مقالات

حوادث السنة الثالثة من الهجرة: الدفاع عن الحرّية

غزوة اُحد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل اُحُد
 لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.

فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة “بدر” فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة “اُحد” وهما من أعظم معارك الاسلام وغزواته.على أن غزوة “اُحد” لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة، بل وقعت أيضاً غزوات اُخرى1 الى جنب طائفة من السرايا، التي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط 1.سرية محمّد بن مسلمة:لقد وَصلَ نبأ انتصار المسلمين في معركة “بدر” عن طريق رجلين من المسلمين.

ولم يكن الجيش الاسلاميّ الظافر قد وصل الى المدينة بعد، عندما انزعج “كعب بن الاشرف” الذي كانت اُمه من يهود “بني النضير” وكان شاعراً قوياً، وخطيباً بارعاً من الفتح الذي أصابه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمون في “بدر” فقال:واللّه لئِن كان محمّد أصاب أضراف العرب وملوك الناس ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطنُ الأرض خير من ظهرها!وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.

وقد كان يسيء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قصائده حتى قبل معركة “بدر” ويحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة وجعل يحرّض قريشاً على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وقد أنشد في هذا المجال أشعاراً يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية 2.

ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب 3 بنساء المسلمين حتى آذاهم!

ولا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله التخلص منه، وكفاية المسلمين شره، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة الى “محمد بن مسلمة”.

وقد خطّط “ابن مسلمة” للتخلص من “كعب” خطةً رائعةً، وألّف لتنفيذها فريقاً كان من بينهم “أبو نائلة” الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان، ويتبادلان الشعر.

ثم إن أبا نائلة قال لكعب بعد ان طلب منه أن يُخرج كل من كان هناك من ذويه وأهله :إني قد جئتك في حاجة إليك اُريد ذكرها لك فاكتم عني، وإني كرهت ان يسمع القوم كلامنا، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل يعني رسول اللّه علينا من البلاء، وحاربتنا العرب، ورمتنا عن قوسٍ واحدةٍ، وقطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس، وضاع العيال، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل.

فقال كعب:قد واللّه كنتُ اُحدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.
فقال أبو نائلة:إنّ معي رجالاً من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاماً، أو تمراً وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.
فقال كعب:وماذا ترهنونني يا أبا نائلة، أبناءكم ونساءكم ؟
فقال أبو نائلة:لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا، ولكنا نرهنك من الحلقة أي السلاح ما ترضى به.
فرضي كعب بن الاشرف بذلك.
وإنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد، فاتى أصحابه، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عشاءً وأخبروه، فمشى معهم حتى اتى البقيع، ثم وجّههم، ثم قال:”إمضوا على بركة اللّه وعَونه اللّهم أعِنهم”.

فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف، فلمّا انتهوا إلى حصنِه هتف به أبو نائلة، وكان ابنُ الاشرف حديث عهدٍ بُعرس، فوثب من فراشه، فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت: أين تذهب، إنك رجل محارب، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة ؟
فقال ابن الاشرف:ميعاد، إنما هو أخي أبو نائلة.
ثم نزل إليهم فحيّاهم، ثم جلَسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.
ثم قالوا له:يابن الاشرف:هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز وهو موضع قرب المدينة فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.

فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه، وبينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال: ويحك ما أطيب عطرك هذا يابن الاشرف، ثم مشى ساعة، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال:إضربوا عدوّ اللّه، فضربوه بسيوفهم، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه، وصاح صيحة ثم وقع على الارض ولم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولما بلغوا “بقيع الغرقد” كبّروا، وقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تلك الليلة يصلّي، فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تكبيرهم بالبقيع كبّر، وعرف أنهم قد قتلوه.

وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وتناول أعراض المسلمين في أشعاره..4.

إغتيال مفسد آخر
وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء والازعاج للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين.فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عمليةٍ فدائيةٍ جسورةٍ على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه:الكامل في التاريخ بصورة مفصلة5.

وقد كانت هاتان العمليتان واُمور اُخرى من أسباب اندلاع معركة “اُحد”.وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

قريش تتكفل نفقات الحرب
كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بُذِرَت في مكة من زمان وقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.
كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة المدينة الشام، واضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.
ولقد أجج مقتل “كعب بن الاشرف” من أوار هذا الحقد، وأوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح “صفوان بن اُمية” و”عكرمة بن أبي جهل” على أبي سفيان ومن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة، أن يدفع كلُّ واحد منهم مبلغاً من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

ولقد لقي هذا الاقتراح قبولاً من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى فعل أبو سفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشاً لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة والخسران اذ قال تعالى﴿إنَّ الَّذين كفرُوا يُنفِقُون اموالهُم لِيصُدُّوا عن سبيل اللّه فسيُنفِقُونها ثم تكُونُ عليهم حسرةً ثمَّ يُغلبون والَّذين كفرُوا إلى جهنَّم يُحشرُون6.

وحيث أن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين وقد رأوا من كثب استقامتهم وثباتهم في معركة “بدر” لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.

فكلّف “عمرو بن العاص” وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويجمعوا أبطالها وصناديدها، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين، وغزوهم وبأن يخبروهم بأن قريشاً قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

وقد أثمرت نشاطات “عمرو” ورفاقه في هذا السبيل.فقد استطاعوا بعد محاولات واسعةٍ أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالاً وصناديد من بني كنانة وتهامة، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل7.

وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة، ولو أضفنا اليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال، ولكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب، وكان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود، ويمنعن المقاتلين من الفرار، ويذكّرن بقتلى بدر، ويشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر ولأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحمية على العرض سبباً للمقاومة والصمود.

كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعاً في العتق الذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم، وذلك مثل “وحشي” وكان غلاماً حبشياً لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده: اخرج مع الناس فإن نلتَ محمداً أو عليّاً أو حمزة فأنت عتيق .

وعلى أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشاً كبيراً قوياً يتألف من سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف فارس، ومشاة كثيرين، وقد خرجوا بعدة وسلاح كثير.

الاستخبارات ترفع تقريراً الى النبيّ
فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب 9 كتاباً يضم تقريراً مفصلاً عن نوايا واستعدادات قريش، وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام ويوصل تلك الرسالة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وانما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم، فقرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واطلع على ما فيه، ولكنه كتم محتواها عن أصحابه 10.

روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنه قال: كان مما منّ اللّه عزّ وجلّ على رسوله صلّى اللّه عليه وآله أنه كان لا يقرأ ولا يكتب، فلما توجّه أبو سفيان الى “اُحد” كتب العباس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه، وأمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم 11.

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة
تحرَّك جيش قريش باتجاه المدينة، وبعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء، وهي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله السيدة “آمنة بنت وهب” فقال فتية من قريش: تعالوا ننبش قبر اُم محمّد، فانّ النساء عورة، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة اُمّك، فان كان برّاً بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة اُمّة، وان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة اُمّه بمال كثير إن كان بها برّاً.

واستثار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا:لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر وخزاعة وهم أعداء قريش موتانا 12.

وبعث النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال، السنة الثالثة من الهجرة، “أنساً” و”مونساً” ابني “فضالة” للتجسس على قريش خارج المدينة، واخباره صلّى اللّه عليه وآله بتحركاتهم، فأخبرا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وانهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.

كما أخبر “الحُباب بن المنذر” هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل اُحد، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد بعث الحباب سراً وقال له: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى قلة.وبخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

وحيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من العدو، أن يهاجموه ليلاً، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج الانصار ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يحرسونه، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.

منطقة “اُحد”
كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجاربة باليمن يسمى آنذاك ب”وادي القرى”، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة، ولهذا نشأت على طول هذا الخط “قرى” بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سُوّرَت بأسوار من الحجارة،وكانت يثرب مركز هذه القرى واُمها وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول، ومن ثم “المدينة” تخفيفاً واختصاراً.وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث أن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمراً عسيراً وفي غاية الصعوبة.

من هنا عمدت قريش عندما وصل جيشها الى مشارف المدينة تحاشت هذه المنطقة، ودخلت من شمال المدينة، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل “اُحد”، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، ولسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، وخير ميدان للقتال والحرب.

وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرءُ يرى فيها موانع طبيعية.نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل “اُحد”.

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة، وفي يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على عقد شورى عسكرية، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو، والتكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون 13.

المشاورة في كيفية الدفاع
كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قد اُمِرَ من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الاُمور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه التي يتخذها في المجالات المذكورة، ليعطي بذلك درساً كبيراً للمسلمين، ويوجد بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية الصحيحة وتحري الحق، والموضوعية. 

ولكن هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسه يستفيد من هذه المشاورة ؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم، ومقترحاتهم، أم لا؟.لقد أجاب علماء العقيدة ورواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم ودراساتهم، وللقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.

لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو:أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من بعده، ولقد كانت هذه السيرة مؤثرة جداً بحيث استخدم الخلفاء والاُمراء من بعده اُسلوب التشاور والشورى، وكانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام علي عليه السلام ونظرياته السامية في الاُمور العسكرية، والمشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.

المشاورات العسكرية
لما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعاً كبيراً من صناديد أصحابه، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوتٍ عالٍ: “أشيروا عليّ”.وهو يطلب بذلك من اولئك الجنود والقادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، وطريقة الدفاع عن حوزة الاسلام وصرح التوحيد المهددة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك.وأتباع الوثنية.

فقام “عبد اللّه بن ابي بن سلول”وكان من منافقي المدينة، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع.وذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه فترمي النساء العدوَّ بالأحجار من السطوح، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلاً:يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك أي الطرقات.

يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فُضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منّا.فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس، وان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.
وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من المهاجرين والأنصار، إلا أن الفتيان من المسلمين وبخاصة من لم يشهد منهم بدراً وكانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة، ورفضوه بقوة وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو، ورغبوا في الشهادة، وأحبّوا لقاء العدو.

وقالوا:إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوُّنا أنا كرهنا الخروج اليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذه جرأة منهم علينا، وقد كنتَ يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

وقال “حمزة” بطل الاسلام العظيم:لا أطعم اليوم طعاماً حتى اُجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة 14.

الاقتراع من أجل الشهادة
وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة وهو شيخ يقظ البصيرة وقال:ان قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع، وتستجلب العرب في بواديها، ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاؤونا قد قادوا الخيل وامتطوا الابل، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا، وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يُكلموا، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والارصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا،ويجترئ علينا العرب حولنا، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج اليهم، فنذبهم عن جوارنا، وعسى اللّه أن يظفّرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو تكون الاخرى:الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنتُ عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت 15 ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنتُ حريصاً على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، وهو يقول:الحق  بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً.

وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقاً الى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ورقّ عظمي، وأحببتُ لقاء ربّي فادعُ اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة !16.

إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين، ورُزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اُسس الايمان باللّه واليوم الآخر قلما تنتج جندياً فدائياً مخلصاً مثل خيثمة، ومن شاكله.إن روح الفداء والتفاني والايثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق، وإعزاز التوحيد باصرار وشوق لا توجد إلا في مدرسة الأنبياء والمرسلين، ولا تحصل الا في ضوء تربيتهم.

واما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلا الحصول على وضع معيشيّ أفضل، فانّه لا يهم الجنود فيها إلا الحفاظ على أرواحهم وحياتهم فذلك هو أكبر هدف لديهم، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.

وأما في مدرسة الأنبياء فان المعارك والحروب لا يهدف منها إلا ابتغاء رضا اللّه سبحانه، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل، وعرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.

حصيلة الشورى
لقد أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله برأي الاكثرية التي كانت ترجح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، ورجح هو صلّى اللّه عليه وآله البقاء في المدينة وقتال العدو داخلها، إذ لم يكن من الصالح بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة، وسعد بن عباده ونظرائهم، وأصروا عليه أن يأخذ برأي عبد اللّه بن ابيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافاً الى أن حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقتها الضيقة، وإشتراك النسوة في الاُمور الدفاعية، والجلوس في البيت، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز، والوهن، وهو أمر لا يليق بالمسلمين، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة “بدر”، وهزموا به عدوهم الغاشم القويّ.

إن محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها، وسكون جنود الاسلام على ذلك من شأنه أن يقتل الروح القتالية، والفروسية في أبناء الاسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون “عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول” قد أضمر في نفسه نية سيئة ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأنه بهذا الاقتراح أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ، ومواجهته بشجاعة كان يريد – في الحقيقة – أن يوجّه ضربة الى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله !

النبيُّ يلبس لامة الحرب
بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع، دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيته ولبس لامته، وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من اُدم واعتم وتقلّد السيف، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهدُ المسلمين وهزهم بشدة وتصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، وخشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، وقالوا معتذرين:يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك أو: ما كان لنا أن نستكرهك والأمر الى اللّه ثم اليك.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:”ما ينبغي لِنبيّ إذا لبِس لامتهُ أن يضعها حتّى يُقاتِلَ”17.

النبيّ يخرجُ مِن المدينة
ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله صلّى بالناس الجمعة وخرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصداً اُحُد، وذلك بعد أن قال لهم:”اآنظُروا إلى ما أمرتُكُم بهِ فاتبعُوهُ إمضُوا على بركة اللّه فلكُم النصرُ ما صبرتُم”18.

وقد أجاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يومئذ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة ورافع وكان رامياً جيداً، ورد اسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر بن الخطّاب19.
ثم إن جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبد اللّه بن ابي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة ويخرجوا مع المسلمين، ولكن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لم يسمح بذلك لأسباب خاصةٍ.وسار النبيّ وأصحابهُ حتى اذا كانوا بمنطقةٍ بين المدينة واُحُد تسمى “الشوط” انعزل عنه “عبد اللّه بن ابي بن سلول” وعاد بثلث الناس كلهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أخذ برأي الفتية والشباب، ورفض اقتراحه وهو البقاء في المدينة.

ومن هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهودُ ولا حزب النفاق.ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم من هنا اضطروا الى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى “مربع بن قيظي” وكان ضريراً، فامتنع من ذلك، واساء بالقول الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:”لا تقتُلُوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر” 20.

جنديان فدائيان
استعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جيشه في منطقة تدعى بالشيخين 21، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف، وتعكس إصراراً كبيراً على قتال الكفار، ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل اُحد يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتاً كبيراً.ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن وفيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.ولقد كان الدافع الذي يحرك الجميع الى ذلك هو تعشق الكمال الذي ما كان ليتوفر إلا في ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدس، ليس إِلا.

ولإثبات هذه الحقيقة نشير هنا الى قصة شيخ كبير السن، وشاب لم يمض من عرسه إلا ليلة واحدة 
1 – كان “عمرو بن الجموح” رجلاً شيخاً أعرج شديد العرج وقد اُصيب في رجله في حادثة.وكان له بنون أربعة مثل الاُسود، يشهدون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المشاهد، فلما كان يوم “اُحُد” أراد ان يخرج مع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وقد أبت نفسه أن تفوته الشهادة، وأن يجلس في بيته ولا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة، وإن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله وبنوه حبسهُ وقالوا له: إنَّ اللّه عزّ وجل قد عذرَك، ولم يقتنع بمقالتهم، وأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال:إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فواللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له:”أّما أنت فقد عذرك اللّهُ ولا جهاد عليكَ” 22.
ثم قال صلّى اللّه عليه وآله لبنيه وقومه:”لا عليكُم أن لا تمنعُوه، لعلَّ اللّه يرزقهُ الشهادة”.فخلّوا عنه، وخرج وهو يقول: اللهمّ ارزقني الشهادة ولا تردني الى أهلي.
وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة “اُحد” العظيمة، ومن قصصها الرائعة، فقد كان يحمل – وهو على ما هو عليه من العرج – على الاعداء ويقول:”أنا واللّه مشتاق إلى الجنّة” وابنه يعدو في أثره حتّى قُتِلا جميعاً .

2-“حنظلة” وهو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة والعشرين من عمره آنذاك.وهو ابن “أبي عامر” عدوّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والذي كان مصداقاً لقول اللّه تعالى “يخرجُ الحيَّ من الميّت”.

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة “اُحد” إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكان ممن يكيدون للاسلام وممن حرّض قريشاً ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله واستمرّ في معاداة الاسلام حتى النفس الأخير، ولم يألُ جهداً في هذا السبيل.
وقد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد “ضرار” التي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الابوة والبنوة وما يتبعها من احاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه، مادام أبوه على باطل وهو أي حنظلة على الحق، فيوم خرج النبيّ مع أصحابه الى “اُحد” لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته، فقد تزوج بابنة “عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول” وكان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف والعرس في الليلة التي خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى “اُحد” في صبيحتها المنصرمة.

ولكنه عندما سمع مؤذن الجهاد، ودوّى نداؤه في اُذنه تحيّر في ما يجب أن يفعله، فلم يجد مناصاً من أن يستأذن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بان يتوقف في المدينة ليلة واحدة لاجراء مراسيم العرس ويقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الاسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

وقد نزل في هذا الشأن على رواية العلامة المجلسي قوله تعالى:﴿إنّما المُؤمِنُون الذين آمنُوا بِاللهِ ورسُولِهِ واذا كانُوا معهُ على أمرٍ جامِعٍ لم يذهبُوا حتّى يستأذِنُوهُ إنَّ الّذين يستأذِنُونكَ اُولئِك الّذين يُؤمِنُون بِاللّهِ ورسُولهِ فإذا استأذنُوك لِبعض شأنِهم فأذن لِمن شِئت مِنهُم﴾ 23. فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله24.

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة ودخل بها، ولما اصبح خرج من فوره وتوجه إلى “اُحد” وهو جنب.ولكنه حينما اراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار، واشهدت عليه أنه قد واقعها.
فقيل لها:لم فعلتِ ذلك ؟
قالت:رأيت هذه الليلة في نومي كأنَّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة، ثم انضمت فعلمت أنها الشهادة، فكرهت أن لا اُشهد عليه.

ولما حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر، فحمل عليه، فضرب عرقوب فرسه، فاكتسعت الفرس وسقط أبو سفيان إلى الأرض، وصاح: يا معشر قريش أنا أبو سفيان، وهذا حنظلة يريد قتلي، وعدا أبو سفيان، وجرَى حنظلة في طلبه، فعرض له رجل من المشركين فطعنه، فمشى الى ذلك المشرك فطعنه فضربه وقتله، وسقط حنظلة الى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد اللّه بن حزام وجماعة من الأنصار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:”رأيتُ الملائكةَ تغسّل حنظلة بين السماءِ والارض بماءِ المزن في صحائف من ذهب25.
فكان يسمى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.
وكانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول:”ومنا حنظلة غسيل الملائكة”.
وكان أبو سفيان يقول:حنظلة بحنظلة ويقصد بالاوّل حنظلة غسيل الملائكة وبالثاني ابنه حنظلة الذي قتل يوم بدر26
إنه حقاً عجيب أمر هذين العروسين الزوجين فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحق كان والداهما، من اعداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وخصومه الالداء.

فعبد اللّه بن ابيّ بن سلول والد العروس كان رأس المنافقين في المدينة، وكان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب معادياً أشد العداء لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد التحق بالمشركين في مكة، كما حرّض “هرقل” لضرب الحكومة الاسلامية الفتية في المدينة، ثم اشترك في معركة اُحد ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقاتل المسلمين قتالاً شديداً 27.

العسكران يصطفّان
في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الاسلام أمام قوى الشرك المعتدية، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره الى اُحد كمانِع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف.وقد كان في جبل اُحد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف، ويوجّه إليهم ضربة قاضية.

ولهذا عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى وضع جماعةٍ من الرماة عند تلك الثغرة، وأمّر عليهم “عبد اللّه بن جبير”وقال:إنضح الخيلَ عنّا بالنبل، واحموا لنا ظُهورنا، لا يأتونا من خلفِنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم”.

ولقد أثبتت حوادث “اُحد” التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكرياً، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ واخلاء ذلك الموقع الاستراتيجي، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة، ويحمل عليهم، ويوجه اليهم ضربة قوية !

إن أمر النبيّ المؤكد والمشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال وقوانين الحرب، وبما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.يبد أن نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباطية، وعدم التقيد بأوامر القائد.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية، التي قام بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة باُحد، وتعيينه لمكان كل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال:”وإذ غدوت من أهلِكَ تُبوئُ المؤمنين مقاعِد للقتالِ واللّهُ سميع عليم” 28.

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم
لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود، وما يصطلح عليه الآن بالروح المعنوية، أو المعنويات العسكرية.
ففي هذه المرة أيضاً لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدججين بالسلاح، خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين، وذلك بعد ان نظم صفوفهم وسوّاها.

فلقد كتب “الواقدي” المؤرخ الاسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي:جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الرماة خمسين رجلاً على “عَينين” عليهم “عبد اللّه بن جبير”، وجعل “اُحُداً” خلف ظهره، واستقبل المدينة، ثم جعل صلّى اللّه عليه وآله يمشي على رجليه يسوّي تلك الصفوف، ويبوّئ أصحابه للقتال يقول تقدّم يا فلان، وتأخر يا فلان، حتى أنه ليرى منكب الرجل خارجاً فيؤخره، فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القداح.

ثم قام صلّى اللّه عليه وآله فخطب الناس فقال:يا أيّها الناسُ، أوصيكم بما أوصانيَ اللّهُ في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمِه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذُخرٍ. لمن ذكر الذي عليه، ثم وطّن نفسهُ له على الصبر واليقين والجدّ والنشاطِ فانّ جهاد العدوّ شديد، شديد كريه، قليل من يصبر عليه، إلا من عزم اللّهُ رشده، فان اللّه مع من أطاعهُ، وإنَّ الشيطان مع من عصاهُ، فافتحُوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسُوا بذلك ما وعدكُم اللّه، وعليكم بالذي أمركم به، فانّي حريص على رشدِكُم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط مِن أمر العجز والضعف مِمّا لا يحبُّ اللّهُ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر.

وإنّه قد نفث في رُوعي الروحُ الأمينُ إنّه لن تموت نفس حتّى تستوفي أقصى رزقها، ولا ينقص منه شيء وإن ابطأ عنها… المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد والسلام عليكم”29.

العدوّ ينظّم صفوفه
نظم أبو سفيان قائدُ المشركين صفوف جنوده وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام:الرماة، وجعلهم في الوسط، والميمنة واستعمل عليهم خالد بن الوليد، والميسرة، واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل.وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات وكانوا جميعاً من بني عبد الدار:إنا إنما اُتينا يوم بدر من اللواء، وإنّما يؤتى القوم من قِبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، أو خلوا بيننا وبينه فانا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثاراً حديث العهد.فشقَّ هذا الكلام على “طلحة بن أبي طلحة” وكان شجاعاً، وهو أول من حمل راية لقريش، فاندفع من فوره الى ساحة القتال، وطلب المبارزة، متحدياً بذلك أبا سفيان.

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس
قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سيفاً بيده وقال:وهو يثير بذلك همم جنوده -:”من يأخذ هذا السيف بحقّه”؟ فقام اليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة الأنصاري، فقال: وما حقّه يا رسول اللّه ؟
قال:”أن تشرب به العدوّ حتى ينحني”.
قال:أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.
فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً، يختال عند الحرب اذا كانت، وكان اذا أعلم، أعلم بعصابة له حمراء، فاعتصب بها عُلِم أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه، وجعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: “انها لمشية يبغضها اللّه إلا في هذا الموطن” 30.

حقا إن مثل هذه الاثارة النفسية، وهذا التحريك القويّ للهمم أمر ضروري لجيش يقاتل دفاعاً عن الحق والقيم، ولا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة، وحب الكمال.إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده، بل كان صلّى اللّه عليه وآله يهدف بذلك إثارة الآخرين، وإفهامهم بأن عليهم أن يبلغوا في الشجاعة والبطولة، والجرأة والإقدام هذا المبلغ.

يقول “الزبير بن العوّام” وهو كذلك رجل شجاع:وجدت في نفسي حين سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة وقلت:أنا ابن صفيّة عمته، ومن قريش وقد قمت اليه فسألته إياه، فاعطاه إياه وتركني!واللّه لانظرنّ ما يصنع.فاتبعته فأخرج عصابة حمراء، فعصّب بها رأسه، فقالت الانصار:أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له اذا تعصّب بها. فخرج وهو يقول:

أنا الّذي عاهَدَني خليلي                 ونحن بالفسحِ لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيّول 
31           أضرِب بسيف اللّه والرَّسول

فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان من المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً الا ذفّف عليه، فجعل كلُّ واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوتُ اللّه أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة، فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق “هند بنت عتبة” ثم عدل السيف عنها، فقلت: اللّه ورسوله أعلم.

ثم إن أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال:رأيت انساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة، فأكرمت سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن أضرب به امرأة 32.

القتال يبدأ
بدأ القتال بما فعَله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعداً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما أسلفنا، وكان من الأوس، وقد فرّ معه خمسة عشر رجلاً من الأوس بسبب معارضته للاسلام.
وقد تصوّر أبو عامر هذا أن الأوس إذا رأوا يوم اُحُد تركوا نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلما التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.
قالوا:فلا أنعم اللّه بك عيناً يا فاسق.فلما سمع ردّ الأوس تركهم، واعتزل الحرب بعد قليل 33.
ثم إن هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة اُحُد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، وأجدرها بالاجلال تضحيات علي عليه السلام ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم.فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في الارشاد:تلت بدراً غزاةُ اُحد وكانت راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيد أمير المؤمنين عليه السلام فيها ومما يدل على ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال:حدثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال حدثني أبو البختري القرشي، قال: كانت راية قريش ولواؤها جميعاً بيد قصي ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وآله فصارت راية قريش وغيرها الى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، فأقرها في بني هاشم فأعطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في غزاة ودان وهي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبيّ ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر وهي البطشة الكبرى في يوم اُحد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فاعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فدفعه إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء 34.

وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك فقد روى أنه قال:لعلي أربع خصال ليس لأحد من العرب غيره هو أول عربي وعجمي صلّى مع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف…35.

كما عن قتادة:ان علي بن ابي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه يوم بدر وفي كل مشهد 36.ثم إنه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري وكان يدعى كبش الكتيبة فبرز ونادى: يا محمّد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم الى النار، ونجهزكم بأسيافنا الى الجنّة، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه علي عليه السلام وهو يقول:

يا طلح إن كنتم كما تقول                لكم خيول ولنا نصول
فاثبت لننظر أيّنا المقتول                 وأيّنا أولى بما تقول
                       فقد أتاك الأسد المسؤول            
بصارمٍ ليس به الفلول                   ينصره القاهر والرسول


ثم تصاولا بعض الوقت قُتل بعده طلحة بضربة علي عليه السلام القاضية.
فأخذ الراية اخوان آخران لطلحة فخرجا لقتالِ علي عليه السلام على التناوب فقتلا جميعاً على يديه عليه السلام.
هذا ويستفاد من كلام لعلي عليه السلام قاله في أيام الشورى التي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

فقد قال الامام عليه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة:”نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة كلُّهم يأخذ اللواء، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم وهو يقول لا أقتل بسادتي إلا محمداً، قد ازبد شدقاه، واحمّدت عيناه، فاتّقيتموه، وحُدتم عنه، وخرجت إليه، فلما أقبل كأنه قبة مبنيّة فاختلفت أنا وهو ضربتين، فقطعته بنصفين وبقيت عجزه وفخذاه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون ويضحكون منه“.
قالوا:اللهم لا 37.

أجل ان قريشاً كانت قد ادخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني الدار وقد قتلوا جميعاً على يد الامام علي عليه السلام على التوالي فبرز غلامهم وقتل هو أيضاً 38.


المقاتلون بدافع الشهوة 
من الأبيات التي كانت تتغنّى بها “هند بنت عتبة” زوجة أبي سفيان ومن كان معها من النساء في تحريض رجال قريش وحثهم على القتال واراقة الدماء والمقاومة، ويضربن معها الدفوف والطبول يتبين ان تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر والحرية، والخلق الانساني بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية ومن أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني والأبيات التي ترددها تلك النساء اللائي كنَّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي
نحن بناتُ طارق                  نمشي على النمارق
إن تقبلوا نُعانِق                      أو تدبروا نفارق


ولا شك أن الفئة التي تقاتل من أجل الشهوات، ويكون دافعها الى الحرب والقتال هو الجنس واللذة، وبالتالي لا تهدف سوى الوصول إلى المآرب الرخيصة فان حالها تختلف إختلافاً بيِّناً وكبيراً عن حال الفئة التي تقاتل من أجل هدف مقدس كاقرار الحرية، ورفع مستوى الفكر، وتحرير البشرية من براثن الجهل وأسر الخضوع للاوثان.

ولا شك أن لكل واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل وسلوكه.

ولهذا لم يمض زمان طويل إلا ووضعت قريش أسلحتها على الارض وولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن اُصيبت باصابات قوية بفضل صمود وتضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ وحمزة وأبي دجانة والزبير و… مخلّفة وراءها غنائم وأموالاً كثيرة، وأحرز المسلمون بذلك انتصاراً عظيماً على عدوهم القوي في تجهيزاته، الكثير في افراده 39.

الهزيمة بعد الانتصار
قد يتساءل سائل:لماذا انتصر المسلمون اولاً ؟
لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتى لحظة الانتصار إلا الرغبة في مرضاة اللّه، ونشر عقيدة التوحيد، وإزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.
وقد يتساءل:ولماذا انهزموا أخيراً ؟
لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجهت أنظارهم الى الغنائم التي تركتها قريش في أرض المعركة، وفروا منهزمين. لقد خولط اخلاص عدد كبير من المسلمين، ونسوا على أثره أوامر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وتعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

واليك فيما يأتي تفصيل الحادث
لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة اُحد أنه كان في “جبل اُحد” شِعب ثغرة وقد كلّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خمسين رجلاً من الرماة بمراقبة ذلك الشِعب، وحماية ظهر الجيش الاسلامي، وأمّر عليهم “عبد اللّه بن جبير”، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها ولا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون او انهزموا، غلَبوا أو غلِبُوا.

وفعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّي هاربة، حتى إذا ظفر النبيّ وأصحابُه، وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون على شيء، وقد تركوا على أرض المعركة غنائم وأموالاً كثيرة، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممن بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على بذل النفس في سبيل اللّه ومضوا يضعون السلاح فيهم حتى أجهضوهم عن العسكر أما أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ وقد اغمدوا السيوف، ونزلوا عن الخيول ظناً بأن الأمر قد انتهى.

فلما رأى الرماة المسؤولون عن مراقبة الشِّعب ذلك قالوا لأنفسهم:ولِم نقيمُ هنا من غير شيء وقد هزَم اللّه العدوّ فلنذهب ونغنم مع إخواننا.

فقال لهم أميرهم عبد اللّه بن جبير:ألم تعلموا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال لكم:إحموا ظهورَنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنِمنا فلا تشركونا إحموا ظهورنا ؟

ولكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا:لم يرد رسول اللّه هذا، وقد أذلّ المشركين وهزَمهم.

ولهذا نزل أربعون رجلاً من الرماة من الجبل ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الاموال وقد تركوا موضعهم الاستراتيجي في الجبل، ولم يبق مع عبد اللّه بن جبير إلا عشرة رجال !

وهنا استغل “خالد بن الوليد” الذي كان مقاتلاً شجاعاً، قلّة الرماة في ثغرة الجبل، وكان قد حاول مراراً أن يتسلل منها ولكنه كان يقابلُ في كل مرة نبال الرماة، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم، وغافلين عما جرى فوق الجبل، ووقعوا في المسلمين ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبال، ورضخاً بالحجارة، وهم يصيحون تقويةً لجنود المشركين.

فتفرقت جموع المسلمين، وعادت فلولُ قريش تساعد خالداً وجماعته، وأحاطوا جميعاً بالمسلمين من الأمام والخلف، وجعل المسلمون يقاتلون حتى قُتِل منهم سبعون رجلاً.

إن هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله تحت تأثير المطامع المادية وتركهم ذلك المكان الاستراتيجي عسكرياً والذي اهتم به القائد الاعلى صلّى اللّه عليه وآله، وأكد بشدة على المحافظة عليه، ودفع أيّ هجوم من قِبلِ العدوّ عليه.وبذلك فتحوا الطريق من حيث لا يشعرون للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الاسلامي، ووجه الى المسلمين تلك الضربة النكراء !

ولقد ساعد خالداً في هذا “عكرمةُ بن أبي جهل” الذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين، وساد على صفوف المسلمين في هذه الحال الهرج والمرج، وعمت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة، ولم ير المسلمون مناصاً من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين، ولكن عقد القيادة لما قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع، بل تحمّلوا كما أسلفنا خسائر كبرى في الأرواح، وقُتِل عدد من المسلمين على أيدي اخوانهم من المسلمين خطأ ومن دون قصد.

ولقد صعّدت حملات خالد وعكرمة من معنويات المشركين، ونفخت فيهم روحاً جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل، ودخلت ساحة المعركة ثانية، وساعدت جماعة منهم خالداً وعكرمة وحاصروا المسلمين من كل ناحية وقُتِل جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك !!

شائعة مقتل النبيّ
وفي هذا الأثناء حمل “الليثي”40 وكان من صناديد قريش وأبطالها على مصعب  بن عمير حامل لواء الاسلام في تلك المعركة وهو يظن أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتبودلت بينهما طعنات وضربات حتى قتل “مصعب” بضربة قاضية من الليثي، وكان  المسلمون يومئذ ملثَّمين، ثم صاح: قتلت محمّداً، أو قال ألا قد قُتِل محمد، ألا قد قُتِل محمد.

فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم وعلمت قريش بذلك فسروا بذلك سروراً عظيماً، وارتفعت الاصوات في ساحة القتال تنادي: ألا قد قُتِل محمّد، ألا قد قُتِل محمّد.

ولقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحركت جحافله وأفراده نحو المسلمين يسعى كل واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عضواً، وبذلك ينال فخراً في أوساط المشركين !

وبقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر ايجابي في نفوس المشركين، ترك أثراً سيئاً جداً في نفوس المسلمين، وأضعف معنوياتهم بشدة بحيث تخلّى عدد كبير من المسلمين عن القتال، ولجأوا إلى الجبل فراراً بأنفسهم، ولم يثبت الا عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض ؟
لا يمكن أبداً أن ينكر أحد فرار أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلا من يعدّون بالاصابع في تلك المعركة، ولا يمنع كونهم صحابة، أو كونهم أصبحوا في ما بعد ذوي مكانة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

فهذا هو ابن هشام المؤرخ الاسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلاً: إنتهى أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بايديهم 41 فقال:ما يجلسكم ؟ اي ما يقعدكم عن القتال والمقاومة.
قالوا:قُتِل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
قال:فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
ثم عاد الى المشركين فقاتلهم حتى قُتِل.
أو قال:حسب رواية كثير من المؤرخين:ان كان محمد قد قُتِل فان رب محمّد لم يُقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقاتِلوا على ما قاتل عليه رسول اللّه، ومُوتوا على ما مات عليه ثم قال: اللّهم إنّي اعتذر اليك مما يقوله هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه على الكفار فقاتل حتى قُتِل.

ويروي ابن هشام عن أنس بن مالك ابن أخ انس بن النضر لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلا اُختُه عرفته ببنانه 42.
وكتب الواقدي في مغازيه يقول:حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي جهم واسم أبي جهم عبيد قال: كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول: الحمد للّه الذي هداني للاسلام، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم اُحد وما معه أحد وأنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبتُ عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرتُ اليه موجّهاً إلى الشعب 43.

وقد بلغ الانهزام والضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكر في التبري من الاسلام لينجو بنفسه فقال: ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان 44.

القرآن يكشف عن بعض الحقائق
إن الآيات القرآنية تمزق كل حجب الجهل والتعصب التي اُسدلت على هذه المسألة، وتفيد بوضوح أن طائفة من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله اعتقدوا بأن ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من الظفر، والنصر لا أساس له من الصحة، فان اللّه تعالى يقول في هذا الصدد:”وطائِفة قد أهمَّتهُم أنفُسُهُم يظُنُّون بِاللّهِ غير الحقِ ظنَّ الجاهِليَّةِ يقُولُون هل لنا من الأمِرِ من شيء” 45.

وفي امكانك أيها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا المجال بالتمعن في آيات من سورة آل عمران 46.
فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

فان الشيعة تعتقد بأنه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أوفياء لعقيدة التوحيد، متفانين في سبيله، بل كان منهم الضعيف في ايمانه والمنافق، والمتردد، ومع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء والصالحون الأبرار قلة أيضاً.

ومن العجيب والمؤسف أن يسعى بعض الكُتاب من أهل السنة اليوم إلى التغطية على كثيرٍ من المواقف والاعمال المشينة التي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة اُحد، ويحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة، ومكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجة، وهذا التعصب اللامنطقي لا يمكنها أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية التي تصرح قائلة:”إذ تُصعِدُون ولا تلوُون على احدٍ والرَّسُولُ يدعُوكُم في اُخراكُم” 47.
إن هذه الآية تقصدُ اولئِك الّذين رآهم أنس بن النضر، ومن شابههُم من الذين تركوا ساحة المعركة، ولجأوا إلى الجبل، وجلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم !!
والأوضح من الآية السابقة قولُ اللّه تعالى:﴿إنَّ الذين تولَّوا مِنكُم يوم التقى الجمعانِ إنّما استزلَّهُمُ الشَّيطانُ ببعضِ ما كسبُوا ولقد عفا اللّهُ عنهُم إن اللّه غفُور حليم48.

إن اللّه تعالى يعاتب ويوبّخ الّذين تذرّعوا لفرارهم من المعركة بنبأ مقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على يد العدوّ، وراحوا يفكرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبد اللّه بن اُبي اذ يقول:”وما مُحمَّد إلا رسُول قد خلت مِن قبلِهِ الرُّسُلُ أفاِن مات أو قُتِل انقلبتُم على أعقابِكُم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضُرَّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكِرين49.

التجارب المرة
إن في أحداثِ معركة “اُحد” ووقائعها تجارب مرة وأُخرى حلوة فهذه الحوادث والوقائع تثبت بجلاء صمود واستقامة جماعة، وضعف وهزيمة آخرين.

كما أنه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أتقياء عدولاً بحجّة أنهم صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، لأن الذين أخلّوا مراكزهم على الجبل، يوم اُحد وعصوا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في تلك اللحظات الخطيرة، وجرُّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى، كانوا أيضاً ممّن صحبوا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.

يقول المؤرخ الاسلاميّ الكبير الواقدي في هذا الصدد:”بايع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم اُحد ثمانية على الموت: ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير، وخمسة من الأنصار” فثبتوا وهرب الآخرون 50.

وكتب العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي أيضاً:حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه اللّه في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي، فقرأ:حدثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن محمد بن مسلمة قال: سمعت اُذناي، وأبصرت عيناي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول يوم اُحد، وقد انكشف الناس الى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه، سمعته يقول:”إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه“.
فما عرّج عليه واحد منهما، ومضيا !فأشار ابن معد إليّ أي إسمع.
فقلت:وما في هذا ؟ قال:هذه كناية عنهما.أي اللذين تسنّما مسند الخلافة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
فقلت:ويجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما.
قال:ليس في الصحابة من يُحتشَم من ذكره بالفرار، وما شابهه من العيب، فيضطرّ القائلُ إلى الكناية إلا هما.
قلت له:هذا ممنوع.
فقال:دعنا من جدلك ومنعك، ثم حلف أنه ما عنى الواقديُّ غيرهما، وأنه لو كان غيرُهما لذكرهما صريحاً 51.

كما أنّ العلامة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضاً اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم اُحُد 52.وستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن امرأةٍ مجاهدةٍ متفانية في سبيل الرسالة الاسلامية تدعى “نسيبة المازنية” دافعت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم اُحُد.
فقد لمّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في كلامه عنها وعن موقفها العظيم يومذاك، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.
نحن لا نريد هنا الاساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة، وإماطة اللثام عن الواقع، فبقدر ما نستنكر، ونقبّح فرار من فرّ، نكبر صمود وثبات من ثبت ممن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة، وهذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق أو تقتضيه أمانة النقل، وما يسمى بالامانة التاريخية على الأقل.

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ:في تلك اللحظات التي تشتت فيها جيش المسلمين، وانفرط عقده، وفي الوقت الذي تركزت فيه حملات المشركين من كل ناحية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تعاهد خمسة أنفارٍ من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهايةً لحياة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله ويقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن 53.

وهؤلاء هم
1-عبد اللّه بن شهاب الذي جرح جبهة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
2-عتبة بن أبي وقاص الذي رمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأربعة أحجار فكسر رُباعيته صلّى اللّه عليه وآله، وجرح باطنها، من الجهة اليمنى.
3-ابن قميئة الليثي الذي رمى وجنتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وجرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلّى اللّه عليه وآله فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت ثنيتاه العليا والسفلى.
4-عبد اللّه بن حميد الذي قُتِل على يد بطل الإسلام أبي دجانة وهو يحمل على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
5-اُبيّ بن خلف وكان من الذين قُتلوا بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسه.

فهو واجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عندما وصل صلّى اللّه عليه وآله إلى الشِعب، وقد عرفه بعض أصحابه وأحاطوا به، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمّد لا نجوتُ ان نجوتَ، وحمل على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ولما دنا تناولَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الحربة من “الحارث بن الصمّة”، ثم انتفض انتفاضةً شديدة وطعن “ابيّاً” بالحربة في عنقه، وهو على فرسه، فجعل اُبيُّ يخور كما يخور الثور!

ومع أن ما أصاب اُبيّاً من جراحة كان يبدو بسيطاً، إلا أنه تملّكه رعب وخوف شديدان إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه، ولم يذهب عنه الروع بكلامهم، وكان يقول: واللات والعزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز 54 لماتوا أجمعون.

اليس قال:أي النبيّ يومَ كان بمكة أنا أقتلُك إن شاء اللّه، قتلني واللّه محمّد !
وقد فعلت الطعنة، وكذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف وهو موضع على ستة أميال من مكة فيما كانت قريش قافلةً من اُحد الى مكة 55.

حقاً إن هذا ينمُّ عن منتهى الدناءة والخسة في خُلُق قريش وموقفها، فمع أنها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتعترف به، وتنكرُ أن يكون قد صدر منه كِذب في قول، أو خُلف في وعد، كانت تعاديه أشدّ العِداء، وتمدّ نحوه يد العدوان، وتبغي مصرعه، وتسعى إلى اراقة دمه !
كما أنه من جهة اُخرى يدل على شجاعة رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله وبطولته ومقدرته الروحية الكبرى، من ناحية اُخرى، وثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يدافع عن رسالته السماوية، وعن حياض عقيدته التوحيدية العظمى، ويصمد لاعدائه صمودَ الجبال الرواسخ مع أنه ربما دنا من الموت وكان منه قاب قوسين أو أدنى.

ومع أنه كان صلّى اللّه عليه وآله يرى أن كل همّ المشركين وكل حملاتهم موجهة نحوه بشخصه، إلا أنه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجسه واضطرابه، ولقد صرح المؤرخون بهذا الأمر، فقد كتب المقريزي ونادى المشركون بشعارهم ياللعزى، يالهُبل فارجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما نالوا. ولم يزل صلّى اللّه عليه وآله شبراً واحداً بل وقف في وجه العدوّ، وأصحابه تثوب إليه مرة طائفة وتتفرق عنه مرة، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا 56.

نعم غاية ما سمع منه صلّى اللّه عليه وآله هو ما قاله عندما كان يمسح الدم عن وجهه المبارك اذ قال:”كيف يفلحُ قوم خضَّبوا وجه نبيّهم بالدَّم وهو يدعوهم إلى اللّه ؟!57.

إن هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وعاطفته حتى بالنسبة إلى اعدائه الألدّاء.
بينما تكشف كلمة قالها علي عليه السلام عن شجاعته صلّى اللّه عليه وآله الفائقة إذ قال:”كُنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فلم يكن احد أقرب منّا إلى العدوّ منه58.

من هنا فان سلامة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه، وعن نفسه، والى شجاعته في المعارك.
ولقد كانت ثمة علل وأسباب صانت هي الاُخرى حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من أن يلحقها خطر أو ضرر، الا وهو تضحية وتفاني تلك القلة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الاسلام العظيم صلّى اللّه عليه وآله وبذلك أبقوا على هذا المشعل الوقاد، وهذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلّى الله عليه وآله يوم اُحُد قتالاً شديداً، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه، وانقطع وتره 59.
على أن الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد 60، وحتى هذه القلة القليلة المدافعة ثباتهم معه جميعاً غير مقطوع به من منظار علم التاريخ، ومن زاوية التحقيق التاريخي.نعم ما هو متفق عليه بين المؤرخين، وأرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم ومواقفهم بشيء من التفصيل.

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد
لو أننا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافاً، فان المقصود من هذا الانتصار هو أن المسلمين استطاعوا وخلافاً لتوقعات العدو الحاقد أن يصونوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من خطر الموت الذي كاد أن يكون محققاً، وهذا هو انتصار مجدّد أصابه جند الاسلام.

أما اذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الاسلام برمّته فان ذلك انما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين، وإلا فان ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتقِ عدد معدود جداً من رجال الاسلام الذين صانوا حياة الرسول الأكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم، وتعريضها للخطر الجدي.

وفي الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الاسلامية، وبقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلةً إنما هو نتيجة تضحيات تلكم القلة القليلة المتفانية في سبيل اللّه ورسوله.

واليك فيما يلي استعراضاً إجمالياً لتضحيات اولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة والدين
1-إن أول وأبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد والتضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس والعشرين من عمره…، هو الذي رافق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من سني صغره وبدايات حياته وحتى لحظة وفاة الرسول الاكرم صلّى اللّه عليه وآله.

إن بطل الاسلام الاكبر وان ذلك الفدائي الواقعي هو الامام “عليّ بن أبي طالب” عليه السلام الذي تحفظ ذاكرة التاريخ الاسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضحية والفداء في سبيل نشر الاسلام والدفاع عن حوزة التوحيد، وارساء دعائمه.

وفي الاساس ان هذا الانتصار المجدَّد على غرار الانتصار الأول إنما جاء نتيجةً لبسالة وبطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الاسلام ذلك لأن السبب الجوهري في هزيمة قريش وفرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها .
 


1-مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.
2-المغازي:ج 2 ص 121 – 122.
3-راجع السيرة النبويّة:ج 2 ص 52.
4-السيرة النبوية:ج 2 ص 51 – 56، المغازي:ج 1 ص 184 – 190.
5-الكامل في التاريخ:ج 2 ص 101.
6-الانفال:36، وراجع السيرة النبوية:ج 2 ص 60، مجمع البيان:ج 2 ص 541، السيرة الحلبية:ج 2 ص 217.
7-اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن ابراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفار في هذه المعركة، وما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.
8-بحار الأنوار: ج 20 ص 96.
9-وكان العباس كما أسلفنا ممن أسلم وآمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مكة ولكنه ظلّ يكتم =ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحركاتهم واخبار النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بنواياهم.راجع السيرة الحلبية: ج 10 ص 198.
10-المغازي:ج 1 ص 203، ويرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى ابي بن كعب فقرأها عليه، وقد روى الواقدي هذا الوجه أيضاً ج 1 ص 204 ومن أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.
11-بحار الأنوار:ج 20 ص 111.
12-المغازي:ج 1 ص 206.
13-لم تكن هذه هي المرة الاُولى والأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه وقد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية.
14-المغازي ج 1 ص 211 وبحار الانوار ج 125 من المعلوم أن نظرية عبد اللّه بن أبي لم تخلو من الخطر، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين.وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضاً فتكون حينئذٍ الضربة القاضية للاسلام والمسلمين.
15-أي اجريت القرعة بيني وبين ولدي.
16-المغازي:ج 1 ص 212 و213.
17-السيرة النبوية:ج 2 ص 23، المغازي:ج 1 ص 214، الطبقات الكبرى:ج 2 ص 38.
18-المغازي:ج 1 ص 214.
19-السيرة النبوية:ج 2 ص 66.
20-السيرة النبوية:ج 2 ص 65، المغازي:ج 2 ص 218.
21-ولقد كان من عادة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله واسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام، وعدّهم، وتسريح بعض العناصر الضعيفة احياناً.
21-لقول اللّه تعالى:”ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرجِ حرج ولا على المريض حرج”الفتح: 17.
22-السيرة النبوية:ج 2 ص 90 و91، المغازي: ج 1 ص 265.
23-النور:62.
24-بحار الأنوار: ج 20 ص 57.
25-اسد الغابة:ج 2 ص 59 و60، بحار الأنوار:ج 20 ص 57 وغيرهما.
26-اسد الغابة:ج 2 ص 59 و60، بحار الأنوار:ج 20 ص 57 وغيرهما.
27-أسد الغابة:ج 2 ص 59 و60، بحار الأنوار:ج 20 ص 57 وغيرهما.
28- مجمع البيان:ج 4 ص 495، الكشاف:ج 1، ص 346 – 347.
29-المغازي:ج 1 ص 221 – 223.
30-السيرة النبوية:ج 2 ص 66 و67.
31-الكيّول:آخر الصفوف في الحرب.
32-السيرة النبوية:ج 2 ص 68 و69.
33-السيرة النبوية:ج 2 ص 67.
34-الارشاد:ص 43، بحار الأنوار:ج 20 ص 80.
35-ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر:ج 1 ص 142.
36-ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر: ج 9 ص 142.
37-الخصال:ص 560.
38-وقد ذكر المجلسي قصة مصرع هؤلاء في البحار:ج 20 ص 81 – 82.
39-السيرة النبوية:ج 2 ص 68، تاريخ الطبري:ج 2 ص 194.
40-هو عبد اللّه بن قمئة الليثي.
41-أي استسلموا.
42-السيرة النبوية:ج 2 ص 83 راجع تفسير المنار:ج 4 ص 102.
43-المغازي:ج 1 ص 237.
44-بحار الأنوار:ج 20 ص 27.
45-آل عمران:154.
46-الآيات:121 – 180.
47-آل عمران:153.
48-آل عمران:155 و144.
49-آل عمران:155 و144.
50-المغازي:ج 2 ص 240.
51-شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 15 ص 23 و24.
52-المغازي:ج 1 ص 278 و279.
53-المغازي:ج 1 ص 243.
54-كان ذو المجاز سوقاً من أسواق العرب وهو عن يمين الموقف بعرفة قريباً من كبكب معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي: ص 508.
55-السيرة النبوية:ج 2 ص 84، المغازي:ج 1 ص 251.
56-امتاع الاسماع:ج 1 ص 131، المغازي:ج 2 ص 240.
57-بحار الأنوار:ج 20 ص 102
58-نهج البلاغة:فصل في غريب كلامه رقم 9.
59-الكامل في التاريخ:ج 2 ص 107.
60-شرح نهج البلاغة:ج 15 ص 20 و21.

المصدر: شبكة المعارف الإسلامية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى