مقالات

صلح الإمام الحسن وموقعه من ثورة الإمام الحسين


▪عدنان الجنيد
〰〰〰〰
إن قضية صلح الإمام الحسن – عليه السلام – وقضية ثورة الحسين – عليه السلام – استشكلت على الكثير من الباحثين – قاصري الفهم – ناهيك عن العلماء وطلاب العلم ، ظانيين أن هناك اختلافاً وتناقضاً بين صلح الإمام الحسن وبين ثورة الحسين ، بل وصل بالبعض إلى انتقاد الإمام الحسن في صلحه ، وتأييد الإمام الحسين في ثورته .. والبعض الآخر كان على العكس ، حيث أيَّد الإمام الحسن في صلحه لأنه أحقن الدماء ، وانتقد الإمام الحسين في خروجه وثورته لأنه تسبب بقتل نفسه ومن معه ..
وهناك الكثير من الباحثين من يرى أن الحسن رجل السلم يميل إلى السلام، ومزاجه منشد للمصالحة ، بخلاف أخيه الحسين رجل الحرب يميل إلى الجهاد ومزاجه منشد للقتال والاستشهاد …
وهذه الآراء والفهم القاصر هو من نتاج الموروث الحديثي والتأريخي اللذين تبنت هندستهما الدولتان الأموية والعباسية ، ليتوافق مع أهوائهما وينسجم مع تحقيق أهدافهما..
فلقد أتوا بروايات تأريخيه ظاهرها الثناء والمدح للإمام علي ولولديه – عليهم السلام – وباطنها – عند التحقق بها – الإساءة والقدح لهم عليهم السلام ..
بل وبعضها تجعل من معاوية تقياً صالحاً يهمه حقن دماء المسلمين ، بينما تصور الإمام الحسن بأنه إنسان مادي لا يهمه إلا مصلحة نفسه ..
وكذلك روايات أخرى تصوره بأنه عكس ما كان أبوه ، لأن والده ما مات إلا وقد أوصى باستئصال مركز الفساد في الشام، بينما ولده الحسن قبل بالصلح ..
هكذا حسب زعمهم .
لقد صورت هذه الروايات أن فئتي الصراع على حق ،( فئة الحسن وفئة معاوية ) ، وليس فيهما فئة باغية التي تحدث عنها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بقوله : ” ويح عمار تقتله الفئه الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ” رواه البخاري، لكنهم لم يعبؤوا بهذه الرواية الصحيحة ، بل أتوا برواية – ظاهرها مدح للحسن وباطنها عكس ذلك – : ” إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ” (١) .
والبعض أضاف كلمة المؤمنين بدل المسلمين ، عن أبي موسى قال :” سمعت الحسن (البصري) يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها!! ، فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين!! :إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء ، من لي بأمور الناس ، من لي بنسائهم ،من لي بضيعتهم ؟! فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس : عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز فقال : إذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه ، فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه ، فقال لهما الحسن بن علي : إنَّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال!! ،وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك ، قال: فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به ، فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به ،فصالحه!! فقال الحسن (البصري): ولقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ،ويقول : إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ” (٢)
وفي رواية : ” فصالح الحسن معاوية، وسلم الأمر له وبايعه بالخلافة على شروط ووثائق ،وحمل معاوية إلى الحسن مالا عظيما!! يقال خمسمائة ألف ألف درهم ،وذلك في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين ، وإنما كان ولي قبل أن يسلم الأمر لمعاوية سبعة أشهر وأحد عشر يوما ” (٣) ..
فانظر أيها المنصف إلى هاتين الروايتين ، فهاتان الروايتان وغيرها من الروايات التي تسير على هذا النسق فيها من التزوير مافيها ، ناهيك عن الكذب والتناقض الذي لا يجهله ذو لب وإنصاف

  • تقول الرواية : إن الحسن استقبل معاوية بكتائب أمثال الجبال ، وفسرها ابن حجر بقوله: ” أي لا يرى لها طرف لكثرتها كما لا يرى من قابل الجبل طرفه ” (٤) ..
    قلت : وكلامهم هذا باطل ، فلم يكن له كتائب بهذا الوصف ، ولو كان له هذه الكتائب لما توقف عن قتال معاوية ولما اضطر إلى الصلح ، لأنهم خذلوه وتمردوا عنه ولم يبق معه إلا القليل فقط..
  • تصور هذه الرواية رحمة معاوية بالناس وأنه حريص على حقن دماء المسلمين ،مع أن روايات التأريخ حافلة بجرائم معاوية التي لا تكاد تحصر، ناهيك عن قتله للمؤمنين صبراً ، ولا يتسع المقام لسرد فواقره العظام وبوائقه الجسام ..
  • تصور هذه الرواية أن الإمام الحسن ما صالح إلا لأجل المال ، وكأن أمر المسلمين لا يهمه ، وستجد لاحقاً أن الإمام الحسن ما اضطر إلى قبول الصلح إلا للحفاظ على الإسلام وعلى البقية الباقية من المسلمين ولأمور أخرى كما سيأتي ذكرها لاحقاً ، وليس كما تصوره هذه الرواية ..
  • تجد في الرواية : ” فصالح الحسن معاوية، وسلم الأمر له وبايعه….” وهذا كذب وافتراء فالإمام الحسن لم يبايع معاوية ولكنه ترك وسلم الأمر بدليل بنود الصلح – وستأتي لاحقا –
    والترك والتسليم لايعني التنازل بل هو من باب التسليم للأمر الواقع وقد كان مضطرا لذلك ولاحيلة للمغلوب على أمره
  • تجد في الرواية السابقة : ” ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ” فكلمة ” عظيمتين ” زيادة باعتراف ابن حجر شارح كتاب البخاري ،فقد قال : قوله : ” بين فئتين من المسلمين زاد عبدالله بن محمد في روايته عظيميتن …” (٥)
    وأما العجلي فقد زاد الطين بلة حيث وصف الفئتين بالمؤمنين حيث قال : ” ويصلح الله به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين ” (٦)
    أقول : إن هذه الرواية ” إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين ….. سواء كانت الكلمة من المؤمنين أو المسلمين ”
    هذه رواية موضوعة قطعاً :
    أولاً : الرواية مشهورة عن أبي بكرة وهو من المنحرفين عن الإمام علي – عليه السلام – ومن الذين رووا روايات كاذبة تثبط القتال مع الإمام علي – عليه السلام – في جميع حروبه
    ثانياً : كيف تتساوى الفئة الباغية بالفئة المحقة ؟
    أيكون علي بن أبي طالب على حق في قتاله لمعاوية ،وبنفس الوقت يكون معاوية على حق في قتاله لعلي ،أيعقل هذا ؟!
    ألم يقل الله تعالى ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) فالآية تأمر بقتال الفئة الباغية ، وقد ثبت أن من قتل علياً كانوا بغاة ظالمين ودعاة إلى النار وقتالهم فريضة ..
    يقول رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – : ” عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ” (٧)
    فالذين قتلوا عماراً هم فئة معاوية الفئة الباغية
    قال الذهبي : “كان مع علي أربعة آلاف من أهل المدينة ممن شهد بيعة الرضوان ، وقد قتل مع علي بصفين خمسة وعشرون بدريا منهم عمار” (8)
    وقال ابن حجر : “قتل من أصحاب بيعة الرضوان مع علي ثلاثة وستون رجلا منهم عمار”(9)
    فهل يعقل بعد هذا أن تكون فئة معاوية التي هي فئة باغية من دعاة النار ثم تصير في زمن الإمام الحسن فئة عظيمة مؤمنة ؟!
    أيكون المنافق مؤمناً ؟ ألم يقل رسول الله ” يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ” رواه مسلم
    أيكون من قاتل علياً واستحل الحرمات وارتكب الموبقات من المؤمنين ؟!
    ثانياً : كذلك لو كانت رواية ” لعل الله أن يصلح به بين فئتين ….’ لو كانت – هذه الرواية – على سبيل الجدل صحيحه فهل الإمام علي كان مخطئاً في قتال القاسطين الفئة الباغية ؟!
    لأنه لم يصطلح معهم ، وهل الحسن – لو سلمنا جدلاً من أن صلحه لم يكن لضرورة فرضها الواقع – هل كان أفضل رأيا من أبيه في حقنه للدماء ؟
    إن الإمام الحسن كان يريد قتال معاوية بدليل أنه زاد المقاتلة مائة كما نقلت كتب التأريخ وذلك بعد مبايعة الناس له.، اعطى المقاتلة تحفيزا لهم على القتال والمواجهة وكذلك اشترط على الناس عندما بايعوه بالاجماع بقوله :” تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتابوا بذلك وقالوا ماهذا لكم بصاحب ومايريد إلا القتال “(10) وكذلك كتب إلى معاوية بكتاب(11) وهدده بالحرب إن لم يدخل فيما دخل الناس من بيعته لإنه ولي الأمر وطاعته واجبة..
    لقد أعد الإمام الحسن عدته وجهز جيشه ،لكن نتيجة معطيات ظروف الواقع مع مالمسه من تثاقل وتخاذل من جيشه وعدم صدقهم معه ولأمور أخرى رأى أن قبوله بالصلح أوجب وأسلم ولوكان يرى أن المواجهة أوجب وأسلم لما توقف ولما قبل بالصلح
    ثالثاً : لو كانت هذه الرواية صحيحة لما حث الحسن وبذل كل الجهود من أجل قتال معاوية ،ولما صدرت منه تلك العبارات التي قالها لمن لاموه على قبوله بالصلح ..وسيأتي ذكر أنموذج منها ..
    ولما كان – أيضاً – قبوله بالصلح اضطرارياً طالما قد قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بأن الله سيصلح به بين فئتين من المسلمين .. ولن يخفى عليه مثل هذا الحديث الذي تكلم به النبي (صلى الله عليه وآله) وهو على المنبر فكما سمعه ابوبكرة فلابد أن يسمعه الآخرون ويروونه هذا إذا كان صحيحاً كما يزعمون …
    بعد هذه المقدمة السريعة تعلم أن تلك الروايات التي وضعها الأُمويون أو من بعدهم العباسيون ،والتي تسيئ إلى مكانة الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام
    .. تعلم كيف أثرت على الكثير من العقول القاصرة عن معرفة فضل ومكانة آل البيت – عليهم السلام – وما خصهم الله فراحت تارة تؤيد صلح الحسن مع معاوية وتمدح الطرفين وتنتقد ثورة الحسين وكذلك العكس ، و تارة أخرى ترى التعارض والتناقض بين صلح الحسن وثورة الحسين ..
    ولو عرف هؤلاء من هو الإمام الحسن بن علي ومن هو الإمام الحسين بن علي لما نسبوا إلى أحدهما أي نقص ،ولعرفوا أنهما إمامان يعلمان مايفعلان في تأدية وظيفتهما سواء في عقد الصلح أو بالثورة شأنهما شأن جدهما رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – الذي قاتل في بدر وأحد والأحزاب وصالح في الحديبية..
    إن الحسن والحسين تربيا في حجر النبوة والفتوة وجميع حركاتهما وسكناتهما قدوة لمن جاء بعدهما.. قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – : ” من أحبني وأحب هذين – يعني الحسن والحسين – وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة ” (12)
    وقال : ” الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ..” (13)
    والأحاديث في مكانتهما وفضلها مشهورة جدا كحديث الثقلين والسفينة وغيرها، ناهيك عما نزل بحقهما من آيات عديدة عن حوادث حصلت وشهدها المسلمون وهي شهادة لهما تبين فضلهما ومكانتهما من جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) كآية التطهير والمودة والمباهلة وسورة الإنسان وغيرها من الآيات..
    فهذه الأحاديث والآيات التي هي عبارة عن أنموذج فقط تبين وحدة المرتبة والمنزلة لسبطي رسول الله صلوات الله عليه وآله …
    إن الآيات التي نزلت بحقهما والأحاديث التي جاءت بفضلهما توحي بأن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ما قالها إلا لكي تعلم الأمة أن ما سيقومان به من أعمال وأفعال ومواقف هي عين الحكمة والصواب ،
    فموقف الحسن بكل ماقام به لاسيما في قبوله الصلح هو نفس موقف الحسين ،فقد كان الحسين بجانب أخيه في جميع المواقف والقضايا ،ولو كان الحسين مخالفاً لأخيه في قبوله بالصلح لثار على معاوية ،ولأعلن رفضه للقبول بالصلح..
    كذلك لو قدر الله أن عاش الحسن إلى زمن يزيد لكان الحسن أول من وقف بجانب أخيه الحسين وخرج معه بتلك الثورة المباركة ، فلا تناقضاً ولا اختلافاً ولا تنافياً ولا تعارضاً بين صلح الحسن وثورة الحسين ، بل إن صلح الحسن يعد ثورة بحد ذاتها ، ثورة تمهيدية للثورة الحسينية الكبرى، فلولا صلح الحسن لما كانت ثورة الحسين .
    وهنا سوف نوجز عن سبب صلح الحسن وهو – أيضا – جواب عن سؤال (لماذا لم يستمر الحسن بمن معه من المخلصين في المواجهة مع إمام الفئة الباغية معاوية ويقاتله ليسجل ملحمة فدائية خالدة كما فعل الحسين في قتاله مع الطاغية يزيد) ؟!
    وسنبين أن الحق ماقام به في قبوله الصلح ، فضرورة الواقع أجبرته على ذلك كما أجبرت الحسين على الثورة.
    فكلا الموقفين حق وصواب
    وإليك التوضيح والجواب من خلال النقاط التالية :
  • يجب أن تعلم بأن الإمام الحسن لم يقف موقف المتفرج لما يقوم به معاوية من أعمال شنيعة وجرائم مريعة في حق المسلمين ، بل وقف أمام ظلمه ودسائسه ، ورفض منحه أية مشروعية ، وقام بثورة ضده حيث أعلن النفير العام، فأعد عدته وهيأ جيشه كي يخرج بهم إلى لقاء معاوية ، إلا أن البعض خذلوه فتخلفوا عنه ولم يفوا بما وعدوه من الخروج معه ..(14)
    فتوجه – بمن معه – إلى المدائن لمحاربة معاوية ، ولكن الذين معه خذلوه – أيضاً – ناهيك عن خيانة قائد جيشه والمقربين من أتباعه ، أضف إلى ذلك تثاقل جنوده عن القتال معه ..
    فقد خطب بهم – عليه السلام – ليعرف مدى رغبتهم واستعدادهم في القتال معه فقال :« إنّا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم وإنّما كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فسُلبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في منتدبكم إلى صفّين ودينكم أمام دُنياكم ، فأصبحتم اليوم ودُنياكم أمام دينكم ، ألا وأنّا لكم كما كنّا ، ولستم لنا كما كنتم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين ; قتيلٌ بصفّين تبكون عليه ، وقتيلٌ بالنهروان تطلبون بثأره ، فأمّا الباقي فخاذل ، وأمّا الباكي فثائر ، ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ بظباء السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا » . فناداه القوم من كلّ جانب : البقية البقية ، فلمّا أفردوه أمضى الصلح (15) ..
    قلت : ومعنى أفردوه : أي تركوه فريداً وحيداً ..
    تعلم مما سبق أن الإمام الحسن – عليه السلام – كان عازماًعلى قتال طغاة الشام ، ولكن الخذلان الذي رآه الإمام الحسن – عليه السلام – من جيشه والخيانة من خواص أتباعه وقائد جيشه، إضافة إلى محاولتهم اغتياله – عليه السلام – حيث ذكر المؤرخون : ” بينما كان الحسن -عليه السلام – بالمدائن إذ نادى مناديه في عسكره: «ألا إن قيساً بن سعد قد قتل!» ، فشدّ الناس على حجرة الحسن عليه السلام فانتهبوها حتى انتهبت بسطه وجواريه وأخذوا رداءه من ظهره !! وطعنه رجل بخنجر مسموم في إليته، فتحول من مكانه الذي انتهب فيه متاعه وانتقل – كما يقول الطبري- إلى منزل سعد بن مسعود الثقفي- عمّ المختار- وكان عامل أمير المؤمنين عليه السلام بها، فأقرّه الحسن عليه السلام، فقال له المختار وهو غلام شاب: هل لك في الغنى والشرف؟
    قال: وما ذاك؟
    قال: توثق الحسن عليه السلام، وتستأمن به إلى معاوية!
    فقال له سعد: عليك لعنة الله، أثب على ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم – فاوثقه! بئس الرجل أنت(16)
    كل هذه الظروف التي أحاطت بالإمام – عليه السلام – أجبرته على قبول الصلح، فلا خيار له غير القبول بالصلح ، وحقق بالصلح انتصاراً كبيراً ..
    ولو نظرنا إلى الإمام الحسين -عليه السلام – لوجدنا أن في بداية تحركه وثورته وجد أعواناً وأنصاراً ، وحتى بعد نقضهم لبيعته بعد وصوله إلى كربلاء كان لجيشه المحدود عدده الروح القتالية والتوقان للاستبسال والشهادة، ناهيك عن أهدافه المثلى ، ولهذا حقق باستشهاده انتصارات كبرى.
  • إن شخصية معاوية تختلف عن شخصية يزيد ، فمعاوية منذ خلافة الإمام علي – عليه السلام – وحتى خلافة الحسن والتي كانت ستة أشهر إلى بعد الصلح ، نجده خلال تلك السنوات استخدم كل أساليب المكر والخداع والتضليل والتشويه في حق الإمام علي والإمام الحسن وكذلك الإمام الحسين عليه السلام ، فالمكنة الإعلامية الأموية عملت على بث الدعاية والتلميع لشخص معاوية والحط من آل البيت، ناهيك عن استقطاب معاوية لرؤساء القبائل والشخصيات ، وشرائه للذمم، وضخه للمال العام الذي سخّره في خدمته ، وقد استطاع بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى أن يكسب الولاءات ، وأن يضفي لملكه وحكمه شرعية دينية عند السذج من العوام – وما أكثرهم – ومرتزقته وأتباع الدرهم والدينار ، وما تخاذل وانقسم جيش الحسن وخانه خواصه وقادة جيشه إلا بإغراءات معاوية وشرائه لهم ..
    حتى العلماء والرواة فقد سخّر الكثير منهم للرواية والحديث عن فضله وفضل بني أمية ، وعن فضل الصحابة والخلفاء – دون الإمام علي وأهل بيته – فلما أكثروا من الروايات أمرهم بأن يرووا في مثالب الإمام علي وأهل بيته ، ومن أراد التأكد فليرجع إلى تأريخ المدائني المسمى بكتاب “الأحداث” (17).
    وبهذا ظلت حكومة بني أمية تسب الإمام علي بن أبي طالب على منابرها طيلة حكمها ، باسثناء عهد عمر بن عبدالعزيز(18)
    لقد طمسوا كل فضيلة أو منقبة لعلي – عليه السلام – (19) ومن تحدث عن فضل علي قتلوه (20) وإذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه (21)
    ، وبهذا التشويه التي قامت به المكنة الإعلامية التابعة لمعاوية صار الناس – سيما الشاميين – يعتقدون أن آل البيت هم بني أمية ، ولهذا عندما استشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصل الخبر إلى الشام أن علياً قُتل في المسجد ، فقالوا : أوكان علي يصلي ؟!..
    هذا يدلك على أن علياً – عليه السلام – وآل بيته كانوا بنظر الناس ليسوا بمسلمين لاسيما عند الشاميين .
    إن معاوية تمظهر بلباس الدين ، وأظهر بعض الشعائر الدينية ، وحافظ عليها تستراً ، لهذا اضطر الإمام الحسن لقبول الصلح وفرض شروطه ، لكي يفضح معاوية أمام الناس فيما بعد ، لأنه يعلم بأن معاوية ناكث للعهود والمواثيق ..
    وأما يزيد فقد جاهر بفسقه ومجونه وفجوره وقتله للأنفس المحرمة وشربه للخمر ونقضه لكل أسس الدين وشعائره، فلم يراع حرمة الإسلام ولا حتى مظاهره، واشتهر بكفره عند جميع الناس ، لهذا كان وجوباً على الإمام الحسين أن يقوم بثورة ضده ، ولولا ثورته التي قام بها لكان على الإسلام السلام .
  • إن الإمام الحسن – عليه السلام – ما اضطر إلى قبول الصلح إلا حفاظاً على بيضة الإسلام وقيم الدين ، وعلى من تبقى من المخلصين الصادقين ، فقد كان أعداء الإسلام من الرومان وغيرهم ينتظرون الفرصة المناسبة لضرب المسلمين كي يثأروا وينتقموا من المسلمين الذين لقنوهم ضربات قوية في السابق ، لهذا كانوا ينتظرون الفرصة في حال نشبت المعركة بين الإمام الحسن وبين معاوية ،فينقضوا عليهم وهم مشتغلين بالقتال ، فتكون ضربة قاضية تقضي على الإسلام وأهله ..
    والدليل على تحرك الروم وترصدهم لأخبار المسلمين وانتظارهم الفرصة للانقضاض عليهم هو ماذكره المؤرخون لاسيما اليعقوبي (22).. فعليك به ، وسوف ترى صدق ما قلناه هنا..
    وأما الإمام الحسين – فهو أيضاً – كان مضطراً للقيام بثورة ضد يزيد ينبوع الفساد الذي كان أداة من أدوات أعداء الإسلام الخارجي ، إضافة أنه لم يكن العدوان الخارجي من الرومان وغيره يتحين الفرصة في المعركة بين الإمام الحسين ويزيد ، لأنهم يعلمون أن يزيد سيحقق أهدافهم المتمثلة بالقضاء على الإسلام ، لكن خاب ظنهم وانتصر الحسين بشهادته وكتب لثورته الخلود..
  • إذا دققنا النظر إلى عبارات الإمام الحسن التي أطلقها ورد بها على الذين اعترضوا عليه قبوله الصلح ولاموه على ذلك ، فسوف نعرف من خلالها الدوافع التي دفعته واضطرته إلى قبول الصلح، وإليك أنموذجاً من ذلك :
    •قوله – عليه السلام – على أحد المعترضين على الصلح : ” رأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد أبدا إلا غلب ، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى ، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر ” (23)
    • قوله – عليه السلام – لمن اعترض عليه – أيضاً – في قبوله بالصلح : ” إني لو أردت – بما فعلت – الدنيا لم يكن معاوية بأصبر مني عند اللقاء ، ولا أثبت عند الحرب مني ، ولكني أردت صلاحكم ” (24)
    • وقوله – عليه السلام – ” إنما فعلت مافعلت – أي من القبول بالصلح – إبقاء عليكم “(25)
    • وقوله – ايضا – ” والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت “(26)
    وغيرها من عباراته – عليه السلام – التي كلها توحي أنه ما أضطر إلى قبول الصلح إلا من أجل صلاحهم ، والحفاظ على الإسلام وعلى الخلَّص من شيعته..
    وهذا – أيضاً – الذي حمل الإمام الحسين على القيام بثورته ، وهو طلب الإصلاح في أمة جده عليه وعلى آله الصلاة والسلام ..
    بهذا تعلم أن ضرورة قبول الصلح وضرورة القيام بالثورة هما من أجل الإصلاح ، وهذا يدلك أن هدف الإمامين واحد ، فلا تعارض بين موقفيهما ..
  • إن الإمامين – الحسن والحسين عليهما السلام -اصطفاهما الله للإمامة ، وهما من كبار أولياء الله ، وقد حازا على علم وأسرار رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ولديهما العلم اللدني الكامل ، بل لقد خصهما رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بعلوم غيبية وكشفية دون سائر الناس ، ولهذا علما مآلهما ، لهذا كان الإمام الحسن يعلم أنه لو قاتل بالبقية الباقية معاوية واستشهد هو ومن معه، لما كان لاستشهاده أي أثر إيجابي على الناس ، بحيث ينهضوا ويقفوا ضد الباطل ، وذلك لمرض الشك الذي أصابهم ، والتباس الحق بالباطل بسبب التشويش الأموي الذي قام به معاوية، ولهذا قبل الإمام الحسن بالصلح اضطراراً لعلمه بما سيؤول من نتائج إيجابية وخير كبير على الأمة ، وفعلاً انتصر الحسن بالصلح ، وأما معاوية وإن كسب بعض الأهداف الآنية التي كان يسعى لأجلها لكنه خسر المعركة فيما بعد ، وكذلك الإمام الحسين علم بإلهام الله له – أو بما خصه رسول الله بالأخبار الغيبية التي ستحدث له – بأن ثورته واستشهاده من أجل الحفاظ على الإسلام وأهله سيكون لها الانتصار الدائم والقدوة لجميع الثورات التي ستأتي من بعده ..
    ولو كان الإمام الحسين – عليه السلام – قبل بيزيد حاكماً على المسلمين ، لما خرج الناس على أي ظالم إلى قيام الساعة ، بل ستكون للظالمين شرعية الحكم على المسلمين ، بحجة أن الحسين قبل بحكم يزيد ولم يخرج عليه ..
    المهم يجب أن نعلم بأننا لسنا أعلم من هذين الإمامين ، فهما سبطا الرسول ، ويعلمان مايقولان وما يفعلان ، وهما قدوة لمن بعدهما ، ونحن مأمورون باتباعهما لحديث الثقلين وغيره ..
  • لما رأى الإمام الحسن الناس في شك وارتياب في معرفة الحق بسبب ما قام به معاوية من وسائل تشويهية – وقد ذكرناها سابقاً – إضافة إلى إضفاء الشرعية له ولأهل بيته عبر جميع وسائله وحيله التي استخدمها ،
    وكذلك جهل الكثير من الناس بالوعي السياسي وبواقعهم وبالمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام وأهله ، أراد الإمام الحسن أن يفضح ويكشف للناس جميعاً سياسات بني أميه التي تسعى إلى طمس تعاليم الإسلام ، لهذا قبل الإمام الحسن بالصلح وبالبنود التي اشترطها وهي :
    1 – أن يعمل فيهم بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وسيرة الخلفاء الصالحين.
    2 – ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهدَ إلى أحدٍ من بعده عهداً، بل يكون الأمر بعده للحسن ثم لأخيه الحسين.
    3 – الناس آمنون حيث كانوا في شَامِهم، وعِرَاقهم، وحِجَازهم، ويَمَنِهم.
    4 – إن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم، ونسائهم، وأولادهم.
    وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحدٍ من خلقه بالوفاء وبما أعطى الله من نفسه.
    5 – على معاوية أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفُق من الآفاق..

قلت : إذا مانظرت إلى هذه البنود التي ذكرتها مصادر التأريخ سوف تعلم الأسباب التي دعت الحسن إلى الصلح وهو الموقف الصحيح والتصرف الحكيم وفق معطيات الظروف فقد تعاطى مع موقفه بفقه الواقع….
إلا أن معاوية سرعان ما نقض ونكث بكل بنود الصلح باعترافه هو حيث قال :” يا أهل الكوفة إني ماقاتلتكم لتصلوا وتصوموا، وإني أعلم أنكم تصلون وتزكون ، ولكن قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وهذه شروط ” الحسن ” التي أعطيتها فهي تحت قدمي هاتين ” (27) ..
إذاً لولا الصلح لما انكشف معاوية وظهرت حقيقته ..
وأما خروج الحسين على يزيد فليس لأجل كشف حقيقته ، لأن يزيد قد اشتهر بكفره وفجوره ، وهو سيئة من سيئات والده الذي جعله ولي عهده ، وعمل على أخذ البيعة له من الأمصار والولايات كي يمهد له في حياته كما ذكر ذلك الطبري وغيره ..
فالناس كانوا قد انكشفت لهم حقيقة بني أمية ، ولكن ضعف الإرادة وضعف الهمة والعزيمة والخنوع والجمود الذي أصابهم ناهيك عن انشغالهم بالشهوات كل ذلك منعهم عن الالتحاق بركب الحسين ، فكان لابد لهم من هزة قوية توقظ ضمائرهم ، ولهذا كان استشهاد الإمام الحسين حدثاً خطيراً هز القلوب وأيقظ العقول وفتح الباب للثائرين وثوراتهم إلى زمننا هذا ..
فلولا صلح الحسن وثورة الحسين لانطمس الإسلام واندرس الدين وقواعده ، فصلح الحسن كان ثورة تمهيدية لثورة الحسين الكبرى ، فلا تناقض بين موقف الحسن وموقف الحسين ، بل هما موقفان صحيحان فرضت كل واحد منهما ظروفه الآنية، لكنهما يسيران على خط واحد وهدف مشترك ، وهو الحفاظ على رسالة الإسلام والدين المحمدي الأصيل، وحماية الأمة من كل الانحرافات التي أصابتها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وأخيراً أقول :
إن أمير المؤمنين علي – عليه السلام – في جميع حروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين ، وإن الإمام الحسن في صلحه ، والإمام الحسين في ثورته ، لم يبحثوا بما قاموا به عن دنيا ولا مناصب ، وإنما أرادوا بذلك أن يحافظوا على الإسلام – الذي أراد بنو أمية إزالته – ويقيموا العدل والمساواة، والحفاظ على الدين المحمدي ، لأنهم يعلمون جيداً أن الظالمين لو حكموا الأمة لأفسدوا في الأرض وأهلكوا الحرث والنسل وقضوا على الإسلام .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل….

الهوامش :

  • (١) انظر صحيح البخاري [ ١٦٩/٣ ].
    -(٢) المرجع السابق .
    -(٣) مستدرك الحاكم [ ١٧٤/٣ ] .
    -(٤) فتح الباري [ ٥٣/١٣ ].
    -(٥) فتح الباري [ ٥٤/١٣ ].
    -(٦) الثقات [ ٢٩٧/١٢ ].
    -(٧) رواه البخاري برقم “447”
    -(8)تأريخ الإسلام للذهبي [484/3]
    -(9) الآصابة لابن حجر [388/3] -(10)الكامل في التأريخ لابن الأثير [402/3] -(11) شرح النهج لابن أبي الحديد [106/16] -(12) سنن الترمذي [٣٠٥/٥] برقم (٣٨١٦) ، مسند أحمد [٧٧/١].
    -(13) سنن الترمذي [٣٢١/٥] برقم (٣٨٥٦).
    -(14) الخرائج والجرائح [ ٥٧٤/٢ ] للراوندي.
    -(15) أسد الغابة [ ١٧/٢ ] .
    -(16) تأريخ الطبري [ ٢/٧ ] ، الكامل في التأريخ لابن الاثير [ ٤٠٤/٣ ] بتصرف .
    -(17)نقل روايته كاملة ابن إبي الحديد في شرح النهج [11 / 15-16] -(18) انظر تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 201 ، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي [253/2] والكامل في التأريخ [364/2] -(19)انظر كتاب الأغاني [281/22] -(20) أسد الغابة [194/1] -(21) تهذيب التهذيب لابن حجر [280/7] -(22) تأريخ اليعقوبي [206/2] -(23) البداية والنهاية لابن كثير [١٤٠/٨] وشرح النهج لابن أبي الحديد [٤٦/١].
    -(24) تاريخ ابن عساكر [٢٢٥/٢].
    -(25) تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ص 223
    -(26) فرائد السمطين [424/2] -(27) البداية والنهاية لابن كثير [140/8] وشرح النهج [46/1]

المركزالإعلاميلملتقیالتصوفالإسلامي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى