مقالات

تفنيد نسبة الإعراض والعبوس لمن بُعث لتزكية الأرواح والنفوس

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)
وكيف يُدرِكُ في الدنيا حقيقته ، قومٌ نيامٌ تسلُّوا عَنهُ بالحُلُم .
〰〰〰〰〰
🔹 تفنيد نسبة الإعراض والعبوس
لمن بُعث لتزكية الأرواح والنفوس .
▪عدنان الجنيد

قال تعالى:( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى )[عبس : 1 – 10].
لقد تمسك بعض الفقهاء بصدور الذنب من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – بهذه الآية، وقالوا: لمَّا عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أنَّ ذلك الفعل كان معصية.. إلخ
ثم استدلوا على قولهم بروايات ضعيفة مضطربة مرسلة لم يصح منها شيء، من هذه الروايات: ” ما أخرجه الترمذي والحاكم من طريق يحيى بن سعيد الأموي وابن حبان من طريق عبدالرحيم بن سليمان كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : «نـزلت في ابن أم مكتوم الأعمى» فقال: يا رسول الله أرشدني وعند النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رجل من عظماء المشركين، فجعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – يعرض عنه ويقبل على الآخر فيقول: أترى ما أقول بأساً؟ فيقول: لا، فنـزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى )، قال الترمذي: حسن غريب قد أرسله بعضهم ولم يذكر عائشة ” (1).

  • تفنيد وإبطال هذه الرواية:
    أولاً: الاضطراب الشديد، فالرواية التي ذكرناها آنفاً ذكرت أنه كان عند النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – رجل من عظماء المشركين، بينما جاءت رواية أخرى تقول(2) إنَّ ابن أم مكتوم أتى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم – وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبدالمطلب، وأُبيّ بن خلف وأخاه أمية.
    وذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة أنَّ الذي كان يكلمه أُبيّ بن خلف، وروى سعيد بن منصورمن طريق أبي مالك أنه أُميّة بن خلف، وروى ابن مردويه من حديث عائشة أنه كان يخاطب عتبة وشيبة ابني ربيعة، ومن طريق العوفي عن ابن عباس قال: عتبة وأبو جهل وعياش..(3).
    قلتُ: هكذا تجد الاضطراب في هذه الرواية، وهذا مما يدلك على ضعفها وعدم صحتها. وأما من قال: ” بأنه يمكن الجمع بين هذه الأقوال وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كان في مجلس فيه ناس من وجوه المشركين”، نقول له بأنَّ الجمع متعذر لوجود التناقض والاضطراب الشديد، ولو فرضنا الجمع لكان التعسف فيه شديداً وهذا لا يمكن؛ لأنه غير سديد، إذاً فالاضطراب موجب لضعف الحديث كما هو مقرر في علم الحديث.
    ثانياً: الإرسال فأكثر الروايات مرسلة، فضلاً عن اضطرابها، ومعلوم أن الحديث المرسل حكمه أنه ضعيف لا يُحتج به وهذا قول جماهير المحدثين، لا سيما في هذا الموضوع، فقد أرسله جماعة من الحُفَّاظ عن هشام بن عروة عن أبيه، وقد أورده الإمام مالك في «الموطأ» مرسلاً.
    ثالثاً: الرواية التي اعتمدها الفقهاء على عبوس النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – جاءت من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن هشام بن عروة وكلاهما مجروحان، أمَّا يحيى بن سعيد الأموي فهو ناصبي، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء، وأمَّا هشام بن عروة القرشي فقد قال عنه أبو الحسن بن القطَّان: إنَّه اختلط وتغير(4)..
    قلتُ: فمن روى ماليس من حديثه أو لقن فتلقَّن، أو كان لا يعرف شيئاً مما يُقرأ عليه، يقال فيه اختلط(5).
    أيضاً هو معروف بالتدليس فقد قال عبدالرحمن بن خراش: ” بلغني أنَّ مالكاً نقم على هشام بن عروة حديثه لأهل العراق، وكان لا يرضاه”. ثم قال: ” قدم الكوفة ثلاث مرات، قَدْمةً كان يقول فيها حدثني أبي، فقال: سمعت عائشة، والثانية فكان يقول: أخبرني أبي عن عائشة، وقدم الثالثة فكان يقول: أبي عن عائشة يعني يُرسل عن أبيه “(6).
    وروى الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذاب، قال: فسألت يحيى بن معين قال: عسى أراد في الكلام فأمَّا في الحديث فهو ثقة(7).
    قلتُ: هذا الكلام من ابن معين يضحك الثَّكلى؛ إذ كيف كذاباً في كلامه ويكون ثقة فهذا لعمري من غرائب الرأي؟!
  • رأي بعض كبار العلماء في هذه الرواية :
    1ـ الإمام فخر الدين الرازي يقول في كتابه «عصمة الأنبياء»(8) ما نصه: ” الشبهة الثامنة: تمسكوا بقوله تعالى: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى…)، فعاتبه على إعراضه عن ابن أم مكتوم، جوابه: لا نسلم أن هذا الخطاب متوجه إلى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يقال: إنَّ أهل التفسير قالوا: الخطاب مع الرسول؛ لأنّا نقول: هذه رواية آحاد فلا تقبل في هذه المسألة، ثم إنها معارضة بأمور:
    الأول: أنه وصفه بالعبوس، وليس هذا من صفات النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في قرآن ولا خبر مع الأعداء والمعاندين، فضلاً عن المؤمنين والمسترشدين…
    2ـ الإمام أبو بكر بن العربي: أبطل هذه الرواية من أساسها، حيث قال في كتابه «أحكام القرآن »(9) ما نصه: ” وأمَّا قول علمائنا: أنَّه الوليد بن المغيرة، وقال آخرون إنه أمية بن خلف، فهذا كله باطلٌ وجَهْلٌ من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين؟ وذلك أن أمية والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة(10)، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد أمية المدينة قط، ولا حضر عنده مفرداً ولا مع أحد”.
    3ـ الإمام الداودي قال: بأن الذي عبس هو الكافر(11) وذهب إلى هذا القول أبو تمام(12).
    قلتُ: وهذا يدل على نفيهما لتلك الرواية التي مضمونها أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عبس في وجه ابن أم مكتوم، وهناك أقوال كثيرة لغير هؤلاء العلماء في نفي هذه الرواية وتنـزيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عن صفة العبوس، فضلاً عن كتب آل البيت – عليهم السلام – وشيعتهم فإنَّ تفاسيرهم مجمعة على تنـزيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عن صفة العبوس، انظر تفسير البيان للإمام الطوسي، وتفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية، وغيرهما من تفاسير الشيعة.
    واكتفينا بإيراد بعض أقوال فطاحل علماء السنة والجماعة الذين ذكرناهم آنفاً ـ لإقامة الحجة على الفقهاء بعلمائهم ومشائخهم ـ كالإمام أبي بكر بن العربي، والإمام القرطبي(13) والإمام الرازي، والإمام الداودي، والأديب الكبير أبي تمام، وغيرهم من العلماء، فماذا سيقول الفقهاء في هؤلاء ؟!!
  • الملك القدوس ينزه نبيَّه عن العُبُوس :
    (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[ القلم : 4].
    لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه بأنَّ نبيه وحبيبه – صلى الله عليه وآله وسلم – على أحسن وأكمل الأخلاق فقال تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وهذا إعلامٌ منه سبحانه وتعالى لنا لنفهم بأنَّ نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – منـزه عن الأخلاق الرذيلة والصفات الذميمة خصوصاً صفة العبوس التي هي من أسوأ الأخلاق الذميمة، والعبوس( 14 )  في اللغة: تقطيب الوجه وتكليحه، وهذه الصفة لا تنطبق إلاَّ على أصحاب القلوب القاسية والطباع الغليظة التي لا تعرف الرحمة، بل إنَّ صفة العبوس من صفات الكافرين قال الله تعالى في الوليد بن المغيرة ( ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ )[المدثر : 22] ولايمكن أن يصف الله حبيبه – صلى الله عليه وآله وسلم – بما وصف به عدوه !
    إذاً فالقائلون بأنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عبس وتولّى يخشى عليهم أن يكونوا قد كذَّبوا الله فيما وصفه به بقوله:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ولا سيما أنَّ سورة القلم نـزلت قبل سورة عبس.
    فالله سبحانه وتعالى يصف حبيبه – صلى الله عليه وآله وسلم – بالأخلاق العظيمة وهم يصفونه بالصفات الذميمة كالعبوس وغيرها، (فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)[النساء : 78]، والله لو تحققوا بقوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )، لما وصفوه بذلك الوصف الذميم، فهو – صلى الله عليه وآله وسلم – عظيم في كل ناحية من نواحي الأخلاق الكاملة، عظيم في حلمه وسماحته، وفي كرمه وشجاعته، عظيم في تواضعه وكريم عشرته، عظيم في رحمته ورأفته، عظيم في سائر أخلاقه – صلى الله عليه وآله وسلم -، وكيف لا يكون على خلق عظيم !!، وقد كان خلقه القرآن الكريم، روى ابن أبي شيبة(15) عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت عن خُلقه – صلى الله عليه وآله وسلم – فقالت: ” كان أحسن الناس خلقاً، كان خُلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: اقرأ: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ … )[المؤمنون : 1] إلى العشر الآيات، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه صلى الله عليه وآله وسلم”.
    روى البيهقي في دلائله (16) عن أنس قال: «لقد خدمت رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- عشر سنين، فوالله ما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا » رواه مسلم في الصحيح (17) عن سعيد بن منصور وأبي الربيع عن حماد.
    قلتُ: من هذا نعلم أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –  منـزه عن صفة العبوس؛ لأنها تتنافى مع أخلاقه العظيمة وصفاته الكريمة.
    ولم يُؤثَر عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنَّه عبس في وجوه الكافرين، فضلاً عن وجوه فقراء المؤمنين، ومن عنده أدنى إلمام بسيرة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يدرك ذلك، أما قول بعض العلماء: إنَّ عبوس النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في وجه ابن أم مكتوم لا يُعَد ذنباً ولا معصية؛ لأنَّ ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر لقطعه لكلام النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -، والأولى له كان الإنتظار حتى ينتهي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من دعوته إياهم، وهو إن كان أعمى إلاَّ أنَّه يسمع خطاب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – للمشركين، ولا سيما أن الله يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ )[الحجرات : 4]، فنهاهم عن مجرد النداء إلاَّ في الوقت، فهاهنا هذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – أعظم مهماته، أولى أن يكون ذنباً ومعصية، فثبت أنَّ الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية، وأنَّ الذي فعله الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – كان هو الواجب.
    نقول لهم: إذا كنتم تقولون إن ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر؛ لأنَّ فعله ذلك كان ذنباً ومعصية، وعبوس النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في وجهه هو الواجب، فلماذا عاتب الله نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – على ذلك الفعل ؟! مع أنكم تقولون بصحة تلك الرواية. ولا شك عندي أنهم لن يجدوا جواباً لبطلان قولهم ذلك.
    قلتُ: من هذا نعلم أنَّ الذي عبس وتولَّى هو ذلك الكافر الذي كان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – يدعوه إلى الإسلام، فلقد قطب وجهه وأعرض بسبب مجيء الأعمى ـ ابن أم مكتوم ـ إلى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فكأن هذا الكافر قال: لن أستمع إلى قول محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- ما دام هؤلاء الضعفاء يجيئون إليه ويجالسونه معنا، فلن نتساوى معهم، فلما رأى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – إعراض هذا المشرك وتكبره وعبوسه حاول أن يدعوه إلى الإسلام ثانية؛ لأنه – صلى الله عليه وآله وسلم – حريص على هداية الأمة، ناصحاً أميناً، يسرُّه أن يسلموا ويستجيبوا لدعوته، ويحب منهم أن يهتدوا بهديه، فلمَّا رأى الله سبحانه وتعالى رحمة المصطفى وحرصه على هداية أمته قال له مُلاطفاً: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى )الضمير في “لعله”عائد إلى الأعمى ابن أم مكتوم. أي وما يعلمك يا ممجد لعل هذا الأعمى يتطهر من ذنوبه أو تذكره بموعظة يعرف بها عيوبه وذلك بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة خيرٌ من ذلك المشرك المتكبر العابس.
    (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّ)، أمَّا استئناف بعد تفصيل بيان. أي من استغنى عن الله وعن الإيمان بك، ( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي فأنت واقف له، وذلك رحمة منه – صلى الله عليه وآله وسلم – في هدايتهم إلى الإسلام
    وهنا نقول : إذا لم يكن الكافر هو العابس ولم يتولى فلمن تصدى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -؟!
    ( وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى )، المعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام، فإنه ليس عليك إلاَّ البلاغ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات للاشتغال بدعوتهم ( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) ، أي وأمَّا من جاءك يسرع في طلب الخير وهو يخاف الله تعالى فأنت عنه تلهى، بمعنى تتشاغل بدعوة الكافرين إلى الإسلام، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب لأمته الخير، ويحب هدايتهم إلى الطريق المستقيم، فنجد هنا أنَّ الله سبحانه وتعالى أثبت له التلهي فقط، وليس العبوس كما يقوله ضعفاء النفوس، فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبس وتولى كما يقولون، فكيف أثبت له هنا التلهي؟ وهذه حجة قوية على الخصم. أيعقل أن يُقال بأن زيداً قطب وجهه وأعرض عن عمرو، ثم يقال بعد ذلك زيداً قد تشاغل عن عمرو؟ أيقال للشخص أنت كالشمس بل كالقمر، فافهم هذه العبارات فإن تحتها إشارات.
    ثم تأمل معي هذه الآيات فإنها تؤكد ما ذكرناه: (قُتل الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ )[عبس : 17] أي لُعِنَ ذلك الكافر وطرد من رحمة الله بعبوسه وإعراضه وتكبره على ذلك المسكين الأعمى ابن أم مكتوم عندما جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- ، مع أن ذلك الكافر المتكبر العبوس أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وما بين ذلك يحمل العذرة، ( فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ )[عبس : 24] أي فلينظر هذا الإنسان العابس الجاهل نظرة تفكر واعتبار إلى أمر حياته كيف خلقه الله بقدرته ويسره برحمته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته، ثم فصَّل الله تعالى بذكر الآيات…
    (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ)[عبس : 38-39]، أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة وهي وجوه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وأصحابه المخلصين ومن سار على نهج النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- إلى يوم الدين(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)[عبس : 40 – 42]أي وجوهٌ في ذلك اليوم عليها غبرة وغبار ودخان تغشاها ظلمة، طالما أنها كانت في الدنيا عابسة جاحدة كالحة في وجوه الفقراء والمساكين.
    ولاحظ كيف أن سورة عبس أنتهت بما بدأت به
    فقد ابتدأت بقوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وانتهت بمصير العابس ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)
    واعلم أن الأدلة كثيرة ولكن اقتصرنا على هذه النبذة اليسيرة خوف الإطالة.
    والفطن العاقل من خلال اطلاعه على هذه النبذة اليسيرة سيستخرج من الآيات أدلة وفيرة تعضد كلامنا، ثم انظر أيها المؤمن الصادق هل حرمنا حلالاً أو أحللنا محرماً أو فعلنا مكروهاً أو خالفنا مندوباً، أو رددنا حكماً ثابتاً، أو نصاً قاطعاً، كل ما في الأمر نزهنا جناب المصطفى-صلى الله عليه وآله وسلم- والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
    ……………………………….
    الهوامش:
    (1) ذكر هذه الرواية ابن حجر في فتح الباري [ ج8/ص692]. قلتُ : هذه الرواية اعتمدها الفقهاء على عبوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    (2)  انظر: «تفسير البغوي»، و”أسباب النـزول” للواحدي ص297ـ ط/ 1398هـ.
    (3) فتح الباري [ ج8/ص692]، وكذلك ذكر هذا الاضطراب المتدافع الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن [ج19/ص212].
    (4) ميزان الاعتدال للذهبي [ ج3/ص255]، ترجمة هشام بن عروة، قال الذهبي بعد توثيقه ما نصه : ( لا عبرة بما قاله أبو الحسن القطَّان من أنه اختلط وتغيّر ). قلتُ: وهذا تحامل من الذهبي على أبي الحسن القطان، ولا غرو في ذلك، فهو مشهور بتعصبه وتحامله على أهل السنة فقد قال في حقه تلميذه الإمام السبكي في كتابه “طبقات الشافعية ” [ ج1/ص19]، في ترجمة ” أحمد بن صالح المصري” ما نصه : ( هذا شيخنا الذهبي له علمٌ وديانة، وعنده على أهل السنة تحامل مفرط، فلا يجوز أن يعتمد عليه، وهو شيخنا ومعلِّمنا، غير أن الحق أحقُّ بالاتباع، وقد وصل من التعصب المفرط إلى حدِّ يستحي منه، وأنا أخشى عليه من غالب علماء عصره المسلمين وأئمتهم الذين حملوا الشريعة، فإن غالبهم أشاعرة، وهو إذا وقع بأشعري لا يُبقي ولا يذر، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة ).
    (5)  قال الحافظ السخاوي في ” فتح المغيث” ص485 : ( حقيقته ـ أي الاختلاط ـ فساد العقل وعدم انتظام الأقوال والأفعال إمَّا بخرف أو ضرر … ).
    (6) “سير أعلام النبلاء ” للذهبي [6 /34-35].
    (7) « تاريخ بغداد » للخطيب البغدادي: (1/223).
    (8)   عصمة الأنبياء ص126ـ ط. الأولى /1408هـ ـ 1988م.
    (9) أحكام القرآن [ ج4/ص1905ـ1906] ط ـ دار المعرفة.
    (10)قلت: كلامه فيه نظر، فإن سورة عبس مكية بالإجماع، وابن أم مكتوم أسلم قديماً بمكة قبل الهجرة، روى أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: أول ما أتانا مهاجراً مصعب بن عمير، ثم قدم ابن أم مكتوم. انظر: « أسد الغابة » لابن الأثير: (4/103) و « الإصابة » لابن حجر: (4/601). ط/دار النهضة، مصر.
    (11) فتح الباري لابن حجر [ ج8/ص692]. قلتُ : ( الإمام الداودي : هو أحمد بن نصر شارح البخاري، وهو أبو جعفر الأسدي السّكري التلمساني، توفي بتلمسان سنة أربعين وأربعمائة ) على هامش الشفاء للقاضي عياض / بتحقيق جماعة من العلماء.
    (12) ـ ( قال أبو تمام بأنَّ الذي عبس وتولَّى هو ذلك الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ذكر قول أبي تمام كلٌ من القاضي عياض في شفائه [ ج2/ص161]، والإمام الصالحي الشامي في كتابه “سُبُل الهدى والرشاد ” [ج11/ص474] ـ ط ـ الأولى 1414هـ.قلتُ : أبو تـمَّام بتشديد الميم الأولى : هو علي بن محمد بن أحمد المصري من أصحاب الأبهري، وكان حسن الكلام،له كتاب الحماسة ومجموع سماه فحول الشعراء، نشأ بمصر، وتوفي بالموصل سنة إحدى وثلاثين ومائتين. انظر: ” شرح الشفاء ” لعلي القاري على هامش ” نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض ” [ ج4/ص187].
    (13)  أورد القرطبي قول الإمام أبي بكر بن العربي في إنكاره رواية عبوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجه ابن أم مكتوم، ولم يرد عليه، بل سكت موافقاً له. انظر: ” الجامع لأحكام القرآن ” [ ج19/ص212].
    (14) ( عبس ) الرجل، كَلَحَ، وبابه جَلَس، وعبَّس وجهه شُدِّد للمبالغة، ويوم عبوس أي شديد “مختار الصحاح ” ص409.  وفي ” المصباح المنير ” ص390 : عبس من باب ضرب ( عُبُوساً ) قطب وجهه فهو ( عابس ) وبه سُمي، و( عبَّاس ) أيضاً للمبالغة وبه سُمي، و ( عَبَسَ ) اليوم اشتَّد فهو ( عبوس ) …
    (15) « مصنف ابن أبي شيبة »: (5/21) رقم (5330) الطبعة الأولى. تحقيق كمال يوسف الحوت.
    (16) [1/283] برقم (250).
    (17) [4/1804] برقم (2309).
    🔅من ارشيف 2000م

المركزالاعلامي لملتقى التصوف.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى