مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (86-89)

قال تعالى : {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 86 – 89].

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

لما بين تعالى أن الاسلام هو الدين الذي به النجاة، بين حال من خالفه فقال: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} فيه وجوه أحدها: إن معناه كيف يسلك الله بهم سبيل المهتدين بالإثابة لهم، والثناء عليهم، وقد كفروا بعد إيمانهم. وثانيها: إنه على طريق التبعيد، كما يقال: كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته؟ أي: لا طريق يهديهم به إلى الإيمان، إلا من الوجه الذي هداهم به، وقد تركوه، ولا طريق غيره. وثالثها: إن المراد: كيف يهديهم الله إلى الجنة، ويثيبهم والحال هذه.

وقوله: {وشهدوا أن الرسول حق} عطف على قوله {بعد إيمانهم} دون قوله {كفروا}، وتقديره بعد أن آمنوا وشهدوا أن الرسول حق. {وجاءهم البينات} أي:

البراهين والحجج. وقيل: القرآن. وقيل: جاءهم ما في كتبهم من البشارة لمحمد {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي: لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين، ولا يثيبهم، ولا يهديهم إلى طريق الجنة، لأن المراد الهداية المختصة بالمهتدين، دون الهداية العامة المرادة في قوله {وأما ثمود فهديناهم}. والمراد بالإيمان هاهنا:

إظهار الإيمان دون الإيمان الذي يستحق به الثواب، وليس في الآية ما يدل على أنهم قد كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين الثواب، فزال ذلك بالكفر. فلا متعلق للمخالف به {أولئك جزاؤهم} على أعمالهم {أن عليهم لعنة الله} وهي: إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته {والملائكة والناس أجمعين} وهي: دعاؤهم عليهم باللعنة، وبأن يبعدهم الله من رحمته {خالدين فيها} أي: في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة، وهو العذاب {لا يخفف عنهم العذاب} ولا يسهل عليهم {ولا هم ينظرون} أي ولا يمهلون للتوبة ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، ونما نفى إنظارهم للتوبة والإنابة، لما علم من حالهم، أنهم لا ينيبون ولا يتوبون، كما قال: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} على أن التبقية ليست بواجبة، وإن علم أنه لو أبقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين.

{إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} أي: تابوا من الكفر، ورجعوا إلى الإيمان، وأصلحوا ضمائرهم، وعزموا على أن يثبتوا على الاسلام. وهذا أحسن من قول من قال وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة، وصلوا وصاموا، فإن ذلك ليس بشرط في صحة التوبة. إذ لو مات قبل فعل الصالحات، مات مؤمنا بالإجماع {فإن الله غفور} يغفر ذنوبهم {رحيم} يوجب الجنة لهم. وذكر المغفرة دليل على أن اسقاط العقاب بالتوبة تفضل منه سبحانه، وأن ما لا يجوز تعليقه بالمغفرة، وأن ما يعلق بالمغفرة، ما يكون له المؤاخذة به.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص339-340.

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

كَيْفَ يَهْدِي الله الكافرين :

{ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ } . المراد بالرسول محمد ( صلى الله عليه واله ) ، وبالقوم أحبار اليهود والنصارى ، لأن اللَّه سبحانه وصف هؤلاء القوم بأنهم آمنوا به ، وشهدوا له بالرسالة ، ولكنهم بعد ان بعث ، وجاءهم بالبيّنات والدلائل على نبوته أنكروه ، ورفضوا متابعته ، وهذه الأوصاف تنطبق كل الانطباق على أحبار اليهود والنصارى ، لأنهم وجدوا اسم محمد مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وانهم لذلك آمنوا به قبل مبعثه . .

غير انهم لما بعث ، وجاءهم بالبينات كفروا به بغيا وحسدا ، وحرّفوا كل آية تدل عليه تصريحا أو تلويحا .

وتسأل : ان الظاهر من قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ } ان اللَّه سبحانه لا يريد رجوعهم إلى الإسلام لو حاولوا التوبة والإنابة .

وينبغي على هذا أن لا يستحقوا ذما ولا عقابا ؟ .

الجواب : ان اللَّه سبحانه يقيم للعبد الدلائل على الحق فإن آمن به كان من المهتدين ، وكانت هدايته من اللَّه ، لأنه أقام له الدلائل على الحق ، وأيضا تكون الهداية من العبد ، لأنه اهتدى باختياره ، فإن ارتد بعد الهداية مكابرة وعنادا فإن اللَّه يدعه وشأنه في هذه الحياة ، ولا ينصب له دلائل جديدة ، حيث لا مزيد ، وأيضا لا يجبره على الهداية ، لأنه لا تكليف مع الجبر والقهر.

{ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . أي انهم مستحقون لذلك ، ولعنة اللَّه عبارة عن غضبه وسخطه ، ولعنة الملائكة والناس عبارة عن الدعاء عليهم بأن يعذبهم اللَّه ، ويبعدهم عن رحمته . وجاء في نهج البلاغة ان عليا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يخطب على منبر الكوفة : فاعترضه الأشعث قائلا : يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك . فقال له أمير المؤمنين :

ما يدريك ما عليّ مما لي ، عليك لعنة اللَّه ، ولعنة اللاعنين . قال الشيخ محمد عبده معلقا على ذلك : « كان الأشعث في أصحاب علي كعبد اللَّه بن أبيّ في أصحاب رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) ، كل منهما رأس النفاق في زمنه » .

{ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ ولا هُمْ يُنْظَرُونَ } . ضمير فيها يعود إلى جهنم بقرينة قوله : { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ } . ولا ينظرون معناه لا يمهلون ، بل يعجل لهم ما يستحقون من العذاب . { إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ } . جاء في الحديث : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » . وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ما كان اللَّه ليفتح لعبد باب التوبة ، ويغلق عليه باب المغفرة .

وتسأل : إذا أسلم ، ثم ارتد ، ثم عاد إلى الإسلام ، ولكنه تهاون في الأحكام لا في الأصول ، كما لو ترك الصوم والصلاة عن كسل وتهاون فهل تقبل توبته ؟

الجواب : أجل ، انها مقبولة ، لأن التوبة كانت عن الكفر بالذات ، لا عن الصوم والصلاة ، أما قوله تعالى : ( وأَصْلَحُوا ) فان المراد منه أصلحوا ضمائرهم ، وثبتوا على الإسلام ، ولم يرتدوا عنه ثانية .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص103-105.

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

الآيات ممكنة الارتباط بما تقدمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقل بنفسها وتنفصل عما تقدمها، وهو ظاهر.

قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم}، الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار، والمراد به استحالة الهداية، وقد ختم الآية بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}، وقد مر في نظير هذه الجملة أن الوصف مشعر بالعلية أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.

وأما قوله: {وشهدوا أن الرسول حق}، فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أن آيات النبوة التي عندهم منطبقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يفيده قوله:{ وجاءهم البينات}، وإن كان المراد بهم أهل الردة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقرارا صوريا مبنيا على الجهالة والحمية ونحوهما بل إقرارا مستندا إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله:{ وجاءهم البينات}.

وكيف كان الأمر فانضمام قوله: {وشهدوا }”الخ” إلى أول الكلام يفيد أن المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحق وتمام الحجة فيكون كفرا عن عناد مع الحق ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحق والظلم الذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.

وقد قيل في قوله: وشهدوا “الخ” إنه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل، والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا “الخ” أو أن الواو للحال، والجملة حالية بتقدير “قد”.

قوله تعالى: {أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله} – إلى قوله -: {ولا هم ينظرون}، قد مر الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].

قوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} “الخ” أي دخلوا في الصلاح، والمراد به كون توبتهم نصوحا تغسل عنهم درن الكفر وتطهر باطنهم بالإيمان، وأما الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان مما يتفرع على ذلك ويلزمه غير أنه ليس بمقوم لهذه التوبة ولا ركنا منها، ولا في الآية دلالة عليه.

و في قوله: {فإن الله غفور رحيم} وضع العلة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه فإن الله غفور رحيم.

____________________

1- تفسير الميزان ، ج3 ، ص292-294.

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين  (1)

كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد» تقول الآية :

{كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرسول حقّ وجاءهم البيّنات}.

فالآية تقول : إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الإهتداء، لماذا ؟ لأن هؤلاء قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة : {والله لا يهدي القوم الظالمين}.

المراد من «البينات» في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى. ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سبباً في إضلال الآخرين. ثمّ تضيف الآية :

{أُولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}.

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له، كما هو مبيّن في الآية، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

«اللعن» في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط، من هنا فلعن الله هو إبعاد الشخص عن رحمته، أمّا لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد المعنوي، وقد يكون الطلب من الله تعالى بأبعادهم عن رحمته. هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يصبحون مورد إستنكار كلّ عاقل هادف في العالم، من البشر كان أم من الملائكة.

{خالدين فيها لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون}.

تُضيف الآية هنا أنّهم فضلاً عن كونهم موضع لعن عام، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.

ولاشكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.

وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد، وتدعوهم للتوبة، لأن هدف القرآن هو الإصلاح والتربية، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم، فتقول :

{إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم}.

إنّ هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن، وبعد الإشارة إلى التوبة ـ تشير إلى التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة «وأصلحوا» تبيّن أنّ التوبة لا تعني مجرّد الندم على ما مضى والعزم على تجنّب إرتكاب الذنوب في المستقبل، بل شرط قبولها هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية.

لذلك نجد في كثير من الآيات انّ التوبة يرافقها العمل الصالح، مثل : {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] وإلاَّ فإنّ التوبة لن تكون كاملة. فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا رحمة الله ومغفرته {فإن الله غفور رحيم}.

بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان، وأنه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.

هل تقبل توبة المرتد ؟

يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم ثمّ عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الإرتداد. فثمّة «المرتدّ الفطري» وهو المرتد الذي ولد من أبوين مسلمين، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين، ثمّ قبل الإسلام وعاد عنه بعد ذلك. وهناك «المرتدّ الملّي» وهو الذي لم يولد من أبوين مسلمين.

توبة المرتدّ الملّي تقبل، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنّه ليس مسلماً بالمولد، لكن حكم المرتدّ الفطري أشد. هذا المرتدّ ـ وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه ـ يُحكم بالإعدام إن ثبت إرتداده. وتوزّع أمواله على ورثته المسلمين، وتنفصل عنه زوجته، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقّه.

لكن هذه الشدّة تخصّ ـ كما قلنا ـ المرتدّ الفطري، وبشرط أن يكون رجلاً. قد تعجّب بعضهم لهذا التشدّد، وربّما اعتبر نوعاً من الفظاظة القاسية البعيدة عن الرحمة، الأمر الذي لا يتّسق مع روح الإسلام.

غير أنّ لهذا الحكم فلسفة أساساً، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام ضدّ نفوذ المنافقين والأجانب، وللحيلولة دون تفكّكها واضمحلالها. إنّ الإرتداد ضرب من التمرّد على نظام البلد الإسلامي، وحكمه الإعدام في أنظمة الك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى