سيرة وتاريخ

السيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين (ع).. جرح من كربلاء

ربيبة من ربائب منزل الوحي، وسيدة من سيدات مدرسة النبوة، عاشت وعايشت مسلسل الشهادة في عاشوراء بكل حلقاته المأساوية من المدينة المنوّرة وحتى كربلاء مع أخوتها الشهداء وأخواتها المسبيات…

رافقتهم خطوة خطوة وموضعاً موضعاً، فوضعت بصمتها الواضحة في أحداث ملحمة الحرية والكرامة، ملحمة الدرس الإنساني العظيم الذي سطره أخوها سيد الإباء الإمام أبو عبد الله الحسين (ع) على ثرى الطف.

ولدت السيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في المدينة المنورة عام (6هـ)، فاحتضنها حجر أبيها يعسوب الدين، ورضعت من أمها سيدة نساء العالمين صفات الكمال البشري، فنشأت في هذا البيت الذي تستأذنه الملائكة لتشم منه عطر النبوة، فتلقنت فيه وهي صغيرة دروس الوحي، وغُذيت بتعاليم القرآن، واستلهمت نهج جدها الرسول، حتى نشأت وكبرت عليه فأصبحت أنموذج الصلابة في الدين، والقدوة في العقيدة واليقين، والمثل الأعلى للمرأة المؤمنة.

رافقت أخاها سيد الشهداء من المدينة إلى كربلاء حتى استشهاده (ع) ثم سارت مع سبايا آل محمد إلى الكوفة ومنها إلى الشام في رحلة السبي التي أكملت المسيرة الحسينية عبر إعلامها النسوي الضخم الذي تمثل في حرائر الوحي، فترك هذا الإعلام أثره الكبير والمدوّي في الرأي العام، ومثّل دوراً كبيراً في نشر الهدف العظيم لثورة الحسين (ع) وإدانة جرائم الأمويين بحق الإسلام والمسلمين.

كما أهاجت في نفوس أهل الكوفة شعوراً لاذعاً بالحسرة والندم والخزي والعار وهي ترى نساء الكوفة يبكين على الحسين ورجالهن خذلوه وقتلوه….

رأت أم كلثوم أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم وهي في المحمل:

ــ يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام…

انتبه الناس كلهم لهذا الصوت الذي دوّى في آذانهم وملأ الفضاء كأن صوت رسول الله قد بُعث من جديد، فوجموا كأن على رؤوسهم الطير وضاقت بهم الأرض فجلسوا يبكون، ولكن هل ينفع الندم بعد تلك الجريمة الشنعاء ؟

وهل وصل الأمر بهم إلى أن يقتلوا سبط الرسول ويسبوا نساءه ثم يتصدّقوا على آله ؟

أخذت أم كلثوم الطعام من أيدي الأطفال وأفواههم ورمت به إلى الأرض..

اشتدت عاصفة البكاء والناس تلطم على رؤوسها ندماً على خذلان الحسين، وفداحة الإثم العظيم الذي أرتكب في كربلاء وتحولت المدينة إلى مجلس للعزاء… هنا رأى الناس امرأة تطلع رأسها من المحمل وتقول لهم بلهجة التأنيب الشديد:

ـــ صه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم ؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

لقد مثلت السيدة أم كلثوم دوراً تبليغياً عظيماً لنشر الهدف السامي لثورة الإمام الحسين والتنديد بجرائم الأمويين عبر الخطب والأشعار التي أطلقتها فكان مما قالته في خطبتها في الكوفة:

ــ يا أهل الكوفة، سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه ! فتبّاً لكم وسحقاً.

ويلكم أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم، وأيّ وزر على ظهوركم حملتم، وأيّ دماء سفكتموها، وأيّ كريمة أصبتموها، وأيّ صبيّة سلبتموها، وأيّ أموال انتهبتموها ؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي، ونزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت:

قتلتم أخي صبــراً فويلٌ لأُمّكم   ***   ستُجــــزونَ ناراً حرّها يتوقّدُ

سفكتمْ دمـــــاءً حرَّمَ الله سفكَها   ***   وحرَّمــــــها القرآنُ ثمّ محمّدُ

ألا فابشــــروا بالنارِ إنّكمُ غداً   ***   لفي سقـــــرٍ حقّاً يقيناً تُخلّدوا

بعد هذه الرحلة الشاقة والعسيرة وبعد أن قدّمت تلك قافلة الحسين (ع) كل ما لديها من تضحية في سبيل الله، تصل أم كلثوم معها إلى مدينة جدها رسول الله (ص)، تنظر إليها بحسرة ممزوجة بألم عميق وهي ترى البيوت خلت من رجالها وشبابها.

فأفرغت عما انطوى عليه قلبها من أسى وحزن تركتهما فاجعة كربلاء وقالت:

مدينةَ جدِّنا لا تقبلـــــــــــــــينا   ***   فبالحسراتِ والأحزانِ جينا

ألا أخبر رســــــــــولَ اللهِ فينا   ***   بأنّا قــــــد فُجعـنا في أخينا

خرجنا منكِ بالأهلـــــينِ جمعاً   ***   وعُدنا لا رجـــالَ ولا بنينا

لم يطل العمر بالسيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين بعد استشهاد أخوتها وبني عمومتها وأهل بيتها فقد توفيت بعد أربعة أشهر من فاجعة كربلاء الأليمة التي تركت في قلبها جرحاً لا يشفى وندباً لا يزول وقرحاً لا يندمل.

فرية زواجها من عمر

ومثلما لاحقتها الرزايا في حياتها فقد تعرضت سيرتها العظيمة للتزييف من قبل وعاظ السلاطين من مؤرخي السلطة، حيث راجت أسواق بيع الذمم، وكثر وضع الروايات المكذوبة، العارية من الصحة، وتابعتهم في كذبهم وافتراءاتهم الأقلام المأجورة التي ناقضت تماماً الحقائق التاريخية فدوّنوا تلك الأكاذيب والمفتريات دون تمحيص وتدقيق، أو حتى تأمّل.

ومن أهم ما ألصق بترجمة سيرة السيدة أم كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) كذباً وزوراً هو: رواية زواجها من عمر بن الخطاب، والذي كُثر عنه الحديث عند البعض لغايات سياسية ومذهبية، وهو زواج وهمي، أسطوري ابتدعه وعّاظ السلاطين لمقتضى السلطة في ذلك الوقت، وتناوله المؤرخون تناول المسلمات، وأنكره كل من: العقل، والمنطق، والتاريخ.

فكل الحقائق التاريخية بصدد هذا الموضوع تشير إلى أن السيدة أم كلثوم بنت الإمام أمير المؤمنين (ع) تزوجت من ابن عمها عون بن جعفر بن أبي طالب ولم تتزوج من غيره لا قبله ولا بعده، كما تزوجت أختها السيدة العقيلة الحوراء زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (ع) من ابن عمها أيضاً عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مصداقاً لحديث رسول الله (ص) عندما رأى بنات علي بن أبي طالب (ع) وأولاد جعفر بن أبي طالب (ع) وهم صغار: بنونا لبناتنا وبناتنا لبنينا (1).

ورواية زواجها من عمر موضوعة بلا شك، فكل الدلائل التاريخية والعقلية تشير إلى ذلك، وأول دليل على كونها موضوعة هو أن أول من قال بها كان من المتأخرين جداً عن تلك الفترة ــ أي الفترة التي عاشت فيها السيدة أم كلثوم (ع) وعمر ــ ولم يروِها أحد قبله من الذين عايشوا هذه الفترة ولا الفترة التي بعدها، ثم إن الراوي كان من الوضّاعين الكذابين كما أشارت إلى ذلك كل المصادر التاريخية، كما كان متهماً في عقيدته ودينه.

فراوي هذه الرواية أو بالأحرى واضعها هو: (الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام) الذي لا يختلف اثنان من المؤرخين وغيرهم على كذبه وتدليسه، ووضعه للحديث والرواية.

 كما لا يختلف اثنان على أنه كان من أشد الناس عداوة لأهل البيت ــ ومتى أحب شخص من آل الزبير أهل البيت ــ ؟ والروايات التي ذكرها المؤرخون حول كذبه ووضعه للحديث كثيرة جداً حتى عدّه الحافظ ــ أحمد بن علي السليماني ــ  من زمرة من يضعون الحديث في كتابه (الضعفاء) !

وليس أدل على هذا الكتاب من اسمه حيث ذكر في ترجمة الزبير بن بكار مجموعة كبيرة من أقوال المؤرخين في كذبه وتدليسه، كما وصفه السليماني بأنه ــ أي الزبير بن بكار ــ (منكر الحديث).

ولم تقتصر حياة هذا الكذّاب على الكذب فقط، بل كان من الذين يبيعون دينهم بدنياهم ــ إن كان لهم دين أصلاً ــ، وممن يتسترون بالدين للحصول على مآربهم فقد كان مرتزقاً بالحديث، ومن وعّاظ السلاطين كما جاء في ترجمته في كتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي ما نصه:

كان ــ أي الزبير بن بكار ــ قد صنّف كتاباً سمّاه بـ (الموفّقيات) نسبة إلى الموفق طلحة بن المتوكل ولي العهد وفيه ما يناقض مذهبه ويخالف عقيدته الزبيرية !

هذا كلام الحموي في ابن بكار، فلا نستبعد من هذا الذي يبيع عقيدته ودينه من أجل المال أن يضع ما شاء من الأحاديث.

لكن الغريب أن تجد من يدون مفتريات هذا الكذاب ويتناول رواياته الموضوعة ومنها هذه التي نحن الآن بصدد الحديث عنها دون تمحيص، ولا إسناد صحيح.

ومن أكبر الأدلة التي تنفي رواية زواج السيدة أم كلثوم من عمر هي الطريقة التي رسمها واضعها لهذا الزواج الوهمي، والتي لا يرتضيها أي إنسان غيور فضلاً عن أمير المؤمنين (ع)… وعلى من ؟ على ابنته السيدة الفاضلة أم كلثوم (ع).

إن الحقيقة مهما طال إخفاؤها ومهما تلاعبت بها اليد الآثمة فإنها ستظهر وتسطع كالشمس. فهذه الرواية المكذوبة تنفي نفسها بنفسها وتفند هذا الزواج من خلال الطريقة التي وضعها الزبير بن بكار الكذّاب، ونسبها إلى أقدس شخص بعد رسول الله وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وإلى ابنته السيدة الجليلة أم كلثوم (ع).

لقد وضع هذا الكذّاب في سرد هذه الرواية طريقة تتماهى مع نفسه الدنيئة وأخلاقه الوضيعة، والله إن الإنسان الشريف ليستحي من ذكر تفاصيل هذه الرواية، ويلزم نفسه بعدم ذكرها ولكن لاطلاع القارئ على النفسية الخبيثة التي حملها ابن بكار، واستلزاماً بإعطاء الموضوع الصورة الواضحة على زيف هذا الزواج، سوف نذكرها نصاً كما ذكرتها المصادر والسير.

ذُكرت هذه الرواية في الاستيعاب (2)، والإصابة (3)، وأسد الغابة (4)، في ترجمة السيدة أم كلثوم (ع).

تقول هذه الرواية:

خطبها ــ أي أم كلثوم ــ عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب فقال: إنها صغيرة. فقال له: زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد. فقال له علي: أنا أبعثها إليك فإن رضيتها فقد زوجتكها. فبعثها إليه ببرد، وقال لها قولي له: هذا البرد الذي قلت لك.

فقالت ذلك لعمر. فقال: قولي له: قد رضيت، ووضع يده على ساقها فكشفها !!

فقالت: أتفعل هذا ؟! لولا إنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك. ثم خرجت حتى جاءت أباها فأخبرته الخبر, وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء ؟ فقال: يا بُنية إنه زوجك !!

لا رد على هذه الرواية بسوى القول: لعن الله الزبير, ونترك الحكم للقارئ الكريم للتعليق على هذه الرواية !

كما يُترك الخيار له كي يسأل نفسه: هل يرتضي هو أو أي إنسان آخر أن يزوج كريمته بهذه الطريقة ؟

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد, فقد تخبّط المؤرخون في ظلام الجهل وعموا وصمّوا في تخبّطهم إلى الحد الذي زوّجوا أم كلثوم من الأموات !!

أجل زوّجوها من الأموات في قبورهم فنرى ذلك في كلامهم كما في الطبقات الكبرى (5)، والبداية والنهاية (6) ما نصه:

تزوجها ــ أي أم كلثوم ــ عمر بن الخطاب وهي جارية لم تبلغ، فلم تزل عنده إلى أن قتل، وولدت له زيد بن عمر ورقية بنت عمر، ثم خلف على أم كلثوم بعد عمر عون بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، فتوفي عنها، ثم خلف عليها أخوه محمد بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، فتوفي عنها، فخلف عليها أخوه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد أختها زينب بنت علي بن أبي طالب، فقالت أم كلثوم: إني لأستحي من أسماء بنت عميس أن أبنيها ماتا عندي وإني لأتخوف على هذا الثالث، فهلكت عنده ولم تلد لأحد منهم شيئا. !

إن هذه الرواية لتضحك الثكلى، وتنسيها نفسها ومصيبتها، ولو كان هناك من يحقق تواريخ هؤلاء المؤرخين في زمنهم لأشار عليهم بوضع فصل خاص في تواريخهم اسمه: زواج الأموات من الأحياء !!

إذ أنهم لما لم يستطيعوا أن ينكروا زواج أم كلثوم من ابن عمها عون بن جعفر وهو زوجها الوحيد، وإن رواية زواجها الموضوعة من عمر تتصادم مع هذه الحقيقة، فماذا فعلوا ؟

أوقعوا أنفسهم في مأزق من حيث لا يشعرون.

فقد جعلوا عوناً زوجاً ثانياً للسيدة أم كلثوم ! فروَوا أنه تزوجها بعد مقتل عمر، وهم أنفسهم وغيرهم وكل المصادر التي ترجمت لعون أشارت إلى أن عون بن جعفر استشهد في يوم (تُستر) سنة (17هـ) في خلافة عمر. وعمر قتل سنة (23هـ) أي بعد استشهاد عون بسبع سنين فكيف يتزوج عون منها بعد عمر ؟ هل بُعث من قبره ؟ أم تزوجها في قبره ؟ لا أدري ؟.

وبلغ ولع المؤرخين وهَوَسهم بالموضوعات والخرافات أن جعلوا لأم كلثوم زوجاً ثالثاً وهو محمد بن جعفر الذي استشهد مع أخيه عون في نفس اليوم (تستر). وقد جاء في ترجمتيهما ما نصه:

قال ابن عبد البرّ: عون بن جعفر بن أبي طالب. ولد على عهد رسول الله (ص) أمه وأمّ أخويه عبدالله ومحمد بني جعفر بن أبي طالب أسماء بنت عميس الخثعمية, واستشهد عون بن جعفر وأخوه محمد بن جعفر بتستر ولا عقب له. (7)

وقال ابن حجر: واستشهد عون بن جعفر وأخوه محمد بن جعفر بتستر. ولا عقب له. (8)

وقال ابن الأثير: واستشهد عون بن جعفر وأخوه محمد بن جعفر بتستر. ولا عقب له. (9)

ولكن ابن عبد البر الذي يذكر إن محمد بن جعفر قد استشهد في زمن عمر بن الخطاب قد تزوج أم كلثوم بعد عمر وهذا نصه:

محمد بن جعفر بن أبي طالب. ولد على عهد النبي (ص) هو الذي تزوّج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بعد موت عمر بن الخطاب …! (10)

والطامة الكبرى التي جاء بها هؤلاء أنهم جعلوا لأم كلثوم ولداً وبنتاً من عمر سموهما زيد ورقية !!

ولكي يتفادوا الحديث عن هذين الوليدين الذين هما من نسج الخيال وعن سيرتهما وممن تزوجا ؟ وكيف ماتا ؟ فماذا فعلوا ؟

لقد أعدوا لكل ذلك طريقة ومخرجاً على نهج الزبير بن بكار راويتهم الساحر المراوغ !

لقد أماتوا زيداً هذا وهو بعمر ست سنوات مع أمه !

أقول: أماتوه لأنه لم يكن موجوداً أصلاً، أما رقية فقد ضاع أثرها، وهي لو كانت حقيقة كما يدعون وليست شخصية خرافية فإنها لن تكون شخصية مغمورة يتغاضى عنها التاريخ الذي رصد حركات وسكنات من هي أقل شأناً منها, فهي ستكون ابنة خليفة وحفيدة خليفة ومن بنات النبي والزهراء.

فهل مثل هذه الشخصية لو كانت حقيقية تُخفى على المؤرخين ؟ وهل كان سيخفى عليهم ممن تزوجت ؟ وكم أنجبت من أحفادٍ لعلي وعمر ؟ ومتى توفيت ؟ وكيف ؟ وأين قبرها ؟ كما نرى الآن قبور سيدات بيت النبوة في الشام ومصر.

ثم هناك مغالطة أخرى وقع فيها المؤرخون وما أكثر مغالطاتهم حيث ذكروا في رواية موت أم كلثوم وابنها إنه صلى عليهما عبد الله بن عمر وخلفه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر وكبر عليهما ثلاثاً !

وهذه المغالطات كلها تكشف نفسها أمام الواقع التاريخي فإن كل المصادر قد أكدت على أن أم كلثوم كانت حاضرة يوم كربلاء وقد مضى على وفاة أخيها الحسن (ع) أكثر من عشر سنوات, وشهدت مقتل أخيها الحسين (ع), كما ذكرت كل المصادر التاريخية أيضاً حضورها في الكوفة والشام مع السبايا من آل محمد، وماتت بعد رجوعها من الشام، فكيف يصلّي الأموات عليها ؟

إذن فهناك اقتراح ثانٍ على المؤرخين، وهو وضع فصل خاص باسم: صلاة الأموات على الأحياء !.

ثم هناك مغالطة أخرى، وهي كيف يرضى عبد الله بن عمر لنفسه صلاة يؤم بها الحسن والحسين وهما ابنا رسول الله، وسيدا شباب أهل الجنة ؟

نترك الجواب للمؤرخين الذي أساؤوا إلى كل الشخصيات التي أدخلوها في هذه الرواية المكذوبة لعن الله واضعها.

ويستمر الهوس والتخبّط في روايات هذا الزواج الوهمي وكل هذا الهوس والتخبط يشير إلى كذبها وزيفها فتحمّل معنا عزيزي القارئ على متابعة الموضوع ولا تفقد أعصابك من أجل الحقيقة.. نعم من أجل الحقيقة وحدها.

جاء في الاستيعاب (11)، والإصابة (12)، والبداية والنهاية (13): إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألفاً !.

وجاء في أنساب الأشراف للبلاذري: أنه أصدقها مائة ألف درهم (14) !

توقفت المهر عند مائة ألف درهم عند المؤرخين ! ولا أدري لماذا لم يزيدوا إذا كانت هذا المهر لا يخسرهم شيئاً ؟ ولنستمع إلى عمر نفسه وهو يكذّب أقوالهم كما روى ابن الجوزي: قال عمر: لا تزيدوا في مهر النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي الغصة ــ يعني يزيد بن الحصين الصحابي الحارثي ــ فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال (15).

ونترك الحديث قليلاً للرد على هذا التخبّط إلى الشيخ المفيد (رحمه الله) ثم نعود إليكم لمواصلة هذه الرحلة المضحكة المبكية، قال الشيخ المفيد:

إن الخبر الوارد في تزويج أمير المؤمنين (ع) ابنته من عمر غير ثابت، وهو من طريق الزبير بن بكار، وطريقه معروف، لم يكن موثوقاً به في النقل، وكان متهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين (ع)، وغير مأمون فيما يدعيه على بني هاشم….

والحديث نفسه مختلفاً، فتارة يروي: إن أمير المؤمنين (ع) تولّى العقد له على ابنته، وتارة يروي: عن العباس أنه تولى العقد له عنه، وتارة يروي: إنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم، وتارة يروي: إنه كان من اختيار وإيثار.

ثم إن بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولداً سماه زيداً، وبعضهم يقول: إنه قتل قبل دخوله بها، وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عقباً، ومنهم يقول: إنه قتل ولا عقب له، ومنهم من يقول: إنه وأمه قتلا، ومنهم من يقول إن أمه بقيت بعده، ومنهم من يقول: إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم، ومنهم من يقول: أمهرها أربعة آلاف درهم، ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم. وبدء هذا القول وكثرة الاختلاف فيه يبطل الحديث ولا يكون له تأثير على كل حال (16).

رحم الله شيخنا المفيد وقدس مثواه فقد قوّض هذه الرواية من أصلها، وكشف زيفها، وكذبها، وحمل عنا كثيراً من هذه الردود، فإذا خطب عمر أم كلثوم فما شأن العباس من هذا الأمر ؟ وأبوها أمير المؤمنين (ع) كان حياً ؟ وإذا كان أمير المؤمنين (ع) غير راضٍ فإنهم قد أساؤوا إلى أمير المؤمنين (ع), فكيف يزوج أمير المؤمنين (ع) ابنته غصباً ؟ وهل يستطيع عمر إجباره على ذلك ؟ وقد خطب عمر أم كلثوم بنت أبي بكر بعد وفاة أبي بكر فرفضت عائشة فامتنع عمر عن معاودتها كما سيأتي مفصّل هذه القصة في هذا الموضوع فلم يجرؤ عمر على الزواج منها غصباً, وهل أن بني تيم أمنع وأحمى لنسائهم من بني هاشم وآل أبي طالب وهم أشجع العرب كي يزوجوا ابنتهم غصبا ؟ لا إله إلا الله.

ثم هناك حقيقة تاريخية تنفي هذا الزواج من أصله وتجعل هذا الزواج منافياً للعقل، والمنطق، والناموس الطبيعي البشري، ولا يمكن أن يعزوه إنسان إلا إلى نسج الخيال.

فإن السيدة أم كلثوم ولدت في السنة السادسة للهجرة ومن المعروف أن عمر قتل سنة (23هـ)، فإذا أخرجنا أثنتي عشرة سنة وهي ست سنوات من الهجرة قد انقضت حتى ولدت أم كلثوم وست سنوات من عُمر ابنها المفترض زيد, يكون اثنتي عشرة سنة أضف إليها تسعة أشهر وهي فترة الحمل الطبيعي عند المرأة فيكون ثلاثة عشر سنة وعلى هذا الأساس يكون عمر قد تزوج أم كلثوم وعمرها عشر سنين كأعلى حد أو دون ذلك وهذا مما لا يُعقل ولا يقبله منطق عاقل والفارق الكبير في السن يجعل من هذا الزواج مستحيلاً.

نعم ممكن أن يكون زوجها وهي في ذلك السن من شاب يكبرها قليلاً كعون بن جعفر بل يكون هذا الزواج طبيعياً جداً.

ولم يقتصر نفي هذا الزواج على المفيد، فقد أنكره العديد من أعلام الشيعة المتقدمين والمتأخرين، حيث صنّف الشيخ البلاغي (رحمه الله) رسالة خاصة لم يدع فيها مجالاً للشك على بطلان هذا الزواج، كما أنكره الدكتور لبيب بيضون بقوله:

ــ ذكر السنة أن عمر بن الخطاب خطب إلى الإمام علي (ع) ابنته الصغيرة أم كلثوم في قصة أسطورية وهذه البنت أمها فاطمة الزهراء (ع) التي ماتت واجدة عليه لما فعل بها، وقد أكد الشيخ المفيد أن القصة عارية من الصحة بل هي من نسج الخيال وقد حبكت لغرض سياسي بحت وهو نفي الخصومة التي كانت بين الإمام علي وزوجته الزهراء (ع) وبين الشيخين بشأن الخلافة والشورى وغصب فدك وحرق بيت فاطمة.(17)

كما نفى هذا الزواج السيد جواد شبر حيث قال: وأما الرواية التي تقول إن أم كلثوم قد تزوجها عمر بن الخطاب فهي عارية عن الصحة… (18)

ولم يقتصر نفي هذا الزواج على الشيعة فقط, إذ أنكره الذهبي وهو من مؤرخي السنة فعندما أورده الحاكم في المستدرك على الصحيحين (19) تعقبه الذهبي في التلخيص فقال: منقطع والحديث المنقطع السند يكون مهملاً.

ونكتفي بهذه الأدلة التاريخية وأقوال الأعلام ببطلان هذا الزواج فمن شاء فليؤمن بالحقيقة ومن شاء أن يجحد فعليه ضلاله, ونرى أنه لا بد من كلمة أخيرة بخصوص هذا الموضوع وهو أنه ينبغي على المؤرخين أن يكونوا أمناء في نقل الحقائق والحوادث التاريخية ولا يتخبّطوا في الأسماء.

نعم لقد تزوج عمر من أم كلثوم ولكن أية أم كلثوم هي ؟ إنها أم كلثوم بنت جرول الخزاعية ــ أم عبد الله بن عمر ـــ كما خطب عمر أم كلثوم أخرى وهي أم كلثوم بنت أبي بكر كما ورد في التواريخ والسير لكن عائشة رفضته بمساعدة المغيرة بن شعبة. وأظن أن كل هذه الأدلة كافية على بطلان هذا الزواج من أساسه.

محمد طاهر الصفار

…………………………………………………………

1 ــ من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 293

2 ــ ج 2 ص 773

3 ــ ج 4 ص 469

4 ــ ج 5 ص 615

5 ــ ج 8 ص 463

6 ــ ج 5 ص 309

7 ــ الاستيعاب: ج 3 حديث رقم 1247

8 ــ الإصابة ج 3 ص 44

9 ــ أُسد الغابة ج 4 ص 157

10 ــ الاستيعاب: ج 3 حديث رقم 1367

11 ــ ج 2 ص 733

12 ــ ج 4 ص 469

13 ــ ج 5 ص 309

14 ــ ج 2 ص 190

15 ــ الأذكياء ص 217

16 ــ المسائل السروية

17 ــ موسوعة كربلاء ج 2 ص 640

18 ــ أدب الطف ج 1 ص 76

19 ــ المستدرك على الصحيحين 3 / 142

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى