مقالات

القسم في سورة الشمس

حلف سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشمس إحدىٰ عشرة مرّة بتسعة أشياء (1).

1. الشمس ، 2. ضحى الشمس ، 3. القمر ، 4. النهار ، 5. الليل ، 6. السماء ، 7. وما بناها ، 8. الأرض ، 9. وما طحاها ، 10. ونفس ، 11. وما سوّاها.

وبما أنّ المراد من الموصول في الجمل الثلاث الأخيرة هو الله سبحانه فيكون المقسم به تسعة ، والأقسام إحدىٰ عشرة ، قال سبحانه : {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس : 1 – 7].

تفسير الآيات

1 ، 2. { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ، حلف بالنيّر الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة على الأرض وهو مصدر للنور والحرارة ، إلى غير ذلك من  المعطيات ، وهو سلطان منظومتنا ، وله حركة انتقالية وحركة وضعية ، ويعجز البيان واللسان عن بيان ما له من الأهمية ، ويكفيك هذا الأثر انّه ينتج في كلّ دقيقة 240 ميليون وحدة طاقة ، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أنّ عمرها يتجاوز الخمسة آلاف ميليون سنة.

هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء ، هي محور نظامنا السيّاري ومصدر حياتنا أيضاً ، هذه الشمس التي كلّ ما يكتشف عنها يزيدها غموضاً ، ولم تزح يد العلم بعد النقاب عن كلّ ما يجب أن نعلمه عن الشمس ، هذه الشمس التي تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها ، ولم تزل تجدّد وزنها وحجمها ، والتي تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كلّ ثانية ، وهي آية من آيات الخالق ، وإن هي إلاّ آية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم أضخم منها حجماً وأكبر سرعة وأكثر تألّقاً (2).

كما حلف بضحى الشمس ، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار ، والأولى أن يقال الضحىٰ هو انبساط نورها وضوئها ، فانّ لضوئها أثراً خاصاً في نشوء الحياة وبقائها والفتك بالأمراض وزوالها.

3. { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا } حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه ، وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضيئ الليل كلّه من غروب الشمس إلى الفجر.

وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فانّ ضوء القمر إنّما ينتشر ، إذا تلا الشمس وظهر بعد غروبها.

وربما يقال بأنّ المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر ، لأنّ نوره مأخوذ من

نور الشمس فهو يتبعها في جميع الأزمان ، ولكن المعنى الأوّل هو اللائح.

4. { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر ، يقال : أجليت القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها ، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار إذا جلا الأرض وأظهرها ، والضمير يعود إلى الأرض المفهوم من سياق الآية ، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس ، فانّ النهار كلّما كان أجلىٰ ظهوراً كانت الشمس أكمل وضوحاً ، أي احلف بالنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها.

ولكن المعنى الأوّل هو الظاهر ، لأنّ الشمس هي المظهرة للنهار ، دون العكس.

5. { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } حلف بالليل إذا غطّى الأرض وسترها في مقابل الشمس إذا جلا الأرض وأظهرها ، وربما يتصوّر أنّ الضمير يرجع إلى الشمس ، فحلف سبحانه بالليل إذا غطّى الشمس وهو بعيد ، فانّ الليل أدون من أن يغطي الشمس وإنّما يغطي الأرض ومن عليها.

والأفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي ، ( تلاها ، جلاّها ) وإلاّ في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع ( يغشاها ) فما هو الوجه ؟

ذكر السيد الطباطبائي وجهاً استحسانياً وقال : والتعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل :{ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } للدلالة على الحال ، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرضَ في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلامية (3).

6 ، 7. { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } ، فحلف بالسماء وبانيها ، بناء على أنّ « ما » موصولة ، وليست مصدرية ، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها ومسوِّيها ، وغلبة الاستعمال علىٰ « ما » الموصولة في غير العاقل لم يمنع من استعمالها في العاقل أيضاً ، قال سبحانه : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء : 3].

ولعلّ استعمال « ما » مكان « من » لأجل أنّ الخطاب كان موجهاً إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب للأثر مؤثراً فينتقل من ذلك إلىٰ معرفة الله تعالى ، فعبّر عن نفسه بلفظة « ما » التي هي الغاية في الإبهام (4).

وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنّه يمتنع أن يكون رهن الصدفة ، بل لا يتحقق إلاّ بصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها ، خصوصاً بناء الكواكب التي ترتبط أجزاؤها البعض بالبعض ، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.

8 ، 9. { وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } حلف بالأرض وطاحيها والطحو كالدحو ، وهو البسط ، وإبدال الطاء من الدال جائز ، والمعنى وسَّعها.

وقد أشار إلى وصف الأرض في آية أُخرىٰ وقال : {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة : 22] فحلف سبحانه بالأرض وبما جعلها لنا فراشاً.

والأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت ، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم ، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة التي تتكون منها المجموعة الشمسية.

والأرض تكاد تكون كرة ، إلاّ أنّها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء ومفلطحة عند القطبين (5).

10 ، 11. { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }، فالمراد من النفس هي الروح ، قال سبحانه : {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام : 93] وقال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } [البقرة : 235].

وقال : {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة : 116].

فاذاً المراد من تسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة ، فتسوية النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة ، ولو أُريد من النفس الروح والجسم فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.

وأمّا تنكير النفس ، فلأنّه أراد كلّ نفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون نفس ، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة ، وهي نفس النبي (صلى الله عليه واله) ، والمعنى الأوّل هو الأوضح بقرينة انّه أخذ يحلف بالكائنات الحيّة وغير الحيّة.

إلى هنا تمّ بيان الحلف بأحد عشر أمراً ، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الأقسام الواردة في القرآن الكريم.

ثمّ إنّ بعض من ينكمش من الحلف بغير الله سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات ، ويحس عجزاً في المنطق ، ويقول : المراد هو ربّ الشمس والقمر وهكذا ، ولكنّه غافل انّه لا يمكن تقديره في الآيتين الأخيرتين أي : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم بربّ السماء وربّ ما بناها أي ربّ بانيها ، وهكذا الحلف بربّ الأرض وما طحاها ، أي ربّ طاحيها.

إلى هنا تمّ الحلف بهذه الموجودات السماوية والأرضية والحية وغير الحية.

أخبر سبحانه بأنّه بعد ما خلق النفس وسوّاها واكتملت خلقتها ظاهراً وباطناً ، علّمها سبحانه التقوى والفجور ، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح ، وقد تعلّم ذلك في منهج الفطرة ، وقد استعمل كلمة « ألهم » لأنّه بمعنى إلقاء الشيء في روع الإنسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتىٰ ، والإنسان يعلم من صميم ذاته الحسن والسيّء من دون أن يتعلّم عند أحد.

وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أُخرى ، وقال : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 10].

ولما حلف بالموجودات السماوية والأرضية غير الحيّة والحيّة ، وانّه قد ألهم النفس الإنسانية طرق الصلاح والفلاح ، أو طرق الشر والضلال ، أتىٰ بجواب القسم ، وهو قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ، فجعل « زكاها » مقابل « دساها » فيعلم معنى الثاني من الأوّل ، فقال : { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }.

والتزكية هو التطهير من الآثام ، مقابل التدسيس ، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.

انّ قوله : ( دَسَّاهَا ) مشتق من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء من الشيء ، والتدسيس مصدر دسّس ، وهو من دسس يدسس تدسيساً ، ومعنى الآية فالإنسان هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما ، والتزكية هي الإتمام والإعلاء بالتقوىٰ ، لأنّ لازم التطهير هو الإنماء كما أنّ التدسية النقص والإخفاء بالفجور.

والمقسم عليه : هو قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ، وربّما يتصوّر أنّ جواب القسم محذوف.

قال الزمخشري : إنّ جوابه محذوف تقديره ليدمدمنّ الله علىٰ أهل مكة لتكذيبهم رسول الله كما دمدم على ثمود لأنّهم قد كذبوا صالحاً.

وأمّا قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } فكلام تابع لقوله : { فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء. (6)

يلاحظ عليه : أنّه لو كان جواب القسم هو ما قدّره ، يفقد الجواب الصلة اللازمة بينه وبين الأقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس ، ولا مانع من أن يكون قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها } جواب القسم ، بأن يكون تابعاً لقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }.

وعلىٰ ما ذكرنا فالصلة بين الأمرين واضحة ، وهي أنّه سبحانه يذكر نعمه الهائلة في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحداً منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو الأمام ، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي علىٰ درب الطاعة ، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.

__________________

(1) وما في تفسير الرازي من أنّه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء غير صحيح ولعلّه أسقط قوله : ( وَضُحَاهَ) والموصول كلّه عن القسم. « انظر تفسير الفخر الرازي : 31 / 189 ».

(2) الله والعلم الحديث : 30.

(3) الميزان : 20 / 297.

(4) تفسير المراغي : 30 / 167.

(5) الله والعلم الحديث : 25.

(6) الكشاف : 3 / 342.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى