مقالات

القضية الحسينية بين التأسيس وعوامل الامتداد

لم تشغل أي نهضة أو ثورة تحررية في المجتمع الإنساني كالتي شغلتها المساحة الهائلة لقضية الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا امتدت أبعادها واتسعت مدياتها بالمستوى الذي وصلت إليه تلك القضية، فالضمير الإنساني، وكبار المصلحين وقادة الثورات التحررية تفاعلوا معها واستوعبوها كثورةٍ عارمةٍ تتحدى الطواغيت وتدافع عن المظلومين، ونهضةٍ إصلاحية حملت معها كل مقومات امتدادها فهي تدعو إلى الخير وتحارب الشر بكل أنواعه، وتنادي بالحفاظ على مكارم الأخلاق، فمن الذي أسس لها وغرس جذورها في ضمير الأمة والإنسانية؟ وما تلك المقومات التي أعطت القضية الحسينية كلَّ هذا الزخم الهائل من العطاء؟ المؤسس الأول:

لم يكن تعلق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بحفيده (عليه السلام) وهو صغير يحبو تعلقاً عاطفياً مجرداً، وإنما كان أعظم من ذلك بكثير، وقد كان شغفه النبوي به ما يثير استغراب المحيطين به من المسلمين ففيه من الإشارات والدلالات الرسالية ما يدعوهم إلى التأمل، والاستفهام عن كنه ولعه به هكذا!،

ويضع أمامهم (صلى الله عليه وآله) – وهو الذي لا ينطق عن الهوى- تأملات تنفتح على آفاق رحبة، ومستقبلٍ يتصل بمصير هذه الأمة – فيقول(صلى الله عليه وآله) لأصحابه:(من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى الحسين) ، والتأريخ الإسلامي يزخر بأمثالها من الروايات التي إن دلَّت إنما تدلُّ على أنّ للحسين (عليه السلان) شأناً عظيماً وأنَّ ثمة خطب عظيم سيحدث وقد أنبأهم به بأنّ ولده سيقتله الأشرار من أمته، فيقول عنه (صلى الله عليه وآله):(تقتله الفئة الباغية من بعدي لا أنالهم الله شفاعتي) ، وما كان بكاؤه (صلى الله عليه وآله) على الحسين (ع) إلا تأصيلاً للمبادئ التي سينطلق بها أبو الأحرار (عليه السلام) واستنكاراً رسالياً مبكراً للجريمة البشعة التي سيرتكبها أوباش الأمة بحق الرسالة وحملتها، كما وضع (صلى الله عليه وآله) فوق كل هذا الحب أُحجية الامتداد الذي سوف يمثله هذا الحفيد قائلاً:(حسين منّي وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا) ، راسماً للقضية الحسينية خطاً بيانياً متصاعداً، حلَّقَ سيد الشهداء في سماواته بجناحي الصبر والتضحية في أعلى المراتب. ذبيح الله وخارطة الطريق: إنَّ خروجه (عليه السلام) لم يكن إلا لتصحيح الانحراف في مسار الأمة الذي تسبب به رعاة الشر وأعوانهم، وقد أكد تلك الحقيقة عند خروجه إلى مكة قائلاً:( وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) ، وهذا وإن كان الإعلان الأبرز لثورة المبادىء التي أشعل فتيلها أبو الأحرار في رحلة انطلاقه الأولى إلا أنه لم يكن الإعلان الأول لنهضته فلقد سبقه أكثر من موقف من مواقف التحدي والإعلان عن ثورته، فقد كان في ردّه على كتاب معاوية يعلن استنكاره وتحديه للطغيان الأموي قائلاً:( اعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنَّة وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيا يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية) ، وموقفٌ آخر مشابهٌ لهكذا موقف وقفه الإمام الثائر عندما دعاه والي المدينة إلى إعلان البيعة ليزيد فما كان منه إلا الامتناع حيث قال (عليه السلام) : (إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله) ، فما كان أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) ليتردد أو يُغيّر خارطة الطريق التي رسمها له جده المصطفى بالخروج إلى العراق، فهذا أخوه محمد بن الحنفية يدعوه لأن يكون غير العراق هدفاً في رحلة جهاده، إلا أنه يأبى إلا أن يتم رحلة الجهاد، وكما أراد له الله تعالى فهو من اختير دون سواه ليكون ذبيح الله وقربان التضحية في سبيله، ولبقاء الدين سالماً معافى، فيقول له (عليه السلام) ( يا أخي إن جدي رسول الله أتاني بعدما فارقتك وأنا نائم فضمّني إلى صدره وقبَّلَ ما بين عيني وقال (صلى الله عليه وآله) لي: يا حسين يا قُرَّة عيني، اخرج إلى العراق، فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا مخضبا بدمائك) ، وهكذا فإنّ القضية الحسينية، (منذ البدء كانت فعلاً مدروساً ومخططاً منذ لحظة ولادته، وبدأت خطوات تنفيذها في اللحظة التي تخيل فيها ابن آكلة الأكباد أنه لا إسلام حقيقيا بعد اليوم) . ثورة المبادئ: إن الثورات والحركات التحررية التي تشهدها الشعوب يسعّر لهيبها ما يقع على تلك من ظلمٍ، ويحدد قادتها أهدافها أمام الجماهير وفقاً لما فيه نهاية الاستبداد والقهر الذي تكابده من حكوماتها،غالباً ما تنحرف تلك الثورات عن المبادئ التي خَططَ ودعا لها قادتها، ويصيبها الفتور جرّاء عمليات الالتفاف التي تؤدي بتلك الثورات إلى الانحراف ويكون للعناصر الفاسدة والانتهازية دورٌ كبيرٌ للاستحواذ على منجزاتها وتفريغها من محتواها، فلا يبقى منها سوى شعاراتها البراقة، وكونها لا تحمل عوامل ديمومتها فهي في عمومها تنطوي على مصالح دنيوية زائلة ويتسابق رعاتها لتحقيق منافعهم الشخصية، وتتفاوت تلك الثورات باستمراريتها تبعاً لذلك، فهذا النوع من البشر تراهم متشبثين بالمباديء والشعارات، ما دامت تتماشى مع مصالحهم، ومتى ما أصبحوا على مرمى الخطر بسببها أو تقاطعت مع منافعهم تجدهم ينسلخون عنها وربما يصبحون أشد المعارضين لها، والإمام الحسين (عليه السلام) يعطي وصفاً دقيقاً لأمثال هؤلاء فيقول: (إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون) ، أما في نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) فالأمر يختلف تماماً فانطلاقته كانت مجردة عن الأهواء والمنافع الدنيوية، وهذا المستوى من التفاني أدى إلى خلق حالة استغراب و عدم فهم من الآخرين لأسباب خروجه مصطحباً العيال والأطفال، رغم أنّه كان واضحاً في إعلانه المباديء العامة لنهضته وخروجه الثائر ضد أولئك الطغاة، وهو يجيب عن سر هذا الاصطحاب للأهل والعيال قائلاً (شاء الله أن يراني قتيلاً ويراهن سبايا)، فالمشهد كان جلياً لسيد الشهداء، لقد كان يعي جيداً أي نوع من الانتصارات سوف يتحقق له، وأي فتح قريبٍ سيدركه فيقول:( من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح ) ، وكان يبشر به وهو سائر نحو طريق الشهادة، وكأنه يرى بأم عينيه أشلاءه تقطِّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ويبصر ذويه وأصحابه مجزرين كالأضاحي، وأن يبلغ مدى التضحية به أن يقدم حتى الطفل الرضيع! بعد أن رماه حرملة اللعين بسهمٍ فذبحه من الوريد إلى الوريد وهو(عليه السلام) على هذه الحالة يدعو ربه فيقول (اللهم إن حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير لنا وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين، فلقد هوَّن ما بي أنه بعينك يا أرحم الراحمين) ويقيناً أن الله تعالى قد استجاب له دعوته، وعليه فإن القضية الحسينية قد تبلورت بجوهرها النبوي وبعدها الرسالي لتصبح نداءً سماوياً ونهضةً إنسانية وثورةً للمبادىء والقيم النبيلة يستلهم منها الدروس والعبر عبر التأريخ والدهور

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى