مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 33-37)

قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 33 – 37].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{إن الله اصطفى} أي: اختار واجتبى {آدم ونوحا} لنبوته {وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} أي.: على عالمي زمانهم بأن جعل الأنبياء منهم.

وقيل: اختار دينهم كقوله: {واسأل القرية} عن الفراء. وقيل: اختارهم بالتفضيل على غيرهم بالنبوة، وغيرها من الأمور الجليلة التي رتبها الله لهم في ذلك من مصالح الخلق. وقيل: اختار آدم بأن خلقه من غير واسطة، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، وأرسله إلى الملائكة والإنس واختار نوحا بالنبوة، وطول العمر، وإجابة دعائه، وغرق قومه، ونجاته في السفينة. واختار إبراهيم بالخلة، وتبريد النار، وإهلاك نمرود.

وقوله: {وآل إبراهيم وآل عمران} قيل: أراد به نفس إبراهيم، ونفس عمران كقوله:. {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون} يعني موسى وهارون. وقيل: آل إبراهيم أولاده: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. وفيهم داود وسليمان ويونس وزكريا ويحيى وعيسى. وفيهم نبينا لأنه من ولد إسماعيل. وقيل: آل إبراهيم هم المؤمنون المتمسكون بدينه، وهو دين الاسلام، عن ابن عباس والحسن. وأما آل عمران فقيل: هم من آل إبراهيم أيضا، كما قال {ذرية بعضها من بعض} فهم موسى وهارون ابنا عمران، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.

وقيل: يعني بآل عمران مريم وعيسى، وهو عمران بن الهشم بن أمون، من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم، لأن آل الرجل أهل البيت الذي ينتسب إليه، عن الحسن ووهب. وفي قراءة أهل البيت وآل محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم ” على العالمين.

وقالوا أيضا: إن آل إبراهيم هم آل محمد ” صلى الله عليه وآله وسلم ” الذين هم أهله، ويجب أن يكون الذين اصطفاهم الله تعالى مطهرين معصومين، منزهين عن القبائح، لأنه تعالى لا يختار ولا يصطفي إلا من كان كذلك، ويكون ظاهره مثل باطنه في الطهارة والعصمة. فعلى هذا يختص الاصطفاء بمن كان معصوما من آل إبراهيم وآل عمران، سواء كان نبيا أو إماما.

ويقال الاصطفاء على وجهين أحدهما: إنه اصطفاه لنفسه أي: جعله خالصا له، يختص به. والثاني: إنه اصطفاه على غيره أي: اختصه بالتفضيل على غيره، وعلى هذا الوجه معنى الآية.

فإن قيل: كيف اختصهم الله بالتفضيل قبل العمل؟ فالجواب: إنه إذا كان المعلوم أن صلاح المكلفين لا يتم إلا بهم، فلا بد من تقديم البشارة بهم، والإخبار بما يكون من حسن شمائلهم وأفعالهم، والتشويق إليهم، كما يكون من جلالة أقدارهم، وزكاء خلالهم، ليكون ذلك داعيا للناس إلى القبول منهم، والانقياد لهم. وفي هذه الآية دلالة على تفضيل الأنبياء على الملائكة، عليهم أجمعين الصلاة والسلام، لأن العالمين يعم الملائكة وغيرهم من المخلوقين، وقد فضلهم سبحانه، واختارهم على الكل.

وقوله {ذرية} أي: أولادا وأعقابا {بعضها من بعض} قيل: معناه في التناصر في الدين، وهو الاسلام، أي: دين بعضها من دين بعض، كما قال: {والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي: في التناصر والتعاضد على الضلال، وهو قول الحسن وقتادة. وقيل: بعضها من بعض في التناسل والتوالد، فإنهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، وهو المروي عن أبي عبد الله ” عليه السلام “، لأنه قال الذين اصطفاهم الله بعضهم من نسل بعض، واختاره أبو علي الجبائي.

{والله سميع عليم} فيه قولان أحدهما: إن معناه سميع لما تقوله الذرية عليم بما يضمرونه، فلذلك فضلهم على غيرهم لما في معلومه من استقامتهم في أقوالهم وأفعالهم والثاني: إن معناه سميع لما تقوله امرأة عمران من النذر، عليم بما تضمره.

ونبه بذلك على استحسان ذلك منها.

النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما وقعت المنازعة في إبراهيم وعيسى، واختلف أقوال النصارى واليهود فيهما، بين تعالى أن من أطاع الرسول قال فيهما ما يقوله هو. وقيل: إنه لما أمر بطاعة نبيه ” صلى الله عليه وآله وسلم “، وأبى ذلك المشركون، بين تعالى أنه كما اصطفاءه لرسالته، اصطفى من قبله من الأنبياء، فلا وجه لإنكارهم رسالته.

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
لما ذكر سبحانه أنه اصطفى آل عمران، عقبه بذكر مريم بنت عمران، فقال: {إذ قالت امرأة عمران} وقد مضى القول فيه، واسمها حنة جدة عيسى، وكانتا أختين إحداهما: عند عمران بن الهشم، من ولد سليمان بن داود.

وقيل: هو عمران بن ماثان، عن ابن عباس ومقاتل. وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة. وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل. والأخرى: كانت عند زكريا، واسمها أشياع، واسم أبيها قاقود بن قبيل. فيحيى ومريم ابنا خالة {رب إني نذرت لك ما في بطني} أي: أوجبت لك بأن أجعل ما في بطني.

{محررا} أي: خادما للبيعة يخدم في متعبداتنا، عن مجاهد. وقيل: محررا

للعبادة، مخلصا لها، عن الشعبي. وقيل: عتيقا خالصا لطاعتك لا أستعمله في منافعي، ولا أصرفه في الحوائج، عن محمد بن جعفر بن الزبير. قالوا: وكان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها، ويكنسها ويخدمها، لا يبرح حتى يبلغ الحلم، ثم يخير فإن أحب أن يقيم فيه أقام، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء.

قالوا: وكانت حنة قد أمسك عنها الولد، فدعت حتى أيست. فبينا هي تحت شجرة، إذ رأت طائرا يزق فرخا له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يرزقها ولدا، فحملت بمريم. وروي عن أبي عبد الله قال: أوحى اله تعالى إلى عمران:

إني واهب لك ذكرا مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل. فحدث امرأته حنة بذلك، وهي أم مريم. فلما حملت بها قالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محررا {فتقبل مني} أي: نذري قبول رضا.

{إنك أنت السميع} لما أقوله {العليم} بما أنوي فلهذا صحت الثقة لي.

{فلما وضعتها} قيل: إن عمران هلك وهي حامل، فوضعت بعد ذلك، يعني ولدت مريم، وكانت ترجو أن يكون غلاما. فلما وضعتها خجلت واستحيت، و {قالت} منكسة رأسها: {ربي إني وضعتها أنثى} وقيل فيه قولان أحدهما: إن المراد به الاعتذار من العدول عن النذر لأنها أنثى والآخر: إن المراد تقديم الذكر في السؤال لها بأنها أنثى، لأن سعيها أضعف، وعقلها أنقص. فقدم ذكرها ليصح القصد لها في السؤال بقولها: {وإني أعيذها بك}.

{والله أعلم بما وضعت} إخبار منه تعالى بأنه أعلم بوضعها، لأنه هو الذي خلقها وصورها. وعلى القراءة الأخرى: وأنت يا رب أعلم مني بما وضعت {وليس الذكر كالأنثى} لأنها لا تصلح لما يصلح الذكر له، وإنما كان يجوز لهم التحرير في الذكور دون الإناث، لأنها لا تصلح لما يصلح له الذكر من التحرير لخدمة بيت المقدس، لما يلحقها من الحيض والنفاس والصيانة عن التبرج للناس. وقال قتادة:

لم يكن التحرير إلا في الغلمان فيما جرت به العادة. وقيل: أرادت أن الذكر أفضل من الأنثى على العموم، وأصلح للأشياء. والهاء في قوله {وضعتها} كناية عن ما في قوله {ما في بطني} وجاز ذلك لوقوع (ما) على مؤنث، ويحتمل أن يكون كناية عن معلوم دل عليه الكلام {وإني سميتها} أي: جعلت اسمها {مريم} وهي بلغتهم العابدة والخادمة فيما قيل. وكانت مريم أفضل النساء في وقتها وأجلهن.

وروى الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” قال: حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} خافت عليها ما يغلب على النساء من الآفات، فقالت ذلك. وقيل: إنما استعاذتها من طعنة الشيطان في جنبها التي لها يستهل الصبي صارخا، فوقاها الله تعالى، وولدها عيسى منه بحجاب. فقد روى أبو هريرة أن النبي ” صلى الله عليه وآله وسلم ” قال: {ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستدل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها. وقيل: إنها استعاذت من إغواء الشيطان الرجيم إياها، عن الحسن.

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

فتقبلها ربها} مع أنوثتها، ورضي بها في النذر الذي نذرته حنة للعبادة في بيت المقدس، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى. وقيل: معناه تكفل بها في تربيتها والقيام بشأنها، عن الحسن. وقبوله إياها أنه ما عرتها علة ساعة من ليل أو نهار {بقبول حسن} أصله: بتقبل حسن، ولكنه محمول على قوله فتقبلها قبولا حسنا. وقيل: معناه سلك بها طريق السعداء، عن ابن عباس. {وأنبتها نباتا حسنا} أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا. وقيل: سوى خلقها، فكانت تنبت في يوم ما ينبت غيرها في عام، عن ابن عباس. وقيل: أنبتها في رزقها وغذائها حتى نمت امرأة بالغة تامة، عن ابن جريج. وقال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين، صامت النهار، وقامت الليل، وتبتلت حتى غلبت الأحبار.

{وكفلها زكريا} بالتشديد معناه: ضمها الله إلى زكريا، وجعله كفيلها، فيقوم بها. وبالتخفيف معناه: ضمها زكريا إلى نفسه، وضمن القيام بأمرها. وقالوا: إن أم مريم أتت بها ملفوفة في خرقة إلى المسجد، وقالت: دونكم النذيرة. فتنافس فيها الأحبار، لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم. فقال لهم زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فقالت له الأحبار: إنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنا نقترع عليها، فتكون عند من خرج سهمه. فانطلقوا وهم تسعة وعشرون رجلا إلى نهر جار، فألقوا أقلامهم في الماء. فارتز قلم زكريا، وارتفع فوق الماء، ورسبت أقلامهم، عن ابن إسحاق وجماعة. وقيل بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء، كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جرية الماء، فذهب بها الماء، عن السدي. فسهمهم زكريا وقرعهم وكان رأس الأحبار ونبيهم، فذلك قوله: {وكفلها زكريا}.

وزكريا كان من ولد سليمان بن داود وفيه ثلاث لغات: المد والقصر وزكري مشدد. قالوا: فلما ضم زكريا مريم إلي نفسه، بنى لها بيتا، واسترضع لها، فقال محمد بن إسحاق: ضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء، بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطها، لا يرقى إليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، ولا يصعد إليها غيره. وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا} يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير حينها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، غضا طريا، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي. وقيل: إنها لم ترضع قط، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة عن الحسن.

{قال يا مريم أنى لك هذا} يعني: قال لها زكريا: كيف لك؟ ومن أين لك هذا؟ كالمتعجب منه {قالت هو من عند الله} أي: من الجنة. وهذه تكرمة من الله تعالى لها، وإن كان ذلك خارقا للعادة، فإن عندنا يجوز أن تظهر الآيات الخارقة للعادة على غير الأنبياء من الأولياء والأصفياء، ومن منع ذلك من المعتزلة قالوا فيه قولين أحدهما: إن ذلك كان تأسيسا لنبوة عيسى، عن البلخي والآخر: إنه كان بدعاء زكريا لها بالرزق في الجملة، وكانت معجزة له، عن الجبائي {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} تقدم تفسيره.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص277-284.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

أم مريم :

إِنَّ اللَّهً اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ } . قال محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي في تفسيره الكبير المسمى بالبحر المحيط ، قال : « قرأ عبد اللَّه وآل محمد على العالمين » . وسواء أصحت هذه القراءة ، أم لم تصح فإن آية التطهير : { إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً – 33 الأحزاب } . ان هذه الآية كافية وافية في الدلالة على اصطفاء اللَّه لآل محمد ، ومنزلتهم وعظمتهم . . ان محمدا ( صلى الله عليه واله ) أفضل الأنبياء جميعا ، فآله أيضا أفضل الآل جميعا ، بل ان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل ، أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل ، ولا أذكر لفظ الحديث ، فبالأولى إذا كان العلماء من آله الأطهار بشهادة اللَّه تعالى .

ومهما يكن ، فقد ابتدأ اللَّه سبحانه بذكر آدم ، لأنه أبو البشر الأول ، وثنى بنوح ، وهو أبو البشر الثاني ، لأن جميع سكان الأرض من نسله وحده ، من أولاده الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ، حيث قضى الطوفان على جميع الناس إلا نوحا . . واصطفى اللَّه كلا من آدم ونوح بشخصه ، ولذا لم يقترن اسمهما بآل ، أما إبراهيم وعمران فقد اصطفاهما مع الآل . . وكما ان آدم ونوحا هما أبوا البشر فان إبراهيم أبو الأنبياء جميعا بعد نوح ، حيث لا نبي منذ إبراهيم إلا من نسله .

والظاهر ان المراد بعمران في قوله : ( آل عمران ) هو أبو مريم جد عيسى لا أبو موسى الكليم ، لتكراره في الآية الثانية : { إِذْ قالَتِ امْرَأَةُ عِمْرانَ } فهو نظير تكرار الاسم في جملتين وردتا في سياق واحد ، نحو أكرم زيدا ان زيدا رجل صالح ، وعلى هذا يكون المراد بآل عمران السيد المسيح وأمه مريم ، وقيل :

انه كان لعمران أبي موسى الكليم بنت اسمها مريم أكبر من موسى سنا ، وان بين

عمران هذا ، وعمران جد المسيح ألف وثمانمائة سنة . والمراد بقوله تعالى : ( عَلَى الْعالَمِينَ ) ان اللَّه قد اختار كل واحد ممن ذكرهم ، لأنه كان الصفوة الممتازة في أهل زمانه ، لا في كل زمان .

( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) . ليس من شك أن نوحا فرع عن آدم ، وإبراهيم وآله فرع عن نوح ، وآل عمران فرع عن إبراهيم ، وبيان هذا أشبه بتوضيح الواضح وكلام اللَّه يجب أن يحمل على أحسن المحامل . . اذن ، ما هو القصد من هذا الاخبار ؟

الجواب : ليس القصد الاخبار عن ان المتأخر فرع عن المتقدم ، وانما القصد – كما هو ظاهر السياق – مدحهم والثناء عليهم ، وانهم كانوا أشباها ونظائر في القداسة والفضيلة . . وبعد هذا التمهيد ينتقل إلى قصة امرأة عمران أم مريم وجدة عيسى ( عليه السلام ) .

وخلاصتها ان قوفاذ بن قبيل الإسرائيلي كان له بنتان : اسم إحداهما حنة ، وتزوجها عمران ، وهو إسرائيلي أيضا ، وأولدها مريم ، واسم الثانية ايشاع ، وتزوجها زكريا وولدت منه يحيى ، فيحيى بن زكريا ، ومريم أم عيسى هما ابنا خالة ، وليس عيسى ويحيى ابني خالة ، كما هو معروف . . هكذا في مجمع البيان .

ومات عمران ، وحنة حامل ، فنذرت حملها لخدمة بيت المقدس ، وتضرعت خالصة للَّه أن يتقبل نذرها ، وكان هذا جائزا في دينهم ، ولا يجوز في دين الإسلام ، وكانت تنتظر ذكرا ، لأن النذر للمعابد لم يكن معروفا الا للصبيان ، ولما وضعت أنثى توجهت للَّه ، وقالت : اني وضعتها أنثى . . واني سميتها مريم ، ومريم في اللغة العبرية بمعنى خادم الرب .

وتقبّل اللَّه نذرها ، وان كان أنثى ، واختلف بنو إسرائيل كل يريد أن يكفل مريم ، ويدير شؤونها ، ولما اشتدت الخصومة فيما بينهم اتفقوا على الاقتراع ، فكانت من نصيب زكريا زوج خالتها ، وكان آنذاك رئيس الهيكل اليهودي ، فاهتم بها وتفقّد شؤونها ، وكان كلما دخل عليها وجد عندها طعاما ، وعهده بها أن لا يدخل عليها أحد ، فسألها متعجبا : أنّى لك هذا ! . . قالت هو من عند اللَّه – أي لا بواسطة أحد من الناس – ان اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب .

وليس من شك ان هذه كرامة لمريم ( عليها السلام ) ، أما من نفى هذه الكرامة ، وقال : ان الطعام الذي رآه عندها زكريا كان من حسنات المؤمنين فهو خلاف ظاهر الآية . . وليست هذه الكرامة بأعظم من ولادة عيسى بلا أب ، فإن كانت تلك محلا للشك والريب فهذه أولى .

ومعنى قوله تعالى : ( وأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ) انها نشأت على الخلق الكريم ، وطاعة اللَّه وعبادته ، فعن ابن عباس انها لما بلغت التاسعة من عمرها صامت النهار ، وقامت الليل ، حتى أربت على الأحبار . . وقيل : لم تجر عليها خطيئة .

فاطمة ومريم :

وحدث مثل هذه الكرامة لسيدة النساء فاطمة بنت رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) ، فقد جاء في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي عند تفسير قوله تعالى حكاية عن مريم : { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } ، جاء في هذا التفسير ما نصه بالحرف :

« جاع النبي ( صلى الله عليه واله ) في زمن قحط ، فأهدت له فاطمة رغيفين ولحما . . فأتاها ، وإذا بطبق عندها مملوء خبزا ولحما ، فقال لها : انّى لك هذا ؟ قالت هو من عند اللَّه ان اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب ، فقال : الحمد للَّه الذي جعلك شبيهة بسيدة بني إسرائيل ، ثم جمع رسول اللَّه عليا والحسنين ، وجمع أهل بيته عليه ، فأكلوا وشبعوا ، وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة على جيرانها » .

وفي كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ان عليا ( عليه السلام ) استقرض دينارا ليشتري به طعاما لأهله ، فالتقى بالمقداد بن الأسود في حال إزعاج ، ولما سأله الإمام قال : تركت أهلي يبكون جوعا فآثره بالدينار على نفسه وأهله ، وانطلق إلى النبي ( صلى الله عليه واله ) ، وصلى خلفه ، وبعد الصلاة قال النبي لعلي : هل عندك شيء تعشينا به ؟ وكأن اللَّه قد أوحى إليه أن يتعشّى عند علي ، فأطرق علي لا يحير جوابا ، فأخذ النبي بيده ، وانطلقا إلى بيت فاطمة ، وإذا بحفنة من الطعام ،

فقال لها علي : أنّى لك هذا ؟ . قال له النبي : هذا ثواب الدينار ، هذا من عند اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب ، الحمد للَّه الذي اجراك يا علي مجرى زكريا ، واجراك يا فاطمة مجرى مريم ، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . . ثم قال محب الدين الطبري : خرّج هذا الحديث الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال .

وجاء في صحيح مسلم ، باب فضائل بنت النبي ، ان رسول اللَّه قال لابنته فاطمة : أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة . ونقل السيد محسن الأمين في الجزء الثاني من أعيان الشيعة ، سيرة الزهراء ، نقل عن صحيح البخاري ان النبي ( صلى الله عليه واله ) قال : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وأيضا نقل عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ان الإمام أحمد روى في مسنده عن النبي انه قال : فاطمة سيدة نساء العالمين .

وجاء في كتاب ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري بعنوان : ما جاء في سيادتها وأفضليتها ، قال الطبري ما نصه بالحرف : « عاد النبي فاطمة ، وهي مريضة ، فقال لها : كيف تجدينك يا بنية ؟ قالت : اني وجعة ، ويزيدني ما لي طعام آكله . فقال : يا بنية أما ترضين انك سيدة نساء العالمين ؟ . فقالت : يا أبت ، فأين مريم بنت عمران ؟ . قال : تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ، أما واللَّه لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة » . ثم قال الطبري خرّج هذا الحديث أبو عمر ، وخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي ، وبقية البحث عند تفسير الآية 42 من هذه السورة فقرة « من هي سيدة النساء » .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص46-51.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

افتتاح لقصص عيسى بن مريم وما يلحق بها وذكر حق القول فيها، والاحتجاج على أهل الكتاب فيها، وبالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب.

قوله تعالى  : {إن الله اصطفى آدم ونوحا} إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في قوله تعالى : {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } [البقرة : 130] ، أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له.

لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، ولو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال : من العالمين، وأفاد اختصاص الإسلام بهم واختل معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار وتقديم لهم عليهم في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.

ومن الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 42] ، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء.

وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحا، فأما آدم فقد اصطفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، وأول من فتح به باب التوبة.

قال تعالى : {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ، وأول من شرع له الدين، قال تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } [طه: 123] ، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، ويا لها من منقبة له (عليه السلام).

و أما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب والشريعة كما مر بيانه في تفسير قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213] ، وهو الأب الثاني لهذا النوع، وقد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى : {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 77 – 79].

ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم وآل عمران من هؤلاء المصطفين، والآل خاصة الشيء، قال الراغب في المفردات : الآل قيل مقلوب عن الأهل، ويصغر على أهيل إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال آل فلان ولا يقال : آل رجل وآل زمان كذا، أو موضع كذا، ولا يقال آل الخياط بل يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل، يقال : أهل الله وأهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا وبلد كذا، وقيل هو في الأصل اسم الشخص ويصغر أويلا، ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم وآل عمران خاصتهما من أهلهما والملحقين بهما على ما عرفت.

فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو أبو موسى (عليه السلام)، وعلى أي تقدير هو من ذرية إبراهيم وكذا آله وقد أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.

و قد قال الله تعالى فيما قال : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } [النساء: 54] ، والآية في مقام الإنكار على بني إسرائيل وذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها وما يحتف بها من الآيات، ومن ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل أعني غير إسحاق ويعقوب وذرية يعقوب وهم أي ذرية يعقوب بنو إسرائيل فلم يبق لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، وفيهم النبي وآله.

على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية.

على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 68] ، وقوله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 127 – 129].

فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، والآية ليست في مقام الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم واصطفاء موسى وسائر الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق وبين ما تثبتها آيات كثيرة من مناقبهم وسمو شأنهم وعلو مقامهم، وهي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها، فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفي ما عداه.

و كذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] ، كل ذلك ظاهر.

ولا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، ولا تفضيل غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل الله النبيين على سائر العالمين وفضل بعضهم على بعض، قال تعالى : {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86] ، وقال أيضا : {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55].

وأما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنة عمران، وقد تكرر ذكر عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم (عليها السلام) وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى (عليهما السلام) أو هما وزوجة عمران.

و أما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى : {ذرية بعضها من بعض}، الذرية – في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثم استعملت في مطلق الأولاد وهو المعنى المراد في الآية، وهي منصوبة عطف بيان.

و في قوله : {بعضها من بعض} دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدىء وينتهي من البعض الآخر وإليه.

ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب في الأفعال الإلهية، ومنها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.

قوله تعالى : {والله سميع عليم}، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم، كما أن قوله : ذرية بعضها من بعض، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة، فالمحصل من الكلام : أن الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحق، وإنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

قوله تعالى : {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم}، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب.

والتحرير هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقية، وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن والفكر.

والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك.

و في قوله : {قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني}، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملا، وأن حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ وإلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى : {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ، على ما سيجيء من البيان.

ومن المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريرا عن الرقية وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذورا لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه، أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، وقد قيل : إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما : ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام، وإن أحب الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها تناجي ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول : نذرت لك ما في بطني محررا من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله : {محررا}، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر والمؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو أنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزنا وتحسرا لما وضعتها رب إني وضعتها أنثى، ولا وجه ظاهر لقوله تعالى : {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}، على ما سيجيء بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا مع إبطاله، وقد قال تعالى : {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8] ، وقال تعالى : {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] ، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى، وقال تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] ، فجعل علم غيره بالغيب منتهيا إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي، ولذلك لما تبينت أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم وقطع : {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهرا.

و مفعول قولها : فتقبل مني، وإن كان محذوفا محتملا لأن يكون هو.

نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى : {فتقبلها ربها بقبول حسن}، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.

قوله تعالى : {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى}، في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبينت أنه أنثى قالت : {رب إني وضعتها أنثى}، وهو خبر أريد به التحسر والتحزن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى : {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى}، جملتان معترضتان وهما جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران، ولا أن الثانية مقولة لها والأولى مقولة لله.

أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها رب إني وضعتها أنثى، مسوقا لإظهار التحسر كان ظاهر قوله : والله أعلم بما وضعت، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق، ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الأنثى التي وهبناها لها، ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيا مبرئا للأكمه والأبرص ومحييا للموتى لكن هذه الأنثى ستتم به كلمة الله وتلد ولدا بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلم الناس في المهد، ويكون روحا وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى (عليه السلام).

ومن هنا يظهر : أن قوله : {وليس الذكر كالأنثى}، مقول له تعالى لا لامرأة عمران، ولو كان مقولا لها لكان حق الكلام أن يقال : وليس الأنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس منه وأردأ إنما يقول عند التحسر : ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه، ولا يقول : ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة، وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والأنثى معا أو في الأنثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسرين قوله : {وليس الذكر كالأنثى}، تتمة قول امرأة عمران، وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل، من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى : {وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل، ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكرا محررا للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة.

فقولها : وإني سميتها مريم بمنزلة أن تقول : إني جعلت ما وضعتها محررة لك، والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى : {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} الآية.

ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.

والكلام في قولها : {وذريتها}، من حيث إنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح انتفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها رب إني نذرت لك ما في بطني محررا، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا صالحا ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود، ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت، وسمتها مريم العابدة، الخادمة وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.

قوله تعالى : {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا}، القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا، فالكلام في معنى قولنا : فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله : {فتقبلها} إلى قوله : {حسنا}، الجملتان في قولها : {وإني سميتها} إلى قولها : {الرجيم} كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله : {فتقبلها ربها بقبول حسن}، قبولا لقولها وإني سميتها مريم، وقوله : {وأنبتها نباتا حسنا}، قبولا وإجابة لقولها : {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة فيعود معناه إلى اصطفائها وقد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتا حسنا إعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها، وإفاضة الحيوة لها ولمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.

وهذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآية : {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك} الآية وسنوضحه بيانا إن شاء الله العزيز.

فقد تبين أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن اصطفاءها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى : {وليس الذكر كالأنثى}.

قوله تعالى : {وكفلها زكريا}، وإنما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى : {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}، الآية.

قوله تعالى : {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا} “الخ” المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت، قال الراغب : ومحراب المسجد، قيل : سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل : سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا أي سليبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر، وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به وقيل : بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد، وكان هذا أصح، قال عز وجل :{ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل}، انتهى.

و ذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة، ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد.

أقول : وإليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الإسلام.

و في تنكير قوله : رزقا، إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل : إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود، وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها : {هو من عند الله إن الله يرزق} “الخ” في جواب قوله : يا مريم أنى لك هذا، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيىء.

على أن قوله تعالى : {هنالك دعا زكريا ربه} “الخ”، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة، فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة، ومما يشعر بذلك قوله تعالى : {قال يا مريم} “الخ” على ما سيجيء من البيان.

وقوله : {قال يا مريم أنى لك} “الخ” فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله : {وجد عندها رزقا}، يدل على أنه (عليه السلام) إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 144-154.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم، فهم النموذج الكامل لحب الله الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي أشارت إليه الآيات السابقة.

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}

«اصطفى» من الصفو، وهو خلوص الشيء من الشوائب، ومنه «الصفا» للحجارة الصافية. وعليه فالإصطفاء هو تناول صفو الشيء.

تقول الآية : إنّ الله إختار آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعاً. هذا الإختيار قد يكون «تكوينياً» وقد يكون «تشريعياً» أي أنّ الله قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقاً متميّزاً، وإن لم يكن في هذا الإمتياز ما يجبرهم على إختيار طريق الحقّ، بل أنّهم بملء إختيارهم وحرّية إرادتهم إختاروه. غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثمّ على أثر إطاعتهم أوامر الله، والتقوى والسعي في

سبيل هداية الناس نالوا نوعاً من التميّز الإكتسابي، الذي إمتزج بتميّزهم الذاتي، فكانوا من المصطفين.

{ذرّية بعضها من بعض}(2).

تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا ـ من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر ـ متشابهين ، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد، يقتبس كلّ من الآخر : {بعضها من بعض}.

{والله سميعٌ عليم}.

في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله كان يراقب مساعيهم ونشاطهم، ويسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضاً إلى مسؤوليات المصطفين الثقيلة نحو الله ومخلوقات الله.

في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من أُولي العزم، فبعد نوح الذي صرّح باسمه، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحاً نفسه وموسى وعيسى ونبيّ الإسلام. وذكر آل عمران تكرار للإشارة إلى السيّدة مريم والمسيح، بالنظر لكون هذه الآية مقدّمة لبيان حالهما.

1 ـ امتياز الأنبياء :

هنا يبرز هذا السؤال : على الرغم من أنّ هذا التميّز لم يجبر الأنبياء على السير في طريق الحقّ، وأنّه لا يتعارض مع حرّية الإرادة والإختيار، ولكن ألا يعتبر نوعاً من التفضيل ؟

والجواب : في الجواب نقول : إنّ خلقاً مصحوباً بنظام سليم يستتبع بالضرورة مثل هذا التفاضل، فتأمّل جسم الإنسان ـ مثلاً ـ مخلوق منظّم، وللحفاظ على هذا التنظيم لابدّ من الاعتراف بالتفاضل بين عضو وعضو، إذ لو كانت جميع الخلايا في جسم الإنسان تشبه في لطافتها خلايا شبكية العين، أو تشبه في صلابتها وقوّتها خلايا عظام الساق، أو تشبه خلايا الدماغ في حساسيّتها، أو تشبه خلايا القلب في حركتها، لاختلّ حتماً نظام الجسم. إذاً لابدّ من وجود خلايا مثل خلايا الدماغ لكي تتولّى إدارة سائر أعضاء الجسم وعضلاته، وخلايا العظام المتينة لتحفظ استقامة الجسم وخلايا الأعصاب الحسّاسة لتتسلّم أبسط الإيعازات، والخلايا المتحرّكة لتخلق الحركة في الجسم.

ما من أحد يستطيع أن يقول لماذا ليس الجسم كلّه دماغاً ؟ أو في النباتات، لماذا لا تكون الخلايا كلّها بلطافة خلايا أوراق الورد ؟ إنّ حالة كهذه ستهدم بناء النبات وتعرضه للفناء.

النقطة المهمّة هي أنّ هذا التميّز الذاتيّ الضروري لإيجاد بناء منظّم ليس بسيطاً، بل هو مصحوب بمسؤولية عظيمة، هذا «الإمتياز» وهذه المسؤولية الثقيلة نفسها تحفظ توازن كفّتي ميزان الخلق. أي أن نسبة تميّز الأنبياء على سائر البشر تتناسب مع أهميّة المسؤولية التي يضطلعون بها. كما أنّ الإختلاف في تميّز الآخرين يتناسب مع مسؤولياتهم.

فضلاً عن ذلك فإنّ التميّز الذاتي لا يكفي للإقتراب من الله، بل لابدّ معه من التميّز المكتسب.

كيفية ولادة مريم :

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }.

تعقيباً على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران، تشرع هاتان الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيّدة العظيمة.

جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسّرين أنّ «حنة» و «اشياع» كانتا أُختين، تزوّجت الأُولى «عمران»(3) أحد زعماء بني إسرائيل، وتزوّجت الأُخرى «زكريّا» النبيّ.

مضت سنوات على زواج «حنة» بغير أن ترزق مولوداً. وفي أحد الأيّام بينما هي جالسة تحت شجرة، رأت طائراً يطعم فراخه. فأشعل هذا المشهد نار حبّ الأُمومة في قلبها، فتوجّهت إلى الله بمجامع قلبها طالبةً منه أن يرزقها مولوداً، فاستجاب الله دعاءها الخالص، ولم تمض مدّة طويلة حتّى حملت.

ورد في الأحاديث أنّ الله قد أوحى إلى «عمران» أنّه سيهبه ولداً مباركاً يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم، ويحيي الموتى بإذن الله، وسوف يرسله نبيّاً إلى بني إسرائيل. فأخبر عمران زوجته «حنة» بذلك. لذلك عندما حملت ظنّت أنّ ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود، دون أن تعلم أنّ ما في بطنها أُم الابن الموعود «مريم» فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله «بيت المقدس». ولكنّها إ ذ رأتها أُنثى إرتبكت ولم تدر ما تعمل، إذ أنّ الخدمة في بيت الله كانت مقصورة على الذكور، ولم يسبق أن خدمت فيه أُنثى.

والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرّف على تتمّة الأحداث :

{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}.

هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنّها تهب ابنها خادماً في بيت المقدس، لأنّها كانت تظنّه ذكراً بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها، ولذلك قالت «محرّراً» ولم تقل «محرّرة» ودعت الله أن يتقبل نذرها : {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

«المحرر» من التحرير، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعيّنين للخدمة في المعبد ليتولّوا تنظيفه وخدماته، وليؤدّوا عباداتهم فيه وقت فراغهم. ولذلك سمّي الواحد منهم «المحرّر»، إذ هو محرّر من خدمة الأبوين، وكان ذلك مدعاة لافتخارهم.

قيل إنّ الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين إلى سنّ البلوغ، ومن ثمّ كان الأمر يوكل إليهم، إن شاؤوا بقوا، وإن شاؤوا تركوا الخدمة.

ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيّام حمل زوجته، وإلاَّ كان من البعيد أن تستقل الاُم بهذا النذر.

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}.

هذه الآية تشرح حال أُم مريم بعد ولادتها، فقد أزعجها أن تلد أُنثى، وراحت تخاطب الله قائلة : إنّها أُنثى، وأنت تعلم أنّ الذكر ليس كالأُنثى في تحقيق النذر، فالأُنثى لا تستطيع أن تؤدّي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد، مضافاً إلى أن قواها البدنية ضعيفة، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك. {وليس الذكر كالأُنثى}.

ويظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أنّ هذا القول (وليس الذكر كالأُنثى) قول أُمّ مريم، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين. ولكن كان ينبغي أن تقول «وليست الأُنثى كالذكر» باعتبارها قد ولدت أُنثى لا ذكراً. لذلك يمكن أن يكون في الجملة تقديم وتأخير، كما نلاحظه في كلام العرب وغير العرب. ولعلّ ما انتابها من الكدر والحزن لوضعها أُنثى جعلها تنطق بهذا الشكل، إذ كانت شديدة الاعتقاد بأنّ ما ستلده ذكر وأنّها ستفي بنذرها في جعله خادماً في بيت المقدس. وهذا الاعتقاد والتوقّع جعلاها تقدّم الذكر على الأُنثى، على الرغم من أنّ أُصول تركيب الجمل وجنس المولود يقتضيان تقديم الأُنثى.

والجملة المعترضة {والله أعلم بما وضعت} من قول الله. أي لم يكن يلزم أن تقول إنّها ولدت أُنثى، لأنّ الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب مراحل تصوّره في الرحم.

{وإني سمّيتها مريم…}.

يتّضح من هذه الجملة أنّ أُم مريم هي التي سمّتها بهذا الإسم عند ولادتها. و «مريم» بلغتها تعني «العابدة». وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأُمّ الطاهرة لوقف وليدها على خدمة الله. لذلك طلبت من الله ـ بعد أن سمّتها ـ أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه {وإنّي أُعيذها بِكَ وذُرّيتها من الشيطان الرجيم}.

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.

تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أنّ أُمّ مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الأُنثى خادمة في بيت الله، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولوداً ذكراً، إذ لم يسبق أن اختيرت أُنثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إنّ الله قد قبل قيام هذه الأُنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأوّل مرّة.

يقول بعض المفسّرين : إنّ دليل قبولها لهذه الخدمة أنّها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطرّ إلى ترك الخدمة، أو أن حضور طعامها من الجنّة إلى محرابها دليل على قبولها. وقد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أُبلغ للأُمّ عن طريق الإلهام.

وكلمة «أنبتها» إشارة إلى تكامل مريم أخلاقياً وروحياً. كما أنّه يتضمّن نكتة لطيفة هي أنّ عمل الله هو «الإنبات» و الإنماء. أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهّدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كلّ أنواع الإستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيّين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقّق الإنبات بمعناه الحقيقي.

(وكفّلها زكريّا).

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}

«الكفالة» ضمّ شيء إلى آخر. لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم «الكافل» أو «الكفيل»، أي أنّه يضمّ الطفل إليه. إذا استعملت الكلمة ثلاثية مجرّدة كانت فعلاً لازماً، وتتعدّى بنقلها إلى باب الثلاثي المزيد «كفّل» أي إنتخاب الكفيل لشخص آخر.

في هذه الآية يقول القرآن : إختار الله زكريّا كي يتكفّل مريم، إذ أنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها، فجاءت بها أُمّها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت : هذه البنت هديّة لبيت المقدس، فليتعهّدها أحدكم، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كلّ منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر، وفي احتفال خاص ـ سيأتي شرحه في تفسير الآية 44 من هذه السورة ـ اختير زكريّا ليكفلها.

وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن عنها :

{كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً}.

«المحراب» هو الموضع الذي يخصّص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من النخبة. وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة، أوجهها ثلاثة : أحدها : إنّ المحراب من «الحرب» سمّي بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والأهواء. والآخر : إنّ المحراب صدر المجلس، ثمّ أُطلق أيضاً على صدر المعبد. (كان بناء المحراب عند اليهود يختلف عن بنائه عندنا، فأُولئك كانوا يبنون المحراب مرتفعاً عن سطح الأرض بعدّة درجات بين حائطين مرتفعين يحفظانه، بحيث كانت تصعب رؤية من بداخل المحراب من الخارج).

والثالث : انه يطلق على كلّ المعبد، وهو المكان الذي يخصّص للعبادة ومجاهدة النفس والشيطان.

كَبُرت مريم تحت رعاية زكريّا، وكانت غارقة في العبادة والتعبّد. بحيث إنّها ـ كما يقول ابن عبّاس ـ عندما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتّى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها(4). وعندما كان زكريّا يزورها في المحراب يجد عندها طعاماً خاصّاً، فيأخذه العجب من ذلك. سألها يوماً : {يا مريمُ أنّى لك هذا}. فقالت : {هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب}.

الآية لا تذكر شيئاً عن ماهيّة هذا الطعام ومن أين جاء، لكنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير العيّاشي وغيره من كتب الشيعة والسنّة تفيد أنّه كان فاكهة من الجنّة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب. وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف الله عبداً تقيّاً(5).

كما أنّ اعتبار «الرزق» طعاماً من الجنّة يتبيّن من القرائن التي نراها في ثنايا الآية. فأوّلاً كلمة «رزقاً» النكرة دليل على أنّ زكريّا لم يعرف نوع هذا الرزق. وثانياً جواب مريم التي قالت «من عند الله» دليل آخر. وثالثاً انفعال زكريّا وطلبه ولداً من الله ـ كما نقرأ في الآية التالية ـ دليل ثالث على ذلك.

بَيدَ أنّ بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ يرون أنّ «رزقاً» تعني هذا الطعام الدنيويّ المألوف. يقول ابن جرير : إنّ قحطاً أصاب بني إسرائيل يومئذ، ولم يعد زكريّا قادراً على سدّ جوعة مريم. لذلك اقترعوا فكانت من نصيب رجل نجّار، فأخذ هذا يقتطع من كسبه الطيّب الحلال ليهيّيء الطعام لها، فكان هذا هو الطعام الذي يراه زكريّا في محرابها ويعجب من وجوده في تلك الظروف الصعبة. وكان جواب مريم يعني أنّ الله قد سخّر لي مؤمناً فأحبّ القيام بهذه الخدمة الشاقّة.

ولكن ـ كما قلنا ـ هذا التفسير لا يتّسق مع القرائن الموجودة في الآية، ولا مع الأحاديث الواردة في تفسيرها، ومنها ما ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) ما ملخّصه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل يوماً على ابنته فاطمة (عليها السلام) وهو يعلم أنّها لم تكن تملك طعاماً يذكر منذ أيّام، فوجد عندها طعاماً وافراً خاصّاً، فسألها عنه، فقالت : هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لعليّ (عليه السلام) : ألا أُحدّثك بمثلك ومثلها ؟ قال : بلى، قال : مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقاً، قال : يا مريم أنّى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب…(6).

وفيما يتعلّق بعبارة «بغير حساب» فقد شرحنا ذلك في تفسير الآية 202 من سورة البقرة، والآية 27 من هذه السورة.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص257-266.

2 ـ «الذرية» أصلها الصغار من الأولاد. وقد يشمل الأبناء الصغار والكبار أيضاً بلا واسطة أو مع الواسطة، والكلمة من (الذرء)، بمعنى الخلق والإيجاد.

3 ـ تفيد بعض الأحاديث أنّ «عمران» كان نبيّاً ويوحى إليه. وعمران هذا غير عمران والد موسى، إذ بينهما 1800 سنة من الزمان. (مجمع البيان ـ وتفسير المراغي، ذيل الآية مورد البحث).

4 ـ تفسير مجمع البيان : ج 2 ص 436،وبحار الانوار ، ج14 ، ص196.

5- بحار الانوار ، ج14 ، ص204،203،200،196،186،169.

6 ـ تفسير العيّاشي : ج 1 ص 171 ، وتفسير نور الثقلين ، ج1 ،ص 333.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى