مقالات

شهادة الأنبياء السابقين‏ على نبوة اللاحقين.

  [من اهم الطرق] الذي يمكن من خلاله تمييز الأنبياء عليهم السلام عن المدّعين كذباً هو إخبار الأنبياء السابقين القطعية الصريحة بالنسبة للأنبياء اللاحقين، باستثناء أوّل نبي إذ لا يمكن التعرّف عليه عن هذا الطريق بل لابدّ من الرجوع إلى‏ أحد الطرق الثلاثة التي تقدّم شرحها وهي (الإعجاز، والتحقيق في مضمون الدعوة، وجمع القرائن).

وهذا الطريق ليس بتلك السهولة التي توهّمها بعض النفعيين بالرغم من كونه أسهل من سابقيه، ولغرض الحصول على نتيجة قطعية غير قابلة للإنكار هنا ينبغي مراعاة الشروط الأربعة التالية :

1- إثبات‏ «نبوّة» النبي السابق الذي يخبر عمّن يأتي بعده ويذكر صفاته، بالدليل القطعي الذي لا يقبل الإنكار، ولا يعتدّ بإخباره وشهادته هذه إلّا بعد إحراز نبوّته بشكل تامّ مسلّم به.

2- صدور هذا الخبر عن النبي السابق يجب أن يكون قطعيّاً، وعلى هذا فلا يعتدّ بالأخبار الضعيفة والمشكوكة من أي مصدر كانت، بل لا يعتدّ حتّى بأخبار الكتب المعتبرة لو لم تبلغ مرتبة القطع واليقين.

3- دلالة هذا الخبر يجب أن تكون صريحة قطعية غير قابلة للاحتمال، إذ من الخطأ التمسّك بأحد شقّي الإحتمال والتكلّف بتطبيقه على نبوّة المدّعي الجديد بتفاسير وتوجيهات، بل وحتّى «تحريفات» في بعض الأحيان، لأنّ هدف النبي السابق من إخباره هذا إنّما هو الكشف عن حقيقة خطيرة تقرّر مصير المستقبل، وتوقف أصحابه على هويّة النبي الجديد، وليس اللعب بالألغاز لإسدال الستار على «السرّ المكتوم»، إذ الصراحة في‏ موقف كهذا حاكمة على الكناية بكلّ تأكيد، وذلك لسدّ الباب أمام المتذرّعين ومثيري الفتن.

وقد تمسّك بعض مبتدعي الدين المحترفين بتأويلات وتخريجات عجيبة بالنسبة للكتب السماوية، وبلغ بهم الحدّ إلى‏ التوسّل بحسابات ال «ابجد»! وحسابات العرّافين وأمثالها.

كيف يفكّرون يا ترى؟ فالنبوّة التي ينبغي أن تكون مشعلًا لهداية البشرية ليست شيئاً محظوراً مبهماً كأسرار الكيميائيين القدماء لتتمّ عن طريق حسابات الأبجد «الصغير» و «الكبير» خوفاً من وقوعها في غير محلّها.

4- يجب أن تنطبق العلامات التي جاءت في أقوال الأنبياء السابقين بالكامل على حالة المدّعي الجديد، لا أن نتصرّف فيها بمل‏ء الفراغات وحذف الإضافات التي نتصوّرها، لأنّ ذلك يعني بالتأكيد خداعنا لأنفسنا، إذ إنّ نبيّاً كهذا إنّما هو مرسل من قبل «أفكارنا الشيطانية» لا من قبل اللَّه تعالى!

لو تمّ جمع هذه الجهات الأربع الواردة في أخبار النبي السابق لأمكن التعرّف من خلالها على مقام نبوّة المدّعي الجديد ولو غاب أحدهما لاعتلَّت النتيجة.

وعلى أيّة حال فقد تمّت الإشارة إلى‏ هذه المسألة في موردين قرآنيين على أقلّ تقدير، وقد اكتفينا في هذا البحث الكلّي (النبوّة العامّة) بشرح مختصر على أمل تفصيل ذلك في «النبوّة الخاصّة» :

1- حول بشارة المسيح عليه السلام بالنسبة لظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله نقرأ في الآية : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}

(الصف/ 6).

لا يخفى وجود هذه البشارة (أو البشارات) حتّى في أناجيل اليوم المحرّفة، وهو ما سنوكل البحث فيه وكذا فيما يتعلّق بكون الإسم «أحمد» من أسمائه الشريفة صلى الله عليه و آله إلى‏ جانب الاسم «محمّد» (مدعوماً بالشواهد والقرائن) إلى‏ المستقبل.

2- بشارة التوراة (أو التوراة والإنجيل) بظهور نبي الإسلام صلى الله عليه و آله والتي تعرّضت لها عدّة آيات قرآنية، هي من الوضوح عند ذكرها لصفاته وكأنّه صلى الله عليه و آله يعيش بين ظهرانيهم يعرفونه كأحد أبنائهم.

بل جاء في التواريخ أنّ هجرة اليهود من الشام وفلسطين إلى‏ المدينة والإستقرار فيها إنّما كان لأجل تلك البشارات التي وجدوها في كتبهم حول ظهور النبي (هذا الموضوع ورد بالتفصيل في التفسير الأمثل ذيل الآية 89 من سورة البقرة) «1»، وعلى الرغم من كون الكثير منهم من المبلّغين لنبي الإسلام صلى الله عليه و آله لكنّهم سرعان ما انقلبوا على أعقابهم وامتنعوا عن الإيمان به بعد ظهوره، نظراً لتعرّض مصالحهم الشخصية للخطر، وقد لامهم القرآن على ذلك.

من الآيات التي تشير إلى‏ هذا المعنى ما جاءت في قوله تعالى : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}!(البقرة/ 146)

وورد نفس هذا المعنى في قوله تعالى‏ : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}! (الأنعام/ 20)

وجاء هذا المعنى بصراحة أجلى حيث قال تعالى‏ : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمي الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ} (الأعراف/ 157).

كما أنّ أحد الاحتمالات الواردة في تفسير الآيات القائلة بتصديق القرآن، والكتب «السابقة» هو أنّ المراد من «التصديق» هو انطباق القرآن وصفات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على تلك العلامات التي جاءت في تلك الكتب‏ «2».

كما وأشارت الروايات الإسلامية إلى‏ بشارة الأنبياء السابقين باللاحقين، إذ نقرأ في أوّل‏ خطبة من خطب نهج البلاغة : «مِن سابقٍ سُمِّىَ له من بعده، أو غابر عَرَّفَهُ مَن قَبْلَهُ».

هذا التعبير الذي كشف النقاب عن طرفي القضيّة يعدّ من أبلغ التعابير حول هذا الموضوع، كما تمّ التصريح بهذا الأمر في حديث مفصّل عن الإمام الباقر عليه السلام إذ يقول : (وبَشَّرَ آدَمُ بِنُوح».

وقال في مكان آخر : «وبَشَّرَ نُوحٌ ساماً بِهُودٍ».

وجاء عنه عليه السلام في موضع آخر : «فَلَمّا نَزَلَتِ التَورَاةُ عَلى‏ مُوسى‏ بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله … فَلَم تَزَلْ الأنبِياءُ تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله حَتّى بَعَثَ اللَّهُ تَبارَك وتَعالى‏ المَسِيحَ عيسَى‏ بنَ مَرْيَمَ فَبَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله» «3».

__________________________

(1) التفسير الأمثل، ذيل الآية مورد البحث.

(2) لمزيد من الإطّلاع راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 49 سورة البقرة.

(3) شرح نهج البلاغة للخوئي، ج 2، ص 138- 141.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى