مقالات

تفسير سورة العصر

قال تعالى : {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر : 1 – 3] .

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{والعصر} أقسم سبحانه بالدهر لأن فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار على تقدير الأدوار وهو قول ابن عباس والكلبي والجبائي وقيل هو وقت العشي عن الحسن وقتادة فعلى هذا أقسم سبحانه بالطرف الأخير من النهار لما في ذلك من الدلالة على وحدانية الله تعالى بإدبار النهار وإقبال الليل وذهاب سلطان الشمس كما أقسم بالضحى وهو الطرف الأول من النهار لما فيه من حدوث سلطان الشمس وإقبال النهار وأهل الملتين يعظمون هذين الوقتين وقيل أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى عن مقاتل وقيل هو الليل والنهار ويقال لهما العصران عن ابن كيسان .

 {إن الإنسان لفي خسر} هذا جواب القسم والإنسان اسم الجنس والمعنى أنه لفي نقصان لأنه ينقص عمره كل يوم وهو رأس ماله فإذا ذهب رأس ماله ولم يكتسب به الطاعة يكون على نقصان طول دهره وخسران إذ لا خسران أعظم من استحقاق العقاب الدائم وقيل لفي خسر أي في هلكة عن الأخفش {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} استثنى من جملة الناس المؤمنين المصدقين بتوحيد الله العاملين بطاعة الله {وتواصوا بالحق} أي وصى بعضهم بعضا باتباع الحق واجتناب الباطل وقيل الحق القرآن عن الحسن وقتادة وقيل هو الإيمان والتوحيد عن مقاتل وقيل هو أن يقولوا عند الموت لمخلفيهم لا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

 {وتواصوا بالصبر} أي وصى بعضهم بعضا بالصبر على تحمل المشاق في طاعة الله عن الحسن وقتادة وبالصبر عن معاصي الله أي فإن هؤلاء ليسوا في خسر بل هم في أعظم ربح وزيادة يربحون الثواب باكتساب الطاعات وإنفاق العمر فيها فكان رأس مالهم باق كما أن التاجر إذا خرج رأس المال من يده وربح عليه لم يعد ذلك ذهابا وقيل {لفي خسر} معناه لفي عقوبة وغبن من فوت أمهله ومنزله في الجنة وقيل المراد بالإنسان الكافر خاصة وهو أبوجهل والوليد بن المغيرة وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن أ لا ترى أنها مع قلة حروفها تدل على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما وعملا وفي وجوب التواصي بالحق والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى التوحيد والعدل وأداء الواجبات والاجتناب عن المقبحات وقيل أن في قراءة ابن مسعود والعصر إن الإنسان لفي خسر وأنه فيه إلى آخر الدهر وروي ذلك عن علي (عليه السلام) .

__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص435-436 .

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

{والْعَصْرِ} . اختلفوا : ما هو المراد بالعصر ، وفي ذلك أقوال : الأول ان اللَّه سبحانه أقسم بصلاة العصر لا بالعصر نفسه ، فهومن باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، أما الغرض من القسم بصلاة العصر فهو التنبيه على فضلها كما في الآية 238 من سورة البقرة {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى} .

وهذا بعيد عن الفهم العام . . القول الثاني ان المراد بالعصر عهد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) . .

وهذا أبعد من الأول . . القول الثالث ان المراد به الطرف الأخير من النهار ، وانه تعالى أقسم بآخر النهار في هذه الآية كما أقسم بأوله في الآية 1 من سورة الشمس {والشَّمْسِ وضُحاها} . وهذا القول غير بعيد عن دلالة اللفظ ، وأقرب منه القول الرابع وهوان المراد بالعصر الدهر أي الزمن الذي تقع فيه الحوادث والأفعال ، والسياق يومئ إلى ذلك فإن قوله تعالى بلا فصل : {إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} يشعر بأن الخاسر هو الإنسان وليس الزمان لأنه لا يعد شيئا في نفسه يخسر أو يربح ، ويذم أو يمدح ! قال الشيخ محمد عبده : كان من عادة العرب ان يجتمعوا وقت العصر ويتذاكروا في شؤونهم ، وقد يؤدي حديثهم إلى ما يكرهون ، فيتوهم الناس ان هذا الوقت مذموم ، فأقسم اللَّه به لينبه على ان الزمان لا يذم ، وانما هو ظرف للحسنات والسيئات ولشؤون اللَّه الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال ، وانما يذم ما فيه من الأفعال الممقوتة .

{إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} . هذا جواب القسم ، والمراد بالإنسان من كان موضوعا للتكليف ومسؤولا عن أقواله وأفعاله ، وهذا الإنسان خائب خاسر بحكم القرآن وإن كان ثريا يملك الملايين ، وعالما يكشف أسرار الطبيعة ويسخرها لمصلحته ، وقويا يخضع الناس لسيطرته ، وبليغا يحسن صناعة الكلام والوعظ . . انه خائب خاسر إلا إذا آمن باللَّه وحلاله وحرامه وناره وجنته ، وانعكس هذا الايمان على أقواله وأفعاله ، وإلا فإن الايمان بلا عمل مجرد فكرة ونظرية . . ولقد قرأت فيما قرأت ان الطيارين الأمريكان الثلاثة الذين ألقوا القنبلة الذرية على هيروشيما في اليابان ، ومات وتشوّه بسببها مئات الألوف ، كان كل واحد منهم يحمل معه نسخة من (الكتاب المقدس) إلى جانب قنبلة الفناء والدمار ! ! وتسأل : أليس قوله تعالى : {إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} يدل بظاهره ان الإنسان خاسر بطبعه ، وان جميع أفراده في الخسر سواء ، وإذ كان الأمر كذلك فلا يصح تقسيم الإنسان إلى صالح وطالح وخاسر ورابح لأن ما بالذات لا يتغير ؟

وبالتالي فما هو المبرر لقوله تعالى : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} ؟ .

الجواب ان اللَّه سبحانه لم يحكم على طبيعة الإنسان بالخسر من حيث هو وباعتبار جميع أفراده . . كلا ، وانما حكم عليه باعتبار الأعم الأغلب من أفراده ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى : {إِنَّ الإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وقوله : {وكانَ الإِنْسانُ قَتُوراً} . فالإنسان بطبعه لا يعد خاسرا ولا رابحا لأنه من هذه الحيثية يملك الأهلية والاستعداد لهما معا ، فالحكم عليه بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، وانما يحكم عليه بأحد الوصفين بالنظر إلى عقيدته واعماله ، لا بالنظر إلى ذاته وطبعه ، فقد أشرنا فيما سبق أكثر من مرة ان اللَّه سبحانه وهب الإنسان العقل والقدرة على الشر والخير وأمره بهذا ونهاه عن ذلك ، وخلى بينه وبين ما يختار ولم يفرض الدين والعمل عليه فرضا ويخلقهما فيه كما يخلق الكائنات ، ولو فعل لسلخ الإنسانية عن الإنسان إذ لا إنسانية بلا حرية وإرادة ، وعليه فلا يكون الإنسان خاسرا ولا رابحا إلا باعتبار عقيدته وأعماله ، فقوله تعالى : {إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} معناه ان الذين لم يؤمنوا أو آمنوا ولم يعملوا هم الخائبون الخاسرون ، أما الذين آمنوا وعملوا فهم الفائزون الرابحون .

{وتَواصَوْا بِالْحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} . هذا عطف على آمنوا وعملوا ، والمعنى ان الفائزين غدا هم الذين آمنوا باللَّه وشريعته ، وعملوا بما يمليه هذا الايمان ، وأوصى بعضهم بعضا بالحق والصبر ، وعرّف الشيخ محمد عبده الحق بقوله :

{ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة} . وهذا تعريف للحقيقة لا للحق ، والفرق بينهما ان الحقيقة بنت البرهان ، أما الحق فهو قائم بنفسه سواء أدلت عليه البينات أم لم تدل ، فإن كثيرا من الناس يعجزون عن اثبات حقهم بالدليل القاطع والعيان . .

وعلى أية حال فإن كل عمل فيه للَّه رضى وللناس صلاح فهو حق وخير وعدل ، أما الصبر فالمراد به ان نثبت على الحق ، ونقول للمبطل : لا ، مهما كانت النتائج .

والخلاصة ان أعظم ما في الإنسان ، وأهم ما أنعم اللَّه به على الإنسان هوانه تعالى أعطاه القدرة الكافية الوافية على أن يكون ملاكا أو شيطانا ، رابحا أو خاسرا ، وانه ، جلت حكمته ، جعل الحرية له وحده في أن يختار لنفسه ما يشاء من الشقاء والخسران ، والربح والسعادة ، وان اللَّه يعامله بما يختاره لنفسه ربحا أو خسرانا بعد أن هداه النجدين . . وأي فضل أعظم من هذا الفضل ، وعدل أعظم من هذا العدل ؟ .

__________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص605-607 .

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

تخلص السورة جميع المعارف القرآنية وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان ، وهي تحتمل المكية والمدنية لكنها أشبه بالمكية .

قوله تعالى : {والعصر} إقسام بالعصر والأنسب لما تتضمنه الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني إلا لمن اتبع الحق وصبر عليه وهم المؤمنون الصالحون عملا ، أن يكون المراد بالعصر عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عصر طلوع الإسلام على المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل .

وقيل : المراد به وقت العصر وهو الطرف الأخير من النهار لما فيه من الدلالة على التدبير الربوبي بإدبار النهار وإقبال الليل وذهاب سلطان الشمس ، وقيل : المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي هي أفضل الفرائض اليومية ، وقيل الليل والنهار ويطلق عليهما العصران ، وقيل الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالة على القدرة الربوبية وغير ذلك .

وقد ورد في بعض الروايات أنه عصر ظهور المهدي (عليه السلام) لما فيه من تمام ظهور الحق على الباطل .

قوله تعالى : {إن الإنسان لفي خسر} المراد بالإنسان جنسه ، والخسر والخسران والخسار والخسارة نقص رأس المال قال الراغب : وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال : خسر فلان وإلى الفعل فيقال : خسرت تجارته ، انتهى .

والتنكير في {خسر} للتعظيم ويحتمل التنويع أي في نوع من الخسر غير الخسارات المالية والجاهية قال تعالى : {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الزمر : 15] .

قوله تعالى : {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسر ، والمستثنون هم الأفراد المتلبسون بالإيمان والأعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر .

وذلك أن كتاب الله يبين أن للإنسان حياة خالدة مؤبدة لا تنقطع بالموت وإنما الموت انتقال من دار إلى دار كما تقدم في تفسير قوله تعالى : {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الواقعة : 61] ، ويبين أن شطرا من هذه الحياة وهي الحياة الدنيا حياة امتحانية تتعين بها صفة الشطر الأخير الذي هو الحياة الآخرة المؤبدة من سعادة وشقاء قال تعالى : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ } [الرعد : 26] ، وقال : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 35] .

ويبين أن مقدمية هذه الحياة لتلك الحياة إنما هي بمظاهرها من الاعتقاد والعمل فالاعتقاد الحق والعمل الصالح ملاك السعادة الأخروية والكفر والفسوق ملاك الشقاء فيها قال تعالى : {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم : 40 ، 41] ، وقال : {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [الروم : 44] ، وقال {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت : 46] ، وقد سمى الله تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء وأجرا في آيات كثيرة .

ويتبين بذلك كله أن الحياة رأس مال للإنسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتبع الحق في العقد والعمل فقد ربحت تجارته وبورك في مكسبه وأمن الشر في مستقبله ، وإن اتبع الباطل وأعرض عن الإيمان والعمل الصالح فقد خسرت تجارته وحرم الخير في عقباه وهو قوله تعالى : {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} .

والمراد بالإيمان الإيمان بالله ومن الإيمان بالله الإيمان بجميع رسله والإيمان باليوم الآخر فقد نص تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله أو باليوم الآخر إنه غير مؤمن بالله .

وظاهر قوله : {وعملوا الصالحات} التلبس بجميع الأعمال الصالحة فلا يشمل الاستثناء الفساق بترك بعض الصالحات من المؤمنين ولازمه أن يكون الخسر أعم من الخسر في جميع جهات حياته كما في الكافر المعاند للحق المخلد في العذاب ، والخسر في بعض جهات حياته كالمؤمن الفاسق الذي لا يخلد في النار وينقطع عنه العذاب بشفاعة ونحوها .

قوله تعالى : {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} التواصي بالحق هو أن يوصي بعضهم بعضا بالحق أي باتباعه والدوام عليه فليس دين الحق إلا اتباع الحق اعتقادا وعملا والتواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحث على العمل الصالح .

ثم التواصي بالحق من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره كما أن التواصي بالصبر من التواصي بالحق وذكره بعده من ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره ، ويؤكد تكرار ذكر التواصي حيث قال : {وتواصوا بالصبر} ولم يقل : وتواصوا بالحق والصبر .

وعلى الجملة ذكر تواصيهم بالحق وبالصبر بعد ذكر تلبسهم بالإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى حياة قلوبهم وانشراح صدورهم للإسلام لله فلهم اهتمام خاص واعتناء تام بظهور سلطان الحق وانبساطه على الناس حتى يتبع ويدوم اتباعه قال تعالى : {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر : 22] .

وقد أطلق الصبر فالمراد به أعم من الصبر على طاعة الله ، والصبر عن معصيته ، والصبر عند النوائب التي تصيبه بقضاء من الله وقدر .

______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج 20 ، ص328-330 .

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

طريق النجاة الوحيد :

في بداية هذه السّورة نواجه قَسَماً قرآنيا جديداً ، يقول سبحانه : {والعصر} .

كلمة {العصر} في الأصل الضغط ، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة . ثمّ أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية ، أو مقطع زماني معين ، كأن نقول عصر صدر الإسلام . ولذلك ذكر المفسّرون في معنى العصر احتمالات كثيرة :

1 ـ قيل : إنّه وقت العصر من النهار ، بقرينة وجود مواضع اُخرى أقسم اللّه فيها بأوّل النهار كقوله تعالى : {وَالضُّحَى} [الضحى : 1] أو {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ } [المدثر : 34] .

وإنّما أقسم بالعصر لأهميته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر ، الأعمال اليومية تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وقرص الشمس يميل إلى الغروب ، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلماً بالتدريج .

هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة اللّه المطلقة في نظام الكون ، وهو في الواقع أحد علامات التوحيد ، وأية من آيات اللّه تستحق أن يقسم بها .

2 ـ قيل : إنّه كلّ الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة ، والأحداث الجسيمة . وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي .

3 ـ بعضهم قال : إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة ، أو عصر قيام المهدي المنتظر(عليه السلام) ، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر . والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصّة (2) .

4 ـ بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة ، وقال إنّ القَسَم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته ، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده ، وتذكره باللّه سبحانه ، وتربّي فيه روح الإستقامة .

5 ـ قيل : إنّها إشارة إلى «الإنسان الكامل» الذي هو ي الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة .

6 ـ وأخيراً قيل إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر ، لأهميتها الخاصّة بين بقية الصلوات ، لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر اللّه أن يحافظ عليها خاصّة .

مع أنّ التفاسير أعلاه غير متضادة ، ويمكن أن تجتمع كلّها في معنى الآية ، ويكون القَسَم بكل هذه الاُمور الهامّة ، ولكن الأنسب فيها هو القَسَم بالزمان وتاريخ البشرية . لأنّ القَسَم القرآني ـ كما ذكرنا مراراً ـ يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللّه من أجله ومن المؤكّد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم عمرهم ، أو أنّه عصر بعثة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السّورة نزل في هذا العصر .

تتّضح ممّا سبق عظمة آيات القرآن وسعة مفاهيمها . فكلمة واحدة تحمل من المعاني العميقة ما يجعلها صالحة لكل هذه التفاسير المتنوعة .

الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسَم من أجله ، يقول سبحانه :

{إنّ الإنسان لفي خسر} الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى ، . تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة ، تضعف قواه المادية والمعنوية ، تتناقص قدرته باستمرار .

نعم ، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة ، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته ، هذه طبيعة الحياة الدنيوية . . . طبيعة الخسران المستمر!

القلب له قدرة معينة على الضربان ، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض . هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض . وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان ، وثروات قدراته المختلفة .

«خُسر» وخُسران ، كما يقول الراغب ، انتقاص رأس المال ، وينسب ذلك إلى الإنسان ، فيقال خَسِرَ فلان ، وإلى الفعل فيقال : خسرت تجارته . قال تعالى : (تلك إذن كرة خاسرة) . ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر ، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهو الذي جعله اللّه تعالى الخسران المبين ، وقال : «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين» (3) .

الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ينقل عن أحد الصالحين ما ملخصه أنّه تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول : ارحموا من يذوب رأس ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله (4)

على أي حال ، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة . كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام) : «الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون» (5)

الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول : كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلاّ مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية .

نعم ، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري ، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السّورة .

{إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}

بعبارة آُخرى : ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير ، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنّه مقابل فقدان رأس المال ، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن ، يستطيع أن يسدّ مسدّ رأس المال المفقود ، بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات ، بل مئات ، بل آلاف المرات .

كلّ نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت ، أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول : «نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله» (6) .

وهكذا كلّ ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان من الموت من هنا لابدّ من المبادرة إلى ملء الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي .

هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير ، على بيت صغير أو فخم .

هناك من ينفق كل رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام .

وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته .

ليس أي واحد من هذه الاُمور ـ دون شك ـ يمكن أن يكون ثمناً لتلك الثروة العظيمة . . . ثروة العمر . . . ثمنها الوحيد رضا اللّه سبحانه ومقام قربه لا غير . قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) : «إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها» (7) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في دعاء شهر رجب : «خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلاّ لك» .

ومن هنا كان أحد آسماء يوم القيامة «يوم التغابن» كما جاء في قوله سبحانه : {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن : 9] . أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر .

إنّه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربّه . فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة : 111] .

ومن جهة اُخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة : 7] .

ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمناً عظيماً يبلغ أحياناً عشرة أضعاف وأحياناً سبعمائة ضعف ، وأحياناً أكثر : { فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة : 261] .

وكما ورد في الدعاء : «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير» .

ومن جهة رابعة ، فإنّ كلّ رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها اللّه إيّاه . . . واللّه بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان !

_________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص508-511 .

2 ـ عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال في تفسير آية : (والعصر إنّ الإنسان لفي خسر) : العصر عصر خروج القائم (أي خروج الإمام المهدي المنتظر سلام اللّه عليه) . نور الثقلين ، ج5 ، ص666 ، الحديث 5 .

3 ـ مفردات الراغب ، مادة خسر .

4 ـ تفسير الفخر الرازي ، ج32 ، ص85 .

5 ـ تحف العقول ، ص 361 ، كلمات الإمام الهادي(عليه السلام) .

6 ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 74 .

7 ـ المصدر السابق ، الكلمة 456 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى