مقالات

ظاهرة البكاء عند الإمام السجاد (عليه‌ السلام) بالدراسة والتحليل, ودورها في التربية وتهذيب النفس

دأب معظم الكتّاب والباحثين الذين كتبوا عن سيرة أئمة أهل البيت عليهم ‌السلام على عدم تجاوز النسق التقليدي في العرض التأريخي لحياة كل واحد منهم ، والذي يستهل عادة بذكر يوم ولادته وأسمائه وكناه ومناقبه ومعاجزه وكراماته ونحوها، انتهاءً بوفاته… وقليل منهم من يدون مقاطع وأحداثاً أكثر إثارة في حياتهم الاجتماعية والسياسية.

هذا مع عموم أئمة أهل البيت عليهم‌ السلام أما حين نأتي علىٰ دراسة حياة الإمام السجاد زين العابدين عليه‌ السلام فسنرى الرزيّة أعظم والكارثة أدهىٰ وأمرّ ؛ إذ إنّ هذا الإمام ـ كما هو معروف ـ عاش أقسىٰ وأشدّ ما يعانيه إنسان معارض وهو يرىٰ بأُم عينيه مشاهد وفصول واقعة كربلاء الرهيبة ويبقىٰ يحمل ذكرياتها في ضميره ووجدانه ، الأمر الذي دفع السلطات إلىٰ أن تحصي عليه أنفاسه وتراقب حركاته وسكناته ، وفي مقطع زمني بغيض أقلّ ما قيل فيه إنّ الناس بعد مصرع والده الإمام الحسين عليه‌السلام «ارتدوا جميعاً إلّا ثلاثة»(1).

وذلك تعبير عن هول الصدمة التي عصفت بمشاعر الاُمّة وهي ترىٰ ابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسيد شباب أهل الجنة مع أصحابه وبنيه مجزّرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء ، لا يسلم منهم أحد إلّا رجل واحد مريض ، اختزنته المشيئة الإلهية ليبقىٰ شاهداً علىٰ العصر وحجّة علىٰ العباد لاستكمال فصول «الابتلاء» ؛ بل الغضب الإلهي الذي عمّ أهل الدنيا بعد تلك الواقعة السوداء التي لطخت وجه التاريخ.

نقول ، إنّ «التاريخ الأسود» الذي كتبته السلطة الأموية الحاكمة ، لم يبق للمؤرخين من سيرة هذا الإمام العظيم إلّا النزر القليل، فضلاً عن التحريف المتعمد لتشويه صورته والتعتيم علىٰ مواقفه وسيرته ووفق الطريقة التي تخدم السلطة الحاكمة ، وتبرّر للحكام عزلته أو اعتزاله ، بل تفسّر ذلك وتبرره علىٰ أنّه الموقف السليم من الحكم ، الأمر الذي سار عليه الكتّاب والمؤرخون في تفسيرهم الظاهري لاعتزاله ، بل عزله وإقصائه(2).

ولكن ، ومع كل هذا التغييب المتعمّد أو هذا التعسف الظالم بحق الإمام السجاد عليه‌السلام ، إلّا أن مواقفه وكلماته وسيرته تحدّت حجب الزمن وركام التاريخ وغبار المدوّنات الظالمة ، وتركت لنا منه سفراً خالداً يجدر بالكتّاب والباحثين المعاصرين أن يقرأوه أو يدرسوه قراءة متأنية أُخرىٰ ، أو دراسة تحليلية جديدة تتناسب مع موقعه باعتباره الرمز الأول في معارضة سلبية قُتل كافة رجالها في معركة غير متكافئة ، أقعده المرض عن خوضها وبقي يُقاتل وحده ، بطريقةٍ أقلّ ما يقال فيها أنّها كانت أقسىٰ من ساعة مواجهة كان يمكن أن يستشهد فيها مع اخوته وأبيه وأصحاب أبيه ويتخلص من أيام ضيم وسنيّ ألم وعقود حصار ، وملاحقة مرّة جعلت منه رمزاً منغّصاً ، وهاجساً مرعباً لسلطة الباطل ، ووجهاً لوجه أمام قوم غلاظ نزع الله من قلوبهم الرحمة ، فراحوا يعدّون عليه أنفاسه ويلجأون إلىٰ شتىٰ الوسائل لاِنهائه والاجهاز عليه وإلحاقه بمن سبقه من سلالة هذا البيت الطاهر الكريم…

إذن ، من هذا المنطلق سنحاول في بحثنا هذا أن نقترب من هذا الإمام العظيم باعتباره حركة في الواقع وتجسيداً للمثال ، وقدوة حسنة ، ونموذجاً حركياً عاش علىٰ الأرض وتحرك مع الناس وأنزل المفاهيم السماوية مصاديق متحركة تمشي علىٰ أقدامها في الأسواق ومع الفقراء والعبيد وعوامّ الناس ، لتؤكد للجميع أنّ الإمام شعار وشعور ، مفاهيم ومصاديق ، أقوال وأفعال ، موعظة وسلوك ، توجيه وممارسة ، يواسي الفقير ، وينتصر للمظلوم ، ويصفح عن المسيء ، يعدل بين المتخاصمين ، ويدعو علىٰ الظالمين ، ويدعو للمظلومين ، يبكي نبلاً ، ويتهجّد صدقاً ، وينشج حزناً ، ويقرأ القرآن اعتقاداً وتصديقاً ، ويرتّله إيماناً ويقيناً ، ويعمل به أخلاقاً وسلوكاً ، فلسفة وعرفاناً ، نظرية وتطبيقاً…

وقد تناول هذا البحث في سطوره مبحثان :

المبحث الاَول تناول  (الإمام السجاد عليه‌السلام في سطور) ـ المحطات الاساسية في حياته الشريفة والتأشير صوب الأدوار الرئيسية التي جسّدها في حياته.

وتناول المبحث الثاني ظاهرة البكاء عند الإمام السجاد عليه‌السلام بالدراسة والتحليل.

المبحث الاَول

(الإمام السجاد عليه‌السلام في سطور) ـ المحطات الاساسية في حياته الشريفة والتأشير صوب الأدوار الرئيسية التي جسّدها في حياته.

الشخصية :

ولد الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌ السلام في السنة الثامنة والثلاثين للهجرة النبوية الشريفة في شهر شعبان ، واختلف المؤرخون في يوم ولادته ومكانها ، فبعضهم قال : إنّه ولد في الكوفة(3) ، فيما قال آخرون إن ولادته كانت في يثرب(4) .

وقد عُرف بين المؤرخين والمحدّثين بابن الخيرتين ؛ لأنّ أباه هو الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما ‌السلام ، وأمّه من بنات ملك الفرس كسرىٰ ، أُسرت في إحدىٰ الحروب وعُرض عليها الزواج فاختارت الإمام الحسين عليه‌السلام فتزوجها تكريماً لها.

وجاء في (ربيع الأبرار) للزمخشري : أنّ لله في عباده خيرتان : فخيرته من العرب بنو هاشم ، وخيرته من العجم فارس(5) ، وفي ذلك قال أبو الأسود الدؤلي :

وإنّ وليداً بين كسرىٰ وهاشمٍ

لأكرمُ من نيطت عليه التمائمُ

استمرت إمامته أربعةً وثلاثين سنة ، عاصر فيها مُلك يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان ، وتوفي مسموماً ـ حسب أكثر الروايات التاريخية ـ في عهد الوليد بن عبدالملك بن مروان(6) ، وذلك في النصف الأول من شهر محرم الحرام سنة خمس وتسعين للهجرة ، وقيل قبل ذلك أو بعده بقليل…

عاش حوالي سبعاً وخمسين عاماً ، قضىٰ بضع سنين منها في كنف جدّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ثم نشأ في مدرسة عمّه الحسن وأبيه الحسين عليهما السلام سبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستقىٰ علومه من هذه المصادر الطاهرة.

برز علىٰ الصعيد العلمي والديني ، إماماً في الدين ومناراً في العلم ، ومرجعاً ومثلاً أعلىٰ في الورع والعبادة والتقوىٰ حتىٰ سلّم المسلمون جميعاً في عصره بأنّه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم… فقال الزهري ، وهو من معاصريه : «ما رأيتُ قرشياً أفضل منه» ، وقال سعيد بن المسيّب وهو من معاصريه أيضاً : «ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين» ، وقال الإمام مالك : «سمي زين العابدين لكثرة عبادته» ، وقال سفيان بن عيينة «ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه» ، وعدّه الشافعي أنّه : «أفقه أهل المدينة».

وقد اعترف بهذه الحقيقة حكام عصره من بني أمية أنفسهم ، رغم ما بينه وبينهم من عداوة وخصومة ، فقال له عبدالملك بن مروان يوماً : «لقد أوتيت من العلم والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك قبلك إلّا من مضىٰ من سلفك..» ، ووصفه عمر بن عبدالعزيز بأنّه : «سراج الدنيا وجمال الإسلام »(7).

وحين اصطدم عبدالملك بن مروان بملك الروم وتماحكا حول مسألة النقود ، لم يجد الأول مفزعاً ومُعيناً إلّا الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فهرع إليه يستعينه علىٰ إنقاذ المسلمين من ورطتهم ، فوضع له الإمام اُطروحة متكاملة للنقد الإسلامي(8) ، وأنقذ المسلمين من إذلال الروم ، ولعلّ آثار هذه الاُطروحة والعمل بالنقد ما زالت لحدّ اليوم.

من أشهر ألقابه : زين العابدين ، والسجاد ، وذو الثفنات ، والبكّاء ، والعابد ، وأشهرها الأول…

جاء في المرويات عن محمد بن شهاب الزهري أنّه كان يقول : «يقوم يوم القيامة منادٍ ينادي : ليقم سيد العابدين في زمانه ، فيقوم علي ابن الحسين».

وجاء في (تذكرة الخواص) لابن الجوزي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي سماه بهذا الاسم(9) ، وكذلك حسب الروايات الشيعية في تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأئمة أهل البيت الاثني عشر المعروفين عليهم‌السلام.

وجاء في تسميته بذي الثفنات ، أنّ الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « كان لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في كلِّ سنة من طول سجوده وكثرته … »(10).

ويروي الرواة عن سبب تسميته (البكّاء) عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « بكىٰ جدي علي بن الحسين عليه‌السلام علىٰ أبيه عشرين سنة ، ما وضع خلالها بين يديه طعام أو ماء إلّا بكىٰ ، فقال له أحد مواليه يوماً : جُعلت فداك يا ابن رسول الله ، إنّي أخاف أن تكون من الهالكين ، فقال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلىٰ الله ، وأعلم ما لا تعلمون… .

وقال له مولىً آخر في يوم آخر : «أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ ؟ فقال عليه‌السلام : ويحك ، إنّ يعقوب النبي كان له اثنا عشر ولداً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فابيضت عيناه عليه من كثرة البكاء واحدودب ظهره… وأنا نظرتُ إلىٰ أبي وإخوتي وعمومتي وسبعة عشر شاباً من بني عمومتي مجزرين أمامي كالأضاحي.. ونظرت إلىٰ عمّاتي وأخواتي هائمات في البراري وقد أحاط بهنّ أهل الكوفة وهنّ يستغثن ويندبن قتلاهن …» ».

وجاء عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : « البكاؤون خمسة آدم ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد ، وعلي بن الحسين ».

وتحدّث المؤرخون عن بكائه عليه‌السلام الكثير الكثير ، حتىٰ قيل أنّه ما رأىٰ جزاراً يذبح شاة حتىٰ يدنو منه ويسأله هل سقاها ماءً وحين يقال له نعم ، يبكي ويقول : « لقد ذُبح أبو عبدالله عطشاناً ».

وما يجيئه ضيفٌ ويسأله عن ميّت له ، هل غسّله وكفّنه ؟ ويكون الجواب ، نعم هذا واجب يا ابن رسول الله ، حتىٰ يبكي ويقول : « لقد قُتل والدي غريباً وبقي ثلاثة أيام تصهره الشمس بلا غُسل ولا كفن… ».

وهكذا حتىٰ كاد يفجّر ببكائه وأسئلته وتعليقاته تلك ، كل معاني الغضب المقدّس في نفوس الأحرار والثوار ويستنهضهم بشكل مباشر أو غير مباشر للثورة علىٰ الظلم والظالمين ، والتمرّد علىٰ أعداء الدين الذين يستبيحون الحرمات ، ويهتكون المقدّسات ، ويستهترون بالقيم والمبادئ والحدود…

نعم ، لقد هزّ الإمام السجاد بتلك الدموع عروش الأمويين وزلزل حكمهم ، ونغّص عليهم دنياهم التي باعوها بدينهم وآخرتهم ، والتي لم يحفظوا فيها لأهل بيت النبي حرمة ، ولا رعوا لهم فيها إلاً ولا ذمة… فكان الذي كان وصار الذي سنقرأ بعض تفاصيله في الصفحات القليلة التالية…

المحطات الرئيسية في حياة الإمام السجاد عليه‌السلام :

في قراءة سريعة لسيرة الإمام السجاد عليه‌السلام لا يسع القارئ إلّا أن يتوقف أمام البداية والمرتكز اللذين وسما شخصيته عليه‌السلام وجعلاه يُسجّل أسطع صفحات النضال في مسيرته المستقبلية اللاحقة…

ويمكن اعتبار حضوره في كربلاء ومواقفه في الشام ، وتخطيطه في المدينة بعد عودته إليها هي المحطات الثلاثة التي تؤشر الأبعاد الحقيقية التي بلورت شخصيته الجهادية في قابل الأيام والسنين ، فضلاً عن محطته الرئيسية في بيت العصمة والطهارة الذي نشأ وعاش وترعرع فيه وخاصة مع جدّه الإمام علي وأبيه الحسين وعمّيه الحسن والعباس عليهم‌السلام.

وعند التأمل في هذه المحطات الثلاث ، نكتشف أنّ جهاد الإمام السجّاد عليه‌السلام ودوره في تأصيل القيم التي من أجلها استشهد جده وأبوه وعمّاه ، لم تكن لتُرسم بقعقعة السيوف وصليلها فقط ، وإنّما بكشف الحقائق التي تمّ تزويرها أو التعتيم عليها بعد مصرع أبيه وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، وتوقّف صهيل خيولها وهجع ضجيج عساكرها وصخب مقاتليها…

المحطة الاُولىٰ : في كربلاء :

تؤكد المصادر التاريخية أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام كان حاضراً في كربلاء إذ شهد واقعة الطفّ بجزئياتها وتفاصيلها وجميع مشاهدها المروّعة ، وكان شاهداً عليها ومؤرخاً لها ، ولعلّه يُعتبر أصدق وأهم مراجعها علىٰ الإطلاق..

ولقد ورد في بعض النصوص التأريخية المعتبرة عن أهل البيت عليهم‌السلام في ذكر أسماء من حضر مع الإمام الحسين عليه‌السلام ، أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام قد قاتل في ذلك اليوم وقد جُرح..

وكان ممّا ورد في هذا السياق ما نصه : «وكان علي بن الحسين عليلاً ، وارتُثَّ يومئذٍ ، وقد حضر بعض القتال ، فدفع الله عنه وأُخِذ مع النساء»(11) .

ومع وضوح هذا النص ، فإنّ كلمة (ارتُثَّ) هذه تدلُّ علىٰ اشتراكه في القتال ، لأنّها تُقال لمن حُمل من المعركة بعد أن قاتل وأُثخن بالجراح ، فأُخرج من أرضها وبه رمق ، كما يقول اللغويون ،

 أو أصحاب فقه اللغة(12) ,إلّا أن المؤكد في معظم المصادر التاريخية ، أو المتفق عليه فيها أنه كان يوم كربلاء مريضاً أو موعوكاً (13) وللحدّ الذي لا يستطيع الوقوف علىٰ قدميه ، أو لا تحمله قدماه ، كما تقول الروايات.

فقد جاء في تاريخ اليعقوبي ـ المجلد الثاني ، ما نصه : (روي عن علي ابن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : « إنّي لجالسٌ في العشية التي قُتل فيها أبي الحسين بن علي ، في صبيحتها وعمّتي زينب تمرّضني ، إذ دخل أبي وهو يقول :

يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ

كم لك في الإشراق والأصيلِ

من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ

والدهر لا يقنع بالبديلِ

وإنّما الأمر إلىٰ الجليلِ

وكلّ حيٍّ سالكُ السبيلِ

ففهمتُ ما قال وعرفتُ ما أراد ، وخنقتني عبرتي ، ورددتُ دمعتي ، وعرفتُ أنّ البلاء قد نزل بنا. فأمّا عمّتي زينب فإنّها لمّا سمعت ما سمعت ، والنساء من شأنهنّ الرقّة والجزع ، لم تملك أن وثبت تجرّ ثوبها حاسرة وهي تقول : واثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة… ، فقال لها الحسين : يا أختي اتّقي الله ، فإنّ الموت نازل لا محالة ، فلطمت وجهها وشقّت جيبها وخرّت مغشياً عليها ، وصاحت واويلاه واثكلاه ، فتقدّم إليها وصبّ علىٰ وجهها الماء وقال : يا أختاه : تعزّي بعزاء الله ، فإنّ لي ولكلِّ مسلم ومسلمة اُسوة برسول الله… ثمّ قال : إنّي أُقسم عليك ، فأبرّي قسمي ، لا تشقّي عليَّ جيباً ، ولا تخمشي عليَّ وجهاً ، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور. ثمّ جاء حتىٰ أجلسها عندي ، فإنّي لمريض مدنف ، وخرج إلىٰ أصحابه… »(14).

ثمّ راح عليه‌السلام يشرح قصّة مصرع والده عليه‌السلام وأصحابه وبنيه وأهل بيته.. ويؤرّخ مواقفهم وملاحمهم البطولية الخالدة بأصدق ما يكون المؤرخ ، وأدقّ ما يسجل التاريخ…

إذن ، كان الإمام الحسين برحلته من الحجاز إلىٰ العراق ، وكلماته كلّها ، ومصرعه الدامي ومشاهد البطولة والفداء ، كلّها مخزونة في وجدان وضمير الإمام السجاد وهو يسمعه يقول يوماً : « كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء » ، ويسمعه يقول في يوم آخر : « من رأىٰ منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ولم يغيّر عليه بقول أو فعل كان حقاً علىٰ الله أن يدخله مدخله » ، ويسمعه يقول في يوم ثالث ورابع : « والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد » « إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً » « الموت أولىٰ من ركوب العار ، والعار أولىٰ من دخول النار » فيما يسمع إخوته وأبناء عمومته وأصحاب أبيه ينشدون في حومة الوغىٰ ويهتفون :

* إذا لم يكن من الموتِ بدٌّ          فمن العار أن تموت جبانا

* أنا علي بن الحسين بن علي     نحن وأيم الله أولىٰ بالنبي

نحن وأيم الله أولىٰ بالنبي            أطعنكم بالرمح حتىٰ ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي     ضرب غلامٍ علوي هاشمي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

سأمضي وما بالموت عارٌ علىٰ الفتىٰ        إذا ما نوىٰ خيراً وجاهد مسلما

وواسىٰ الرجال الصالحين بنفسه            وفارق مثبوراً وخالف مجرما

فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلم            كفىٰ بك ذلّاً أن تعيش وتُرغما

كلّ ذلك وغيره كثير يختزنه الإمام السجاد ويطوي عليه قلبه وضلوعه ، إذ لم يتسنَّ له أن يبذل مهجته ، لجرحٍ أصابه ، فأخرجه من المعركة ، أو مرضٍ شديد أقعده عن المساهمة فيها ، فيحمل تلك المشاهد والكلمات ليصبح بعد ذلك ناطقاً رسمياً بما شاهده واطّلع عليه ، ويكون المرجع الرئيس المُنتدب لإتمام المهمة التي استشهد من أجلها أبوه الإمام الحسين عليه‌السلام ، والتي لم تنته باستشهاده ، بل إنّها بدأت بعد ذلك مباشرة فعلاً.

وحين نقول ذلك ونؤكد أن مصرع الإمام الحسين عليه‌السلام هو الحدث التاريخي الأكبر الذي أدىٰ إلىٰ بلورة الاتجاه الصحيح في الإسلام ، وقاد ثورته التصحيحية فعلاً ، فان دور الإمام السجاد عليه‌السلام يأتي الأكثر تجلياً في ريادة مشروع هذه الثورة واستكمال فصولها وتجلية مفرداتها وشرح أبعادها ورسم المعالم الحقيقية للخط الإسلامي المحمدي الأصيل.

المحطة الثانية : في الكوفة والشام :

نعم ، في معسكر الأعداء ، وفي أسر الخصوم ، في الكوفة ومجلس أميرها ، وفي الشام وأمام مليكها والتي لا يقل الموقف البطولي فيها عن ميدان الوغىٰ وحومة الصراع ، يستحضر الإمام السجاد عليه‌السلام مصارع إخوته وأبناء عمومته ، فيقف شامخاً في قصر الإمارة بالكوفة مع عمّته زينب وهما يحملان بلاغة علي وعنفوان الحسين وعزّة العباس ، ليقولا بكلام عربي فصيح ومواجهة كلامية حادّة بينهما وبين الطاغية عبيد الله بن زياد ، قولاً لا يمكن أن يقوله ثائر مغلوب منكسر في مثل موقعهما وموقفهما وأمام هذا الطاغية الذي مازال يقطر سيفه من دماء المجزّرين في رمضاء كربلاء من أهل بيت النبوة..

يلتفت ابن زياد لزينب وهي جالسة حزينة منكسرة وقد صدّت بوجهها عنه فيقول : «من هذه الجالسة ؟» فلا تكلّمه ، ويكرّر فلا تكلّمه ، فيعيد ثالثة وهي مصرّة لا تكلّمه ، حتىٰ يقول بعض إمائها : «هذه زينب بنت فاطمة».

فقال لها ابن زياد : «الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم ، وأكذب أُحدوثتكم».

فتقول عليها‌السلام : « الحمدُ لله الذي أكرمنا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطهّرنا تطهيراً ، لا كما تقول (أنت) ، وإنّما يُفتضح الفاسق ، ويكذّب الفاجر ، وهو غيرنا ياابن مرجانة.. ».

فقال : «فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتكِ ؟» ، قالت : « قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده.. » فغضب بن زياد (واستشاط) وقال : «قد شفىٰ الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك» ، فبكت وقالت : « لعمري لقد قتلت كهلي ، وأبرتَ أهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن يُشفك هذا فقد اشتفيتَ »(15)

ثمّ يلتفت ابن زياد إلىٰ عليّ بن الحسين ويقول : «ما اسمك ؟» قال « علي بن الحسين » قال : «ألم يقتل الله علي بن الحسين ؟» فسكت ، فقال : «مالك لا تتكلم ؟» قال : « كان لي أخ يُقال له علي قتله الناس » !!

فقال ابن زياد : «إنّ الله قتله» فسكت الإمام عليه‌السلام.

قال : «مالك لا تتكلم ؟» فقال الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « الله يتوفىٰ الأنفس حين موتها.. وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن الله… ».

ثم غضب ابن زياد فأراد قتله علىٰ جرأته وتجاسره علىٰ الطاغية بتلك الاَجوبة ، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به ، وقالت لابن زياد : « يا ابن زياد ، حسبُك منّا ما أخذت ، أما رويتَ من دمائنا ؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً ؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه.. ».

وقال الإمام عليه‌السلام لابن زياد : « يا ابن زياد ، إن كانت بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهنّ بصحبة الإسلام… »(16).

أمّا في الشام وحيث الدور الإعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، يقف الإمام السجاد عليه‌السلام في مجلس يزيد ويلتمس الإذن بالحديث فيُسمح له ، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوىٰ الأموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه ، وتزييف أهداف ثورته ، قائلاً :

« يا معشر الناس : فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه

نفسي ، أنا ابن مكّة ومِنىٰ ، أنا ابن مروة والصفا ، أنا ابن محمد المصطفىٰ… أنا ابن من علا فاستعلىٰ ، فجاز سدرة المنتهىٰ ، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنىٰ ، أنا ابن من صلّىٰ بملائكة السماء مثنىٰ مثنىٰ ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلىٰ المسجد الأقصىٰ ، أنا ابن علي المرتضىٰ ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرىٰ ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المجزور الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتىٰ قضىٰ ، أنا ابن صريع كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه علىٰ السنان يُهدىٰ ، أنا ابن من حرمه من العراق إلىٰ الشام تُسبىٰ.. أيُّها الناس إنّ الله تعالىٰ ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدىٰ والتُقىٰ فينا ، وجعل راية الضلالة والردىٰ في غيرنا… »(17).

وهكذا حتىٰ عمّ المجلس النحيب والبكاء ـ كما تقول الروايات التأريخية ـ فكشف مالم يكشف وفضح ما تمّ التكتّم عليه أو يُراد له ذلك ، فذكّر الناس أولاً بنسبه الشريف واتصاله بالإسلام ونبي الإسلام ، وأشار إلىٰ العديد من الحوادث التأريخية والجنايات التي ارتكبها جيش الأمويين باسم الإسلام وتجاوزت حدود الدين وتعاليمه المعروفة ، كالتمثيل بالقتلىٰ مثلاً : « أنا ابن المجزور الرأس من القفا » ، والوحشية في التعامل مع الخصم : « أنا ابن العطشان حتىٰ قضىٰ » والتطاول علىٰ حرمة بيت النبوة ، وبنات المصطفىٰ والمرتضىٰ اللواتي « من العراق إلىٰ الشام تُسبىٰ »… وأكثر من كل ذلك وبصريح القول والعبارة : « أنا ابن المقتول ظُلماً »…

وهكذا ممّا أدىٰ إلىٰ بكاء ونحيب الحاضرين وإشعارهم بالإثم والذنب الكبيرين اللذين ارتُكبا بحقِّ الإسلام ووريثه ، وكيف إن الإسلام الذي يزعمه الامويون اليوم مجسّداً برمزه الماثل أمامهم أصبح أسيراً يُساق مع عمّاته وخالاته من بلد إلىٰ بلد ، ورأس ابن الزهراء أبيه أمامهنّ « علىٰ السنان يُهدى »…

إنّه ، باختصار شديد ، وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الإحياء , إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الأموية وحكمت أو تحكّمت باسمه… فتراه عليه‌السلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالآذان للصلاة ، يُعلِّق علىٰ صوت المؤذن الذي يقول : «أشهد أن محمداً رسول الله» بقوله : « يا يزيد ! هذا جدي أم جدّك ؟ فإن قلت جدك فقد كذبت ! وإن قلت جدي ، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني ؟! » ، ثمّ قال مخاطباً الناس : « أيُّها الناس ، هل فيكم من أبوه وجده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ » فعلت الأصوات بالبكاء.

وقام إليه رجل من شيعته يُقال له : المنهال بن عمرو الطائي ، وفي رواية مكحول صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسأله : «كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله ؟».

فيستثمر الإمام السجاد عليه‌السلام هذا السؤال فيروح مندّداً بالعصابة التي حرّفت دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويضع أُولىٰ العناوين العريضة في هذه المسيرة التبليغية الإعلامية التي قادت وتقود مسيرة الإحياء العظيمة هذه ، برائدها الوحيد الحيّ الباقي ، مؤكداً علىٰ الفرعونية الجديدة التي تتحكّم باسم الدين مستنهضاً همم الرجال ، مقرّعاً ضمائرهم ، مناشداً غيرتهم علىٰ دين عظيم ضيّعوه بالتواطؤ مع هذه العصابة الضالة المضلّة ، فيجيب سائله بقولٍ موجز بليغ :

« ويحك كيف أمسيت ؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأمست العرب تفتخر علىٰ العجم بأنّ محمداً منها ، وأمسىٰ آل محمد مقهورين مخذولين ، فإلىٰ الله نشكو كثرة عدوّنا ، وتفرّق ذات بيننا ، وتظاهر الأعداء علينا»(18).

وهكذا تبرز وثائقية هذا الطرح الاِعلامي البليغ ، ويتجلّىٰ دور الإمام السجاد عليه‌السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح ، ومن هذه المحطة تبدأ رحلة الألف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلىٰ المدينة ، ليستأنف الإمام عليه‌السلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.

المحطة الثالثة : في المدينة المنوّرة :

١ ـ دوره العلمي

ليس الحديث عن الدور العلمي للإمام السجاد عليه‌السلام مما تجمعه السطور ، أو تفي بالتعبير عنه ؛ ولكن حسبها أنّها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور وما كان يتمتع به صاحبه من منزلة.

لقد عاش الإمام زين العابدين عليه‌السلام في المدينة المنورة ، حاضرة الإسلام الاُولىٰ ، ومهد العلوم والعلماء ، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة ، مع كبار علماء التابعين ، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم ، الأعلم والأفقه والأوثق ، بلا ترديد.

فقد كان الزهري يقول : (ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أحداً كان أفقه منه). وممن عرف هذا الأمر وحدّث به الفقيه سفيان بن عيينة(19).

وبمثل هذا كان يقول الشافعي محتجاً بعلي بن الحسين عليه‌السلام علىٰ انه كان (أفقه أهل المدينة)(20). وبمثله كان يقول معاصر الإمام السجاد عليه‌السلام أبو حازم المدني(21) ، وغيرهم كثير.

هذا وقد كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الاُولىٰ في بلاد الإسلام ، يحملون عنه العلم والأدب ، وينقلون عنه الحديث ومن بين هؤلاء ، كما أحصاهم الذهبي : أولاده أبو جعفر محمد (الباقر عليه‌السلام) وعمر ، وزيد ، وعبدالله ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، والحكم ابن عُتيبة ، وزيد بن أسلم ، ويحيىٰ بن سعيد ، وأبو الزناد ، وعلي بن جدعان ، ومسلم البطين ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعاصم بن عبيدالله ، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان ، وأبوه عمر بن قتادة ، والقعقاع بن حكيم ، وأبو الأسود يتيم عروة ، وهشام بن عروة بن الزبير ، وأبو الزبير المكّي ، وأبو حازم الأعرج ، وعبدالله بن مسلم بن هرمز ، ومحمد بن الفرات التميمي ، والمنهال بن عمرو ، وخلق سواهم.. وقد حدّث عنه أبو سلمة وطاووس ، وهما من طبقته(22) ، غير هؤلاء رجال من خاصة شيعته من كبار أهل العلم ، منهم : أبان بن تغلب ، وأبو حمزة الثمالي ، وغيرهم كثير(23),هذا الجمع الغفير وغيرهم ممن وصف بالخلق الكثير أخذوا عنه عليه‌السلام , علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهة وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه ، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثر بما سلف من سياسة المنع من التدوين ، السياسة التي اخترقها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير ، إلىٰ أحكام الشريعة ، حلالها وحرامها وآدابها ، إلىٰ فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة علىٰ تعطيل الكثير من الأحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع ، إلىٰ الجهر في نصرة المظلوم وضرورة الردّ علىٰ الظالم وكشف أساليبه الظالمة للناس.

كما تأدبوا علىٰ يديه في مجالسه بآداب الإسلام التي شحنها في أدعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده حتىٰ أصبحت تشكّل لوحدها ظاهرة جديدة في تبني اسلوب روحي متين ، ليس لإحياء القلوب وشدّها إلىٰ الله تعالىٰ وحسب ؛ بل إلىٰ إحياء معالم الشريعة وحدودها وآدابها الأدعية التي حفظ المشهور جداً منها في الصحيفة المعروفة بـ «الصحيفة السجادية» نسبة إليه حيث عرف عليه‌السلام بالسجاد.

والأثر المحفوظ عنه عليه‌السلام في كلِّ هذه الميادين أثر عظيم يجمع أسفاراً جليلة ، تتضمن سائر علوم الشريعة الإسلامية.

وغير ذلك فقد سجّل الإمام عليه‌السلام سبقاً علمياً وتاريخياً في رسالة تعد من مفاخر الإسلام وتراثه العلمي ، ألا وهي «رسالة الحقوق» الرسالة الخالدة المحفوظة بهذا العنوان ، والتي استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الإنسان عن معرفتها ، ولا يستغني المجتمع عن احيائها والعمل بها ، لأجل أن يكون مجتمعاً إسلامياً حيّاً بحق ، كما أرادت له الشريعة السمحة.

ومن ناحية أُخرىٰ فقد ظهرت في عهده عليه‌السلام مقولات عقيدية تبنتها فرق إسلامية وتمحورت حولها واتخذت منها مناهج خاصة في فهم عقائد الإسلام وتوجيه أحكامه ، كعقيدتي الجبر والارجاء اللتين روّج لهما الامويون تبريراً لوجودهم في السلطة لمشروعهم السياسي ، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.

وإزاء هذه الاتجاهات وقف الإمام عليه‌السلام موقفه الواضح والمنسجم مع منهجه في التعليم والدفاع عن مبادئ الشريعة ، فضمّن أقواله الحكيمة وأدعيته المشتهرة نصوصاً تجتث تلك المقولات من جذورها ، من ذلك موقفه مع عبيد الله بن زياد يوم أُدخل عليه في قصر الإمارة وعُرض عليه فقال له : من أنت ؟

فقال عليه‌السلام : « أنا علي بن الحسين ».

فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟

فقال له الإمام عليه‌السلام : « قد كان لي أخ يسمىٰ علياً قتله الناس ».

فقال له ابن زياد : بل الله قتله.

فقال الإمام عليه‌السلام : « ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )(24) »(25).

وكذا موقفه الآخر مع يزيد بن معاوية عند دخوله عليه مع أخواته وعمّاته في الشام.

قال يزيد : يا بن حسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.

فقال الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )(26) »(27).

أو ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن ثقاة الرواة وعدولهم ، قال : أنه لما أُدخل علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في جملة من حُمل إلىٰ الشام سبايا من أولاد الحسين بن علي عليه‌السلام وأهاليه علىٰ يزيد ـ لعنه الله ـ قال له يا علي ! الحمدُ لله الذي قتل أباك !

قال الإمام عليه‌السلام : « قتل أبي الناس ».

قال يزيد : الحمد لله الذي قتله فكفانيه.

قال الإمام عليه‌السلام : « علىٰ من قتل أبي لعنة الله ، أفتراني لعنت الله عزّ وجلّ ؟ »(28).

أما موقفه عليه‌السلام من المشبّهة والمجسّمة فنجده قد اتّخذ شكل دعاء ، كما في دعائه في التوحيد إذ يقول : « إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك.. شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء.. فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبهون نعتوك »(29).

ولم يدع الإمام عليه‌السلام مناسبة تمر إلّا وأوضح العقيدة الحقّة التي عليها أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي تنزيه الباري جلَّ شأنه وتعظيمه ، وذلك ما تجده شاخصاً في دعائه الأول والثاني من الصحيفة حينما يحمد الله عزَّ وجلّ ويثني عليه بأجلّ الصفات وأنزهها.

٢ ـ دوره في بلورة المعارضة السياسية.

المؤسف في قراءات ودراسات الكثير من المؤرخين والمحللين السياسيين هو ارتباكهم وعدم دقّتهم في تحديد أدوار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وتفكيك مدرستهم الفكرية والسياسية في تعاملهم مع السلطات ، وكذلك عدم قدرة هؤلاء المحللين علىٰ إدراك حكمة تنوّع تلك الأدوار وفلسفتها وعدم استيعاب حرص الأئمة علىٰ الاحتفاظ بوحدة هدفهم في المحافظة علىٰ الإسلام عقيدةً وشريعةً ، نظريةً ومنهاجاً.

يأخذ بعض هؤلاء المحللين دور الإمام الحسن عليه‌السلام مثلاً في صلحه مع معاوية ، ويقومون بتفكيكه بعيداً عن ظروفه وأهدافه ، فيُظهرونه (سلام الله عليه) مصالحاً مساوماً متنازلاً قد رضي بأنصاف الحلول مؤيداً ومبايعاً ، بعيدين عن الإنصاف والحقّ طبعاً ، وبعيدين عن الدراسة التحليلية المتأنية التي تضفي علىٰ البحث العلمي رصانته وموضوعيته ، وللحدِّ الذي يسفّ البعض فيصفه ـ عليه‌السلام ـ بأنّه مذلّ المؤمنين ـ كما خاطبه أحد أعوانه يوماً ـ متناسين رأي أبيه فيه في صفين حين قال : « إملكوا عني هذا الغلام ، لشدّة مراسه في الحرب والقتال » ومتجاهلين موقفه هو نفسه ـ سلام الله عليه ـ حين خاطب جيشه قائلاً : « ألا إنّ معاوية دعانا لأمر (يقصد الصلح) ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلىٰ الله تعالىٰ بظبا السيوف ، وإن أردتم الحياة الدنيا ، قبلنا وأخذنا لكم الرضا… » فإذا بالناس من كل جانب ومكان يهتفون ويصرخون ويولولون : «البقية … البقية» !!(30).

فتجرّع ـ سلام الله عليه ـ مرارة ذلك الوصف وقساوة تلك التهمة علىٰ أن يحملهم علىٰ ما يكرهون فيُقال فيه أنّه قتلهم أو قاتل بهم علىٰ المُلك ، فضلاً عن حرصه علىٰ حقن دماء شيعته بعد أن تأكد لديه نكوص جيشه وتخاذل قادته وانهيار جنوده.

وكما تهلهل مثل هذا التحليل مع الإمام الحسن عليه‌السلام ، كان قد تهلهل مع أبيه عليه‌السلام حين إتُّهم أنّه لم يكن سياسياً فذّاً ؛ إذ لم يتراجع خطوة إلىٰ الوراء من أجل خطوتين إلىٰ الإمام ـ كما يقول السياسيون الذرائعيون اليوم ـ فيهادن معاوية ثم ينقضّ عليه غدراً ، كما هو شأن الأخير وطبعه.

وحين يصل الدور إلىٰ الإمام الرضا عليه‌السلام أيضاً ترىٰ بعضهم يحاسبه علىٰ قبوله بولاية العهد ، فيما حاسبه آخرون علىٰ عدم قبوله لها في البداية ، فاتهموه بالتفريط بدماء شيعته عبر إصراره علىٰ الرفض ـ حسب زعمهم ـ.

وهكذا مع الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام اللذين انصرفا إلىٰ العلم وترسيخ العقيدة ، ولم يرفعوا السيف لمواجهة طواغيت زمانهم ، وكأن المؤرخين لم ينظروا إلىٰ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، إلّا من زاوية واحدة أو بُعدٍ واحد ، فجاءت دراساتهم وتحليلاتهم عرجاء تمشي علىٰ رجلٍ واحدة ، أو عوراء تنظر بعينٍ واحدة..

أما موقف الإمام السجاد من الثورة والجهاد فكان هو الآخر عُرضة لهذا التحليل الشاطح الذي وضع أُسسه صنفان من الناس :

صنف يحب الدعة والاسترخاء فيروح يُفسِّر موقفه عليه‌السلام دعةً واسترخاءً للتغطية علىٰ فشله هو وهزيمته ونكوصه.

وصنفٌ يهوىٰ الثورة والتمرد فيتحامل علىٰ الإمام جسارة أو تجرؤاً فيتّهمه بحبّ الدعة والاسترخاء زوراً وإفكاً.

وهذا يعني أن كلّاً من هذين الصنفين ـ إذا أحسنّا الظن بهما ـ لم يضع نفسه في مكانه ، وإنّما درس القضية أو قرأها من خارج الظرفين الزماني والمكاني ، وراح يسبح في فضاء هذا الإمام العظيم ولكن كمن يطير بلا جناح ، أو كمن يتعلّم السباحة علىٰ حصير…

فبعضهم يزعم أنّه اعتزل السياسة والتصدّي بعد فجيعته بوالده وإخوته ، وغدر الغادرين من أهل زمانه ، فاكتفىٰ بالتضرّع والدعاء (31).

وبعضهم يحلّل إنّه آثر الدعاء والبكاء علىٰ غيرهما ؛ لأنّهما أيسر مؤونةً وأقلُّ كلفةً من المواجهة والنزال وحزِّ الرؤوس وجزِّ الرقاب(32).

وبعضهم يقول إنّه آثر الدعة والراحة طمعاً بهما بعد أن رأىٰ ما رأىٰ من هول المصائب التي حلّت بأخوته وأهل بيته في مجزرة كربلاء…

ويشطح صنف آخر أكثر من هؤلاء جميعاً فيزعم أنّه صالح وساوم السلطة ونأىٰ بنفسه بعيداً عن الثورات الشيعية التي تفجّرت في زمانه ؛ بل تبرأ منها في السرِّ والعلن (33) ـ حسب زعمهم ـ ومن هنا فإنّه أخذ علىٰ أيدي هؤلاء الثوار وخذلهم وتنصّل من مسؤوليته تجاه ثوراتهم ، وما إلىٰ ذلك من هذه الدراسات المبتورة والتحليلات الشوهاء…

فلنتوقف قليلاً أمام هذه المزاعم وندرسها بموضوعية وتأنٍ بعيداً عن لغة البُعد الواحد والنظرة الأحادية والتحليل الجاهز ، وباختصار شديد طبعاً ، آملين ألّا نكون في هذا البحث الموجز مختزلين أو قافزين علىٰ ظهر التاريخ والمؤرخين..

المرحلة المنعطف :

بالتأكيد أنّ مرحلة الإمام السجاد عليه‌السلام يمكن أن تسجّل منعطفاً مهماً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

المرحلةالاُولىٰ :

مرحلة التصدّي والصراع السياسي والمواجهة العسكرية ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين ، وقبلهم الكفرة والمنافقين وأعداء الدين الواضحين .

المرحلة الثانية :

مرحلة المعارضة السياسية الصامتة ، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف ، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدين ، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللذين غرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية..

ومن هنا ، وحين تختلط المفاهيم ، وتهتزّ القيم وترتجّ المقاييس لابدّ من وقفةٍ متأنيةٍ تتيح للاُمّة أن تلتقط أنفاسها ، وتتأمل في ماضيها وتدرس حاضرها لعلّها تضع بعض الخطوات الصحيحة علىٰ سُلِّم مستقبلها الآتي..

تأسيساً علىٰ ذلك ، كان أمام الإمام زين العابدين عليه‌السلام أن يُلفت الأنظار إلىٰ امور كثيرة اختلط حابلها بنابلها ، وكان عليه أن يجذّر أمور اُخرىٰ في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدةً ونظاماً ، شريعةً ومنهاجاً ، وليس شعاراً وسوقاً ، أو تجارة واستهلاكاً… ومن هذه الاُمور ما يلي :

١ ـ تركيز ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه فعلاً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، داعياً لتحكيم دين الله ، ولم يخرج (أشراً ولا بطراً) ، بل لم يخرج علىٰ إمرة (أمير المؤمنين يزيد !!) ولم ينوِ تمزيق الصف المسلم أو تفريق جماعة المسلمين ، وبالتالي فإنّه قُتل بسيف أعداء الدين ، وليس (بسيف جدّه) كما كان يروّج الاعلام الرسمي آنذاك ، وبعض المؤرخين المتخلفين اليوم(34).

أي كان علىٰ الإمام زين العابدين عليه‌السلام أن يفضح الشرعية المزيفة التي تقنّع بها الحكم الأموي ، ويكشف زيف شعاراته الإسلامية العريضة ومزاعم انتمائه للنبي والوحي والرسالة الإسلامية ، وبالتالي يوضح معالم الإسلام المحمدي الأصيل والفرق بينه وبين الإسلام المدّعىٰ الملفّع بتلكم الشعارات.. والعناوين واللافتات.

٢ ـ بناء الجماعة الواعية ، أو كما تُسمىٰ القاعدة الجماهيرية الشعبية ، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث أضحت تلك الجماهير لا تفرّق بين المفاهيم ومصاديقها ، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنيها ، أو بين الأصيل والطارىء ، الأمر الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها ، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الاُمور…

٣ ـ تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزّت لدىٰ العامّة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة ، ومن ثمّ توضيح الخرق الفاضح الذي تمَّ خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية ، وبالأحرىٰ فصل الدين عن السياسة ، وإبقاء مقاليد الاُمور بيد الصبيان والغلمان ، يعبثون بمقدرات البلاد والعباد.

٤ ـ العمل بدقّة في مقطع زمني بالغ الحساسية ، يحسب علىٰ الإمام حركاته وسكناته ، ويعدّ عليه أنفاسه وكلماته من جهة ، وموازنة ذلك مع عمل إعلامي وتبليغي بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين ، بعيداً عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق ، من جهة اُخرىٰ…

القتال علىٰ جبهات متعددة :

ومن هنا كان علىٰ الإمام أن يقاتل علىٰ جبهات متعددة ويستخدم لغات متعددة في آن واحد ، وهذا أشقّ ما يتحمله أي زعيم سياسي أو قائد ديني يريد مواصلة مسيرته وتركيز خطّه في خندقين متقابلين :

خندق العمل السري ، وخندق الساحة العلنية المكشوفة التي تتربص به الفرص ، وتحسب عليه الكلمات ، وربما تسعىٰ لاستدراجه والايقاع به وإبعاده عن أصحابه أو إبعادهم عنه ، وخاصة الخلّص المؤثرين فيهم ، لئلّا يتأثروا به ويحملوا رسالته وإشعاعاته ودفين أسراره وتحركاته وأهدافه..

أمام هذا المأزق ، وحيث لم يبقَ في مدينة الرسول ومكة « أكثر من عشرين رجلاً يحبوننا أهل البيت » كما قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام(35) ، ولم يبقَ من خيار أمام الإمام إلّا التحرك بحذر وتؤدة ، ربما لا يُفهمان حتىٰ من قبل بعض المخلصين الذين يريدون أو يرغبون موقفاً علنياً صريحاً تجاه تحركاتهم التي تُحسب عليه ولا تحسب عليهم باعتباره الرمز والمحور وهو المتهم بأنه المحرّك لكلِّ تيار معارض أو متململ ضد السلطة والحاكم.

وبذلك فإنّه أوحىٰ للسلطة بأنه ابتعد تماماً عن العمل السياسي وانصرف للتعبّد والدعاء ، وهو من ناحية اُخرىٰ يسعىٰ إلىٰ تركيز المفهوم الإمامي الذي أُولىٰ أولوياته مواجهة الظالم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر…

وهنا حار المؤرخون فعلاً في تشخيص موقف الإمام من حركات المعارضة وخاصة تلك التي اشتعلت قريباً منه ، أو تلك التي رفعت شعارات شيعية مثل ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي ، أو ثورة المختار وشعارها المعروف : «يالثارات الحسين» !!

فمن قائلٍ إنّه عليه‌السلام تبرّأ من ثورة المختار مثلاً ، إلىٰ قائل إنّه حينما جيء له برأس عبيدالله بن زياد ورأس عمر بن سعد وببعض قتلة الحسين ، خرّ ساجداً لله قائلاً : « الحمدُ لله الذي أدرك ثأري من أعدائي ، وجزى الله المختار خيراً »(36).

ومنهم من قال إنّه لم يُجب علىٰ رسالة المختار ورفض دعوته ببيعته له عليه‌السلام ، وإن ذلك من حقّه ، لكون المختار لم يَستَشِرْه في تحركه أو حركته .

وإنّه كان بعيداً عنه ولم يكن الإمام يعرف مكنون توجهاته ونواياه ، إلىٰ قائل : إنّ المختار لم يتحرك إلّا تحت إشارته وتلقّي الضوء الأخضر منه ، وهكذا بين مشرّق ومغرّب ويمين ويسار.

أمام هذه المفارقات أو المفترقات لابدّ من القول أن الطريق الأفضل لأن يستكمل الإمام كافة أهدافه ، كان عليه توزيع الأدوار وعدم الانجرار إلىٰ لعبة السياسة القذرة ، والاحتفاظ بالقدر المعقول من حلقاتها التي يستفيد منها القائد ، ولكن لا أن يقع في مستنقعها الآسن ، فتحسب عليه بعض شطحاتها والتواءاتها وتجاوزاتها…

هذه الموازنة الدقيقة أو المعادلة الصعبة ، لم يكن من السهل علىٰ الإمام السجاد عليه‌السلام عبورها أو تمريرها ، لاسيّما وانه كان يمارس عمله تحت الأضواء وفي الهواء الطلق وتحت رقابة العيون والجواسيس من جهة ، وبالتالي فلا ينبغي أن يوحي للسلطة أنّه معارض يبغي الحكم والسلطة ، ولكنه من جهة اُخرىٰ يريد التأكيد علىٰ أنّه وصي ووريث ذلك الإمام العظيم الذي ستبقىٰ حرقة قتله تلتهب في نفس كلِّ شريف عرفه وعايشه وعاشره ، فضلاً عن كونه نجله وولده والمفجوع الأول بقتله والمسؤول عن الثأر له ومواصلة طريقه ، فضلاً عن أنّه حامل رسالته ومؤدي أماناته وامتداده والإمام المستخلف من بعده علىٰ البلاد والعباد…

هكذا كان الإمام السجاد يحيا ، وهكذا كانت تمر أيام حياته وساعاته غصّة بعد غصّة ، وألماً بعد ألم ، والمهمة تكبر وتكبر ، وعليه إتمام المشوار وإكمال الشوط إلىٰ النهاية.

فهو من جهة لا يريد المغامرة بتركةٍ ثقيلة عليه أداؤها في تبليغ الرسالة وحمل الأمانة وبلورة أحكام الدين التي سفّهها حكام بني أمية وجعلوها مهزلة وحكاية ، ومن جهة اُخرىٰ يريد تحريك أجواء الصراع ضد الظالمين واستثمار فضاءاته الحرّة لتطويق مساعي الحكام الأمويين في الالتفاف علىٰ جريمتهم في تحريف الدين وخبثهم في احتواء غضب الاُمّة المقدس ضد قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحاب الحسين.

ومن جهة ثالثة : لا يريد أن يُتّهم أنه اعتزل التصدي تشبثاً بالحياة وحرصاً علىٰ حطامها ، بل انه كان يسعىٰ إلىٰ تسفيه تلك التهمة باعتباره أزهد الناس في حياة نتنة (اغتالت حسين السبط واختارت يزيداً)…

وفوق ذلك كلّه أنّه عليه‌السلام لم يرد أن يعطي للمتقاعسين والمتخاذلين عذراً آخر لتبرير قعودهم وغدرهم واحتمائهم بعزلته وانطوائه ، أي اتخاذ ذلك ذريعةً وغطاءً لنكوصهم وجبنهم وتهافتهم علىٰ الدنيا وملذّاتها ، وبالتالي مواصلة طريق الانحراف الذي كان عليه‌السلام أصدق الناس في محاربته ، وأمضاهم في مناجزته ومناوءته…

الحصيلة :

كانت حصيلة هذا العمل الدؤوب والمنهج الحكيم ، والموازنة الدقيقة ، وبعد أن كان الناس قد (ارتدوا إلّا ثلاثة) و (لم يبقَ في المدينة ومكة أكثر من عشرين شخصاً محباً لأهل البيت) ـ كما ذكرنا ـ ، وبعد انقطاع مفتعل موهم عن مسرح الأحداث ، واستثمار موفّق لظروف الزمان والمكان ـ كما سيأتي ذكره ـ كانت الحصيلة أن استطاع الإمام السجّاد عليه‌السلام وعدد قليل من المخلصين الذين تظافرت جهودهم علىٰ نصرته أن يحقق نتائج قياسية ويترك آثاراً عظيمة لا يقدر علىٰ تحقيقها أي زعيم أو قائد يمرُّ بظروفه وتعقيدات المقطع الزمني الحساس الذي عاشه أو تفاعل معه أو انفعل فيه, وكان من هذه الآثار الأرقام التالية :

1. (كان القرّاء لا يخرجون إلىٰ مكة حتىٰ يخرج علي بن الحسين ، ومعه ألف راكب).

2. (كان القوم لا يخرجون من مكة حتىٰ يخرج علي بن الحسين سيد العابدين).

3. (قال الزهري : نعم.. لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه ، والله ما علمتُ له صديقاً في السرِّ ، ولا عدوّاً في العلانية ، فقيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأني لم أرَ أحداً وإن كان يحبه إلّا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده ، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلّا وهو لشدّة مداراته له يداريه)(37).

4. حج هشام بن عبدالملك فلم يقدر علىٰ استلام الحجر الأسود ، من شدّة الزحام فنُصب له منبر فجلس , إذ أقبل علي بن الحسين عليه‌السلام وعليه إزار ورداء ، فجعل يطوف ، فإذا بلغ موضع الحجر تنحّىٰ الناس حتىٰ يستلمه هيبة له وإجلالاً , الأمر الذي أزعج هشام ، فسأل متجاهلاً له : من هذا ؟ فكان جواب الفرزدق في قصيدته المعروفة التي دفع ضريبتها بعد فترة وجاء فيها :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته            والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلُّهم                  هذا التقي النقي الطاهر العلمُ

إذا رأته قريش قال قائلها                    إلى مناقب هذا ينتهي الكرمُ

وليس قولك من هذا ؟ بضائره             العُرب تعرفُ من أنكرت والعجمُ (38)

* (وقال القرشي لابن المسيّب : … ثم غاب عني فترة حتىٰ أتيتُ مكة ، فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعتُ لأنظر فإذا صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هو زين العابدين…)(39) .

* أثناء ثورة المدينة التي تفجّرت ردّاً علىٰ مجون الأمويين وقتلهم لآل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزع مروان كأشدّ ما يكون الفزع مع عياله إلىٰ بيت الإمام زين العابدين ؛ لأنّ الثورة كانت تستهدفه ، فضمّ الإمام نساء الأمويين إلىٰ حرمه ، وقيل أنّه كفل أربعمائة امرأة مع أولادهن وضمهنّ إلىٰ عياله حتىٰ قالت واحدة منهنّ : إنّها ما رأت في دار أبيها من الراحة والعيش الكريم مثل ما رأته في دار الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام (40).

* وصفه عمر بن عبدالعزيز قائلاً : (إنّه سراج الدنيا وجمال الإسلام) (41).

* و (لمّا مات شهد جنازته البرّ والفاجر وأثنىٰ عليه الصالح والطالح ، وانهال الناس يتبعونه حتىٰ وضعت الجنازة)(42).

المبحث الثاني

ظاهرة البكاء عند الإمام زين العابدين عليه‌السلام

بين البكاء والتباكي :

بين البكاء والتباكي الهادفين خيط رفيع لا يمكن تجليته واكتناه فلسفته إلّا بفهم الهدف من البكاء أولاً ، والتباكي ثانياً.

فإذا كان الهدف من البكاء هو تربية النفوس وتجلية الصدأ الذي يرين عليها جرّاء زحمة الحياة وقساوة العيش ، ومن ثم توجيه البكاء إعلامياً للتأثير علىٰ الناس كشكل من أشكال العمل السياسي أو الرسالي الهادف النبيل ، يأتي هنا ممدوحاً ومندوباً ، وهو غير الجزع والضعف والنفاق والرياء الذي له أهداف هابطة اُخرىٰ.

أي أنّه في الدائرة الاُولىٰ عاطفة نبيلة يمكن أن تنتزع من الإنسان دواعي قسوة القلب وغلظته وشدّته ، وتحيله أكثر شفافية وسماحة ورقّة من جهة ، وهو عمل تربوي لتوجيه النفوس وتربيتها وتهذيب مشاعرها وأحاسيسها من جهة اُخرىٰ.

وهكذا التباكي هو الآخر ، إمّا أن يكون تمثيلاً أجوف لا هدف وراءه ولا جدوىٰ منه ولا طائل ، وإمّا أن يكون مواساةً للباكي في صدق بكائه وتصديق انفعاله وتفاعله مع حدث ما أو مصيبة ما ، أو يكون مشاركةً إنسانية ووجدانية تواسي المبكى عليه في عظمة تضحيته ونبل إقدامه  وهيبة موقفه ، وبالتالي فإنّ الدائرة الاُولىٰ غير الثانية بالتأكيد..

ومن هنا نلمس الفرق بين الندبة المعروفة :

ويصيح واذلّاه أين عشيرتي        وسراة قومي أين أهل ودادي

وبين الأخرى التي تفجّر الدموع دماً لا تطلبوا قبر الحسين بشرق أرضٍ أو بغربِ فدعوا الجميع وعرجّوا فمشهده بقلبي  تفسير ظاهرة البكاء عند الإمام عليه‌السلام :

وكما ارتبك بعض المؤرخين في تفسير دور الإمام السجاد عليه‌السلام في ريادة مشروع المعارضة للسلطة الأموية ، وأخفقوا في تفسير مواقفه الدقيقة لبلورة الاتجاه المناهض لها ، ارتبك بعضهم الآخر في تفسير ظاهرة البكاء المعروفة لديه ، وراحوا يشرّقون حولها ويغرّبون أيضاً.

نعم ، اتجه بعضهم إلىٰ تحليل الظاهرة علىٰ أنها فجيعة ولدٍ بأبيه وأخوته فقط ، وبالتالي فأنها لا تعدو كونها عاطفةً جياشةً لا يمكن التحكّم بانفجارها وتدفّقها في لحظات الانفعال الوجداني الذي لا يُكبح.. فيما اعتبرها آخرون أُسلوباً سياسياً ذكياً لاستنهاض الناس وتذكيرهم بالظلامة الكبيرة التي لحقت بأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبين هذا التفسير وذاك ، راح المؤرخون يحلّلون ويكتبون ويبحثون ، وكلّ من زاويته أو فهمه للبكاء والتباكي ، فمن حزين مفجوع ينفّس ببكائه عن غصّة وألم دفينين لا يستطيع منهما فكاكاً ، إلىٰ بكّاءٍ متباكٍ ينوي ببكائه وتباكيه إذكاء نار الغضب المقدس ضد الظالمين الذين تجرأوا علىٰ ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه والصفوة من خيرة خلق الله بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن هنا فلا يستطيع المؤرخ أو المحلل السياسي تفسير ظاهرة البكاء لدىٰ الإمام السجاد تفسيراً علمياً رصيناً إلّا من خلال دراسة الظروف التي عاشها عليه‌السلام والفضاء الإعلامي والسياسي الذي كان يتنفّس فيه ، وإلّا شطّ به التحليل بين أقصىٰ اليمين وأقصىٰ اليسار ، وجنح في تفسير هذه الظاهرة وفق ظروف اُخرىٰ ، ربما نفسية أو اجتماعية ، أو سياسية ، هي في الحقيقة ، غير تلك التي يجب أن تفسّر من خلالها أو علىٰ ضوئها…

فحين نفهم مثلاً أنّ طائفةً كبيرةً من الناس كانت تجهل الدواعي والأسباب التي دفعت الإمام الحسين عليه‌السلام لخوض تلك المعركة غير المتكافئة ، يمكن أن نمسك بخيط واحد من خيوط التفسير العلمي لبكاء الإمام السجاد عليه‌السلام.

وحين ندرك أن الاِعلام الأموي كان يفسّر خروج الإمام الحسين عليه‌السلام ضد الطاغية يزيد بأنّه صراع علىٰ السلطة ، وأنه بخروجه إنّما شقّ عصا الطاعة وفرّق الجماعة ، وأن الصراع بين الحسين ويزيد إنّما هو صراع شخصي تفجّر بين عائلتين أو بيتين يعتدُّ كل منهما بتأريخه وأمجاده ، وهما البيت الاُموي والبيت الهاشمي ، ويعتقد كلّ منهما بوراثته لتراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تكون الكارثة أكبر والرزيّة أدهىٰ علىٰ الإمام السجاد عليه‌السلام ، لأنّه سيواجه صعوبة بالغة في توضيح هذا المشتبك المؤلم ، ولو عِبر الدموع الغزيرة والنحيب المتواصل الذي أصبح إحدىٰ خصال نفسه الزكية ، وطابعاً لروحه الطاهرة.

ولما كان إعلام السلطة آنذاك هو الحاكم والمهيمن علىٰ عقول الناس وأفكارهم ، وللحدِّ الذي يواجه به أحدهم الإمام الحسين عليه‌السلام قائلاً (ياحسين ألا تتقي الله : تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الاُمة)(43).

وأكثر من ذلك حين يواجه المرء نداءات تخرج من هنا وهناك في أرض المعركة ، تقول (الزموا طاعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرَقَ من الدين وخالف إمام المسلمين) وفي رواية اُخرىٰ (أمير المؤمنين)(44).

وحين يسمع عفوية ذلك الشيخ الكبير الذي لا يعرف من الامور شيئاً ، فراح يواجه السبايا عند دخولهم الشام بقوله : (الحمدُ لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكنَ منكم أمير المؤمنين يزيد)(45).

تكون الرزية أكبر علىٰ الإمام السجاد عليه‌السلام ، ويكون نشيجه هو المتنفّس الوحيد للتعبير عن الألم والمرارة ، وهو تحت مخالب اللئام وصليل سيوفهم وقعقعة رماحهم.

المواجهة أو الصبر :

في هذا الجو الاِعلامي الماكر ، ومن هذا الفضاء الملبّد بكل تهويمات التضليل ، والتكتم والتعتيم علىٰ أعظم ثائر وأعظم ثورة أرادت أن تعيد الحق إلىٰ نصابه ، وتستنهض الضمائر الميّتة وبتضحية قلّ نظيرها في التاريخ البشري انتصاراً للدين المضيّع والحدود المستباحة ، كان علىٰ الإمام السجاد أن ينتهج أحد خيارين :

الأول :

هو المواجهة العلنية الصريحة ، والتنديد المباشر باجراءات السلطة الحاكمة وفضحها ، أي إقدامه عليه‌السلام علىٰ عملية استشهادية اُخرىٰ تلحقه بأبيه وإخوته ، لا تكلّف خصومه أكثر من ضربة سيفٍ واحدة لا يتردّد عن القيام بها جلواز واحد من جلاوزة السلطة يتقرب بها إلىٰ الأمير ، دون أن يرفّ له جفن أو يحاكمه ضمير ، وفي أُمّة ميتة لم يبقَ فيها للدم حرمة ولا للتضحية معنىٰ أو صدىٰ.. وبالتالي إيقاف أو إنهاء الدور الرسالي المهمّ الذي يسعىٰ الإمام السجاد عليه‌السلام إلىٰ تحقيقه من خلال كشف تلك الغيوم وتبديدها…

الثاني :

هو الصبر علىٰ ذلك الضيم أو الحيف الذي شمله مع عمّته العقيلة زينب عليها‌السلام وتمرير المرحلة بالعضّ علىٰ الجرح بنيّة مواصلة مراحل الكشف المطلوبة في كل عملية تغييرية يُراد لها أن تعيد الاُمّة المضللة إلىٰ وعيها ، أو تعيد الوعي إلىٰ الاُمّة المغلوبة علىٰ أمرها ، المسلوبة إرادتها المغيّب ضميرها ، وفي ذلك الهوس الإعلامي الصاخب ، والمناخ السياسي الملوّث.

من هنا كان علىٰ الإمام أن يختار طريقاً أو منهجاً يحقّق له هذا الهدف الكبير دون المساومة علىٰ مبادئه أو التفريط بها ، أو القفز عليها ، فاختار طريق البكاء أولاً ، ثم طريق الدعاء الذي سنأتي علىٰ ذكره في الفصل اللاحق إن شاء الله.

ماذا حقق البكاء ؟

وعن طريق البكاء هذا المشفوع بالدعاء طبعاً ، استطاع الإمام عليه‌السلام أن يحقق الأغراض التالية :

١. تقريع أو استنهاض الضمير النابض في الاُمّة والذي لم يمت بعد ، أي مخاطبة الفطرة السليمة ، من خلال دموع ساخنة ونشيج صادق لا يمكن تفسيره ببساطة علىٰ أنّه مجرد عواطف فائرة علىٰ فجيعةٍ مرّت وكارثة حلّت ، لا سيّما وانه من إمام يعرف أكثر من غيره القضاء والقدر وحتمية الموت وطوارق السُنن…

٢.استثمار جميع المواقف والمناسبات التي تُذكّر الناس بالجريمة الكبرىٰ التي ارتكبت بحق سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة ، وعبر بكاء حارّ صادق يتفجّر أمام قصاب مثلاً يذبح شاته فيسقيها ماءً قبل ذبحها ـ كما مرَّ ـ أو أمام ضيف فقد عزيزاً فغسّله وكفّنه ـ كما ذكرنا ـ أو علىٰ مائدة إفطار يُقدّم فيها الماء للعطاشىٰ والضامئين ويكون شعارها مثلاً :

«شيعتي ما إن شربتم عذب ماءٍ فاذكروني أو سمعتم بذبيح أو قتيل فاندبوني»

وغير ذلك مما كان يذكّر بتجاوز الحدود ، وقساوة القلوب ، أي قلوب القتلة التي كانت كالحجارة أو أشدُّ قسوة ، وهذا يعني تركيز الشعور بالإثم الكبير الذي ارتكب في طفوف كربلاء والذي صار عنوانه : « اللهمَّ العن أُمّة قتلتك ، والعن أُمّة ظلمتك ، والعن أُمّة شايعت وبايعت علىٰ قتلك ، والعن أُمّة سمعت بذلك فرضيت به »

٣ ـ إيهام السلطة الحاكمة وعيونها وأزلامها ومرتزقتها أنّ المفجوع ليس لديه إلّا البكاء ، وأنّه ليس عملاً جُرمياً يبرّر للسلطة اتخاذ إجراءٍ قمعي لمواجهته ، فكيف إذا كان المفجوع باكياً فعلاً وليس متباكياً ، كما هو حال الإمام (عليه‌السلام )

٤ ـ وحين تختلط دموع البكاء مع تراب قبر المتوفّىٰ ، وهو ما كان يفعله الإمام حين كان يُطيل سجوده وبكاءه علىٰ التراب الذي احتفظ به من ثرىٰ قبر والده ومسحه بخاتمه الذي أصرّ علىٰ لبسه والمحافظة عليه مع الشعار المنقوش عليه والذي كان يردده عليه‌السلام : « خزي وشقي قاتل الحسين بن علي »(46) ، تكون رسالة البكاء أكثر تعبيراً وأمضىٰ أثراً في إذكاء الوجدان المعذّب والضمير الحي وتفجيرهما ضد الظلم والظالمين.

 ٥ ـ أما حين يمتزج البكاء مع الدعاء ، الذي سنأتي علىٰ ذكره ، وتتكامل لوحة الرفض المقدّس عبر العاطفة والفكر ، وعبر العقل والقلب ، يكون الهدف من البكاء أكثر تجليّاً وسطوعاً ، وهذا ما كان يُلاحظ عند الإمام عليه‌السلام وهو يخرُّ ساجداً علىٰ حجارة خشنة في الصحراء يوماً ويشهق شهيقاً مرّاً مردّداً : « لا إله إلّا الله حقاً حقّا.. لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّا.. لا إله إلّا الله إيماناً وصدقا.. » ثمّ يرفع رأسه وإذا بلحيته ووجهه مخضبان بدموع عينيه ، فيقول له أحد أصحابه : أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقلّ ؟! ويأتيه الجواب المارّ الذكر ، ليكون دالّة معبّرة عن حزنٍ ليس كمثله حزن ، وبكاء ليس كمثله بكاء…

إنّه بوضوحٍ كاملٍ حزنٌ علىٰ رمزٍ مقدّس بكت عليه أهل الأرض وملائكة السماء ، وليس حزن ولدٍ علىٰ أبيه قط ، وإنه حزنٌ علىٰ فجيعةٍ بدين ، أي أنّه حزن علىٰ دين مضيّع صيّره الصبيان لعبةً يعبث بها غلمان بني أمية ، ودمية تتلاقفها أكفُّ أحفاد أبناء الطلقاء…

إنّه باختصار شديد ، رسالة صامتة شديدة اللهجة ، ودموع حرّىٰ ناطقة ، وبيان صارخ مشحون بعواطف البكاء النبيلة ممزوجة بثرىٰ تراب طاهر ، مشفوعاً بتأوّهات خالصة أرادت وتريد أن تواجه الظالم بأفصح ما يكون التعبير عن الرفض والغضب المقدّس وأقدس ما يكون الإفصاح عن الثورة والتمرّد.

إنّه سلاح ماضٍ لكشف الجرم الكبير وفضحه والدعوة لقطع اليد التي نفّذته ، وأمام من ؟ وبدموع من ؟

بدموع الثائر المفجوع الذي لم يستطع الاستشهاد في اليوم العظيم ، لمرضٍ أقعده ، وعلَّة ما كان يستطيع الوقوف علىٰ قدميه بسببها ، فشاءت إرادة الله أن تحتفظ به ليكشف خيوط الجريمة الكبرىٰ وهو يبكي وينشج ويقول :

وهنّ المنايا أي وادٍ سلكته       عليها طريقي أو عليّ طريقها

وكلاً ألاقي نكبةً وفيجعةً        وكأس مرارّات ذعافاً أذوقها(47)

        ثم يختتمها بدعاء دامع حزين : « يا نفس حتّامَ إلىٰ الدنيا سكونك ؟ وإلىٰ عمارتها ركونك ؟ أما اعتبرت بمن مضىٰ من أسلافك ؟ ومن وارته الأرض من أُلّافك ؟ ومن فجعتِ به من إخوانك ؟ ونُقل إلىٰ الثرىٰ من أقرانك ؟ فحتّامَ إلىٰ الدنيا إقبالك ، وبشهواتها اشتغالك وقد رأيتِ انقلاب أهل الشهوات ، وعاينتِ ما حلَّ بها من المصيبات… »(48).

نعم ، إنّه البكاء الهادف ، والنشيج المدوّي ، والدموع الناطقة ،

رسالة صامتة شديدة اللهجة صارخة الاحتجاج ، محبوكة المتن ، متينة السند.. إنّه بكاء أفقه أهل زمانه وأعلمهم وأورعهم وأتقاهم ، حفيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وابن سبطه ، المفجوع بقتله ، الشاهد علىٰ دمه ، حامل رسالته ومبلّغ أمانته ووصيه ووريثه والداعي إلىٰ حقّه.. إنّه بكاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

المصادر

القران الكريم

1. البلد الأمين / الكفعمي : ٣٢٠. والصحيفة ٤ : ٢٩.

2. الكافي ٦ : ٤٧٤ / ٦ ، عيون اخبار الرضا ٢ : ٥٦.

3.الإمام السجاد / حسين باقر : ١٠٢.

4.الإمام زين العابدين / أحمد فهمي : ٦٤.

5.الإمام السجاد عليه‌السلام / حسين باقر : ٦٣.

6.الإرشاد ٢ : ١٢٠.

7. الاحتجاج ٢ : ١٣٢.

8. الصحيفة السجادية الكاملة : ٢٢ الدعاء رقم (٣).

9. الكامل في التاريخ / ابن الاَثير ٣ : ٢٠٤ ، ٢١٧.

10.الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ١١٦.

11.الكامل في التاريخ ٣ : ٤٣٥.

12.الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٨٧.

13.المهلبي ١ : ١٢٠.

14.المناقب ٤ : ١٨٠ ـ ١٨١.

15.الارشاد / المفيد : ٢٣١. وشرح الأخبار ٣ : ٢٥٠. وسير أعلام النبلاء ٤ : ٤٨٦. وأشار ابن سعد في تاريخه أيضاً قائلاً : كان علي بن الحسين مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك ثلاث وعشرون سنة ، لكنه كان مريضاً ملقىٰ علىٰ فراشه ، قد نهكته العلّة والمرض. ولما قُتل والده ، قال الشمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا الغلام فقال بعض أصحابه : سبحان الله ، تقتلون فتىً مريضاً لم يُقاتل فتركوه..» ، راجع كتاب الاتحاف بحب الأشراف / الشيخ عبدالله بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي : ١٤٣ دار الذخائر للمطبوعات.

16.بحار الأنوار ٤٦ : باب ٥ ـ ٧٨.

17.بحار الأنوار / المجلسي ٤٦ : باب ٥ ـ ٢١ ، معلوم أن الزهري من علماء الدولة.. ويبدو أن تحليله للحب والكراهية هنا قد جنح في مالا يمكن تفسيره إلّا بمعنىً آخر لا نرىٰ ضرورة للتفصيل فيه ، لكونه لم يخرج إلّا من موقف الزهري من الإمام عليه‌السلام ، والزاوية التي كان ينظر إليه من خلالها.

18.تاريخ الطبري ٤ : ٣٣١.

19.تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، دار صادر ـ بيروت.

20.تذكرة الخواص : ٢٩١.

21.تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

22.ثورة زيد / ناجي الحسن : ٣٠ ـ ٣١. وجهاد الشيعة / الدكتورة الليثي.

23.جميع هذه النصوص وردت في كتاب «الكامل في التاريخ ، ابن الاثير ٣ : ٤٥» وفيها إضافة خلاصتها : «فقال لها ـ ابن زياد ـ هذه شجاعة لعمري لقد كان أبوك شجاعاً. فقالت ما للمرأة والشجاعة..». وجاءت كلمة (سجّاعة) بدل كلمة (شجاعة) ، وكلمة (سجّاعاً) بدل كلمة (شجاعاً) في مصنفات الشيخ المفيد البغدادي ١١ : ١٦ طبعة المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.

24.جهاد الإمام السجاد / محمد رضا الحسيني الجلالي : ٥١ عن كتاب «تسمية من قتل مع الحسين عليه‌السلام من أهل بيته وأخوته وشيعته» الذي جمعه المحدّث الزيدي الفضيل بن الزبير ، الأسدي، الرسّان، الكوفي من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، والكتاب مذكور في الأمالي الخميسية للمرشد بالله ١ : ١٧٠ ـ ١٧٣. والحدائق الوردية / المهلبي ١ : ١٢٠.

25.حياة علي بن الحسين عليه‌السلام / كاظم جواد السبتي : ٣٢٠. ونظرية الإمامة / صبحي الصالح ٣٤٩.

26. راجع : تاريخ الطبري ٤ : ٢٨٩ ، والقول هذا منسوب إلىٰ يحيىٰ بن سعيد الذي أرسله أمير مكة لإرجاع الحسين وثنيه عن التوجه إلىٰ العراق.

27.رجال الكشي : ١٢٩ ـ ١٣٠ / ٢٠٧.

28.رجال الكشي : ١١٧ ـ ١١٨ / ١٨٨ عن سعيد بن المسيّب.

29.رجال الكشي : ١٢٧ / ٢٠٣ عن عمر بن علي بن الحسين. ومناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٧.

30.راجع جهاد الشيعة / الدكتورة الليثي : ٢٩.

31.راجع : رجال الشيخ الطوسي ـ باب أصحاب علي بن الحسين عليه‌السلام.

32.ربيع الأبرار ١ : ٣٣٤ / ٧٣.

33. راجع : نظرية الإمامة / صبحي الصالح : ٣٤٩ ، وحياة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : ٣٢٠ ، وثورة زيد / ناجي حسن : ٣٠ ـ ٣١ ، والفكر الشيعي والنزاعات الصوفية / الشيبي : ١٧. والصلة بين التصوف والتشيع : ١٠٤ و ١٠٧.

34. سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٨٧.

35.سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٨٩. ومختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٢٤٠.

36.سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٩٤.

37.شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٧٤.

38.شذرات الذهب ١ : ١٠٤.

39. لاحظ كلمة (رثث) في كتب اللغة. اُنظر المغرب للمطرزي ١ : ١٨٤. والقاموس ١ : ١٦٧. ولسان العرب ٤ : ٤٥٧.

40.من ندبة طويلة له عليه‌السلام انظر الصحيفة الخامسة السجادية للسيد محسن الأمين دعاء (١٠٩). والبحار / المجلسي ٧٨ : ١٥٤. وينابيع المودّة / الحافظ القندوزي الحنفي : ٢٧٣. وكشف الغمة / الاربلي ٢ : ٣٠٩.

 41. مقدمة الصحيفة السجادية / السيد محمد باقر الصدر : ٦.

42. مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٨٢.

43. مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب المازندراني ٤ :

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى