ {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود : 48]. ووجدنا الخطاب أحيانا مقتضبا موجزا تكثر محذوفاته ، وأحيانا مرسلا فيه إطناب ، وما ذلك إلّا لتنوّع علم السامع بالأشياء التي يتحدّث عنها الخطاب ، كخطاب اللّه الذي نزل بمكّة وخطابه الذي نزل بالمدينة ، كلّ ذلك يجسّد لنا ضرورة المعرفة بالمخاطب لمعرفة الخطاب ، بل لأهميّة المخاطب لم يتصوّر الأصوليّون وجود خطاب بدونه) «27».

ولا يكتفي علماء الأصول بالدراسات الجادّة المتعلّقة بلغة الخطاب ، وبالمخاطب ، والمخاطب ، باعتبارها جميعا تشكّل ركائز أساسيّة لوجود التخاطب ، حيث كان المخاطب مبدعا ومنشئا للأحكام وكان المخاطب متلقيّا للخطاب ومكلّفا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وكان التواصل إنّما يتمّ بلغة الخطاب ، بل يتجاوزون تلك الدراسات إلى دراسات أخرى تتعلق بما يحيط الخطاب من قضايا دينيّة وثقافيّة ، وقيم أخلاقيّة ، ونظم اجتماعيّة وسياسيّة وغيرها ، لا تقلّ أهميّة في إلقاء الأضواء على فقه المراد من الخطاب عن الأركان التي تحقّق التخاطب وذلك لصلتها القريبة أو البعيدة ظاهرا على ما سنرى.

وما يحيط بالخطاب يمكن أن يقسم إلى مستويين :

– مستوى خاصّ قريب إلى الخطاب ، وهو ما يرجع إلى ثبوت النصّ وضبطه ببيان تاريخ ظهوره ، وأدوار جمعه المختلفة ، وكتابته ، وأسباب نزوله ، وقراءته وغير ذلك ممّا أطلق عليه علماء الشريعة منذ القرن السادس الهجري مصطلح علوم القرآن.

– ومستوى عامّ بعيد عن الخطاب ظاهرا ، ولكنّه لازم لفهمه فهما سليما دقيقا ، وهو ما يرجع الى البيئة العربيّة الماديّة؛ أرضها : بجبالها وصحاريها وقيعانها ، وسمائها :

بسحبها ونجومها وأنوائها ، وجوّها : بحرّه وبرده وعواصفه وأنسامه. وطبيعتها :

بجدبها وخصبها ومحلها ، ونباتها ، وشجرها. والمعرفة كذلك بالبيئة العربية المعنوية” بكلّ ما تتّسع له هذه الكلمة من ماض سحيق ، وتاريخ معروف ، ونظام أسرة ، أو قبيلة ، أو حكومة في أيّ درجة كانت أو عقيدة ، أو فنون أو أعمال” «28».

و أمّا وجه ضرورة المعرفة بالبيئة بوجهها الماديّ فيكفي أن يقال فيه : ” إنّنا ما دمنا نذكر الحجر ، والأحقاف ، والأيكة ، ومدين ، ومواطن ثمود ، ومنازل عاد ، ونحن لا نعرف من هذه الأماكن إلّا تلك الإشارات الشاردة ، فما ينبغي أن نقول إنّنا فهمنا وصف القرآن لها ولأهلها ، أو إنّنا أدركنا مراد القرآن من الحديث عنها وعنهم ، ثمّ لن تكون العبرة بهذا الحديث جليّة ، ولا الحكمة ولا الهداية المرجوّة مفيدة مؤثّرة” «29». ويكفي أن يقال إجمالا بالنسبة للبيئة المعنويّة أنّ القرآن فيها قد جمع وكتب ، وقرئ وحفظ ، وفيها نزل بلغة أهلها وخاطبهم أوّل من خاطب ، وألقى إليهم رسالته لينهضوا بأدائها وإبلاغها إلى شعوب الدنيا «30». بالإضافة إلى ذلك فروح القرآن عربية ، ومزاجه عربيّ ، وأسلوبه عربيّ‏” {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر : 28]” والنفاذ إلى مقاصده إنّما يقوم على التمثّل الكامل‏ والاستشفاف التامّ لهذه الروح العربيّة ، وذلك المزاج العربي والذوق العربي ، رغم ما له من معان ومرام إنسانيّة اجتماعية خالدة) «31».

وفي بيان أهميّة المعرفة بالبيئة نجد الإمام الشاطبيّ يذكر أنّ من بين أنواع المقاصد الشرعيّة” قصد وضع الشريعة للإفهام” وركّز في بيان هذا القصد على كثير من خصوصيّات تلك البيئة التي يجب أن تفهم الشريعة في ظلّها «32». بل إنّه يجعل عرف العرب في معاشهم أصلا في فهم الشريعة ، وكذلك يربط عمليّة فهم الخطاب بمستواهم الفكري ، فيرى أنّ التكاليف الاعتقاديّة والعمليّة لا بدّ أن تكون ممّا يسع العربيّ تعقّلها ليسعه الدخول تحت حكمها «33».

وقد اهتمّ علماء الأصول بهدف الخطاب ومقصده ، فإذا عرف مراد المتكلّم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده ، ” والألفاظ لم تقصد لذواتها ، وإنّما هي أدلّة يستدلّ بها على مراد المتكلّم ، فإذا ظهر مراده ووضح بأيّ طريق كان ، عمل بمقتضاه ، سواء كان بإشارة أو كتابة ، أو بإمارة أو دلالة عقليّة أو قرينة حاليّة أو عادة له مطّردة لا يخلّ بها” «34».

ومعنى هذا أنّ المجتهد لا يمكن أن ينطلق من فراغ بل لا بدّ من” أن يجتهد في طريق إمّا دلالة وإمّا إمارة” «35». وفي النصّ السابق يذكر لنا ابن القيّم طرق الاستدلال على هدف الخطاب أو مقصده وكلّها من القرائن المتّصلة بالسياق المقامي الذي سبق ذكره.

وهكذا يتبيّن لنا أنّ مهمّة المجتهد في الخطاب الشرعي ليست قاصرة على تفسيره واستنباط الأحكام منه انطلاقا من منطوقه أو من مفهومه ، أو من معقوله ، ووضح قواعد لغويّة أو شرعيّة يرسم بها لدراسة المسار الذي يجب أن يسلكه للوقوف على مراد الشارع‏ منه ، بل إنّ هذه ليست إلّا خطوة أولى تليها خطوة أخرى ، ربّما كانت أكثر أهميّة ، وهي تطبيق هذه الأحكام المطلقة على تصرّفات الناس التي تصدر عنهم في واقعهم الاجتماعي أقوالا وأفعالا ” ما دام كلّ دليل شرعي مبنيّا على مقدّمتين إحداهما راجعه إلى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى الحكم الشرعي نفسه” «36». ونرى عند ابن عابدين إشارة مهمّة إلى أثر أحوال المخاطب وواقع الأمر في فهم النصّ يقول : ” لا بدّ من فقه في أحكام الحوادث الكليّة ، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس ، يخبر به الصادق والكاذب ، والمحقّ والمبطل ، ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع”«37».

و قالوا إنّ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصّة على وزن واحد. «38» ومن هذا المنطلق قالوا في قوله تعالى : “ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة : 33] : إنّ الآية تقتضي مطلق التخيير ثم رأوا أنّه مقيّد بالاجتهاد ، فالقتل في موضع ، والصلب في موضع ، والقطع في موضع ، والنفي في موضع ، وكذلك التخيير في الأسرى من المنّ والفداء «39».

وهنا نفهم سلوك عمر حيال الآية “ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا} [المائدة : 38] في عام المجاعة ، حين امتنع عن إقامة الحد «40». إنّ مراعاة هذه‏ الأمور الخارجيّة وهذه التوابع التي تشخّص الفعل فتجعله يلبس صورا عديدة هي ما عبّر عنه الفقهاء بتحقيق المناط الذي يعني عندهم” أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محلّه” «41». وبتعبير آخر للإمام الشاطبي” إنّ اقتضاء الأدلّة للأحكام بالنسبة إلى محالّها على وجهين : أحدهما الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحلّ مجرّدا عن التوابع والإضافات؛ كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات. والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحلّ مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا إرب له في النساء ، ووجوبه على من خشي العنت ، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو ، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام ، و..

وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقترانه بأمر خارجي” «42».

وفرّق الأصوليّون بين دلالة العبارة ، ودلالة الإشارة ، ودلالة النصّ ، ودلالة الاقتضاء ، وهي طرق دلالة النصوص على المعاني أو الأحكام الشرعيّة. وهذه تأتي من خلال نظم الكلام أو من القرائن أو منهما معا. ومن خلال القصد كذلك. (قصد المتكلّم) «43».

وعرّفوا عبارة النّص بقولهم ” فأمّا الثابت بعبارة النصّ فهو ما كان السياق لأجله ، ويعلم قبل التأمّل أنّ ظاهر النصّ متناول له “ «44». وحين بحثوا في دلالة الخطاب إشاريّا على الحكم حدّدوا دلالة الإشارة وقصدوا بها” ما ثبت بنظمه لغة ، لكنّه غير مقصود ولا سيق له النصّ وليس بظاهر من كلّ وجه “«45».

فالأصوليّون لا يقفون في استثمار الخطاب الشرعي عند ما تدل عليه الألفاظ في النصّ نطقا صريحا ، أو غير صريح أو بمعنى آخر عند استنفاد جميع المعاني الأساسيّة أو الثانوية التي توكل للكلمة إمّا عن طريق عبارة النصّ أو إشارته أو دلالته الاقتضائيّة ، بل يخطون خطوة أخرى تتمثّل فيما أطلقوا عليه مصطلح (المفهوم) أو دلالة النصّ؛ أي ما نفهمه ليس من الكلمات وما تدلّ عليه فقط ، بل من المعاني اللّغويّة التي يحدّدها سياق الكلمات أيضا ، باعتبار أنّ العناصر التي تشكّل هذا السياق ، والتي تتراءى للمخاطب عبر أقسام الكلام ، تساعد على إدراك ما تتضمّنه الكلمات من معان وعلل لا يمكن إغفالها في استثمار الخطاب. وأمّا دلالة المفهوم عند أولئك فهي” ما أشعر به المنطوق” «46» ، ونجد عند الغزالي عبارة من مثل : ” إنه مفهوم من السياق” «47». فالمفهوم يدرك بواسطة علّة حكم المنطوق به ، وهذه إنّما تعرف من السياق‏ «48».

__________________________

(1) مباحث الحكم عند الأصوليّين ، ص : 55.

(2) د. فتحي الدريني ، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ، ص 12.

(3) درّ. سعادات ، مرآة الأصول ، ص : 34.

(4) السيوطي ، الإتقان في علوم القرآن ، 1/ 19.

(5) المحصول ، 1/ 67.

(6) الشافعي ، الرسالة ، ص 58.

(7) ابن حزم ، الأحكام ، ص : 167.

(8) صحيح مسلم ، (باب القدر) ، رقم الحديث (356).

(9) المستصفى ، 1/ 149.

(10) شفاء الغليل ، ص : 51.

(11) المستصفى ، الغزالي ، ص : 60.

(12) جون لاينز ، اللغة والمعنى والسياق ، ص : 271.

(13) المستصفى ، 2/ 15.

(14) المستصفى ، 2/ 15.

(15) إبراهيم خليل ، السياق ص : 61.

(16) الشاطبي ، الموافقات ، 3/ 347.

(17) نفسه ، 3/ 153.

(18) نفسه ، 3/ 152.

(19) نفسه ، 3/ 138.

(20) الحديث مرويّ في الجامع الصغير عن أحمد ومسلم.

(21) سورة الحشر الآية (9).

(22) ابن قيّم الجوزية ، أعلام الموقّعين ، 1/ 52.

(23) الموافقات ، الشاطبي ، 3/ 377.

(24) نفسه ، 3/ 377.

(25) نفسه.

(26) أبو البقاء الكفوي ، الكليّات ، 2/ 286 ، وسلّم الوصول لشرح نهاية السؤل ، 1/ 53.

(27) مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب ، ص : (307- 312).

(28) نفسه ، ص 311.

(29) نفسه ، ص 310.

(30) د. محمّد بن لطفي الصبّاغ ، بحوث في أصول التفسير ، ص 187.

(31) الموافقات ، 2/ 64.

(32) نفسه ، 2/ 88.

(33) ابن قيّم الجوزية ، أعلام الموقّعين ، 1/ 219.

(34) المعتمد في أصول الفقه ، 2/ 695.

(35) الموافقات ، 3/ 43.

(36) رسائل ابن عابدين ، رسالة العرف ، ص 41.

(37) الموافقات ، 4/ 98.

(38) الموافقات ، 4/ 103.

(39) د. محمد بلتاجي ، منهج عمر في التشريع ، ص : (244- 245).

(40) الموافقات ، 4/ 90.

(41) نفسه ، 3/ 79.

(42) التفتازاني ، التلويح ، 1/ 131.

(43) أصول السرخسي ، 1/ 236.

(44) فخر الإسلام البزدوي ، الأصول ، 1/ 68.

(45) محمّد جواد مغنيّة ، الفقه في ثوبه الجديد ، ص 142.

(46) الغزالي ، شفاء الغليل ، ص 53.

(47) محمّد جواد مغنية ، الفقه في ثوبه الجديد ، ص 143.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى